عصر القرف.. المؤثرون واقتصاد السوق في سوريا

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

شهدت مدينة حلب في الأسبوع الماضي انطلاق مؤتمر “سكريبت” لصناع المحتوى والمؤثرين، برعاية وزارة الإعلام السورية، غير أن هذا المؤتمر، بدل أن يُنظر إليه بوصفه مبادرة ثقافية أو اقتصادية، أثار موجة من الاستياء بين السوريين، ربما أكثر ما أثار الغضب كان مشهد أحد هؤلاء “المؤثرين” من الشباب العشريني، محاطًا برجال الأمن الذين وُضعوا لحمايته من جمهور المعجبين، وكأننا أمام نجم عالمي.

بالنسبة لكثيرين، بدا هذا المشهد “كاريكاتيريًا” بل مستفزًا، لأنه منح التفاهة مكانة رسمية غير مسبوقة.

لكن كيف يمكن قراءة هذا الحدث؟ وهل هو مجرد مشهد عابر من مشاهد الاستعراض السوري، أم أن خلفه ما هو أعمق؟

الحقيقة أن سوريا، بعد أكثر من عقد من الحرب، تتجه بوضوح نحو نموذج اقتصادي جديد، قائم على فلسفة جديدة، السلطة كما عبرت هي نفسها وفي عدة مناسبات، تضع نصب أعينها تجارب بلدان كسنغافورة أو السعودية في مرحلة انفتاحها، حيث تُستخدم الثقافة الرقمية والسياحة كمحركات للنمو، في مثل هذا النموذج، يصبح للمؤثرين على وسائل التواصل دور أساسي في صناعة الصورة والترويج للبلد، مهما بدا محتواهم تافهًا، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها: المؤثرون، بأعداد متابعيهم الضخمة، قادرون على تحريك المال والسياحة أكثر مما تفعله قصائد الشعراء أو نصوص الفلاسفة.

ولعل ما يزيد من وطأة هذه الحقيقة أن عالمنا كله أصبح يعيش حالة فراغ فكري، فمثلًا لم يعد في فرنسا اليوم وهي بلد الآداب والفنون، شاعر بحجم بودلير أو رامبو، ولا فيلسوف بثقل سارتر أو فوكو، حتى المفكرون الذين بقوا (أمثال إدغار موران وألان باديو) هم شيوخ يمثلون بقايا زمن مضى، أما في العالم العربي، فغياب شخصية شعرية بمستوى محمود درويش أو نزار قباني يعكس هذا الانطفاء الثقافي العام، نحن نعيش في عصر الاستسهال والسرعة، حيث المنصات الرقمية تبتلع أي مشروع عميق، وتحوّل كل شيء إلى “محتوى” قابل للاستهلاك السريع.

على المستوى السوري، الوضع أكثر وضوحًا، التجربة القومية الاشتراكية انتهت إلى نتائج كارثية جعلت السوريين ينفرون من خطابها، اليسار اختفى تمامًا من المشهد وتحول إلى مجرد مجموعات صغيرة معزولة، والتيارات الإسلامية (مهما حاولت الظهور بمظهر معتدل) محاصرة بوصمة الإرهاب، وغير قادرة على تقديم مشروع جامع، ما يبقى إذًا هو اقتصاد السوق وحده، بأخلاقياته وسلعه وصوره، باعتباره المشروع الوحيد الذي تراه السلطة ممكنًا، قد نتفق أو نختلف مع هذه الرؤية، لكنه الواقع.

هنا يبرز السؤال الثاني: إذا كان السوق هو مرجعيتنا الجديدة، فهل يعني ذلك أن هؤلاء “المؤثرين” بتفاهتهم أو حتى بقرفهم، هم بالفعل أبطال المرحلة؟ الجواب المؤلم: نعم، هذا هو منطق السوق، حيث يُكافأ ما يجذب النظر لا ما يُغني الفكر.

في هذا السياق، يصبح مهمًا أن نستعيد عمل المحللة النفسية الفرنسية جوليا كرستيفا، وكتابها الشهير “essai sur l’abjection” (مقالة حول المقرف أو سلطة المنبوذ). كرستيفا درست في هذا الكتاب كيف يمتلك “المقرف” (l’abject) قوة جذب خاصة، لأنه يوقظ فينا ما نريد إبعاده أو طرده، المقرف ليس مجرد شيء نرفضه، بل ما يشدّنا ويستدرج فضولنا، من هنا نفهم كيف أن القرف قد يتحول إلى استراتيجية تسويقية وفنية في آن واحد.

الأمثلة من العالم كثيرة، لعل أشهرها فستان ليدي غاغا المصنوع من اللحم النيء، صحيح أن غاغا قدمته كرسالة سياسية، لكن منظمي الحدث كانوا يعرفون أن سر النجاح يكمن في الصدمة البصرية، في هذا المزج بين الجمال والاشمئزاز، الأزياء العالمية بدورها تبني منذ عقود على هذه الفكرة: ملابس لا يمكن ارتداؤها فعلًا، لكنها قادرة على جعل اسم الدار محط أنظار الجميع.

في السياق العربي، ينسحب الأمر ذاته على مشاهير “تيك توك” وغيرهم، المؤثر التركي الذي يرقص بكرشه أمام المطاعم بشحاطة بلاستيكية، أو السيدة المصرية التي تأكل الدجاج بطريقة مقززة، أو تلك التي تطبخ في غرفة نومها، كل هذه المشاهد تبني شهرتها على القرف، لأنها تعرف أن القرف يجذب ويضاعف المتابعين، بل إن الظاهرة وصلت إلى أقصى حدودها في الصين، حيث لقيت شابة مشهورة مصرعها في أثناء بث مباشر بسبب الإفراط في جلسات الأكل المقزز، التي كانت مصدر ربحها الأساسي، ضمن هذا الإطار نفهم سر نجاح ذلك الشاب الحلبي الذي اشتهر بكلمة “تفه” مع جمل أخرى أكثر بذاءة.

إننا إذًا أمام ما يمكن أن نسميه فعلًا بـ”عصر القرف”، حيث التفاهة والاشمئزاز لم يعودا هامشًا، بل أصبحا جزءًا من البنية الاقتصادية والثقافية المعاصرة، في سوريا هذا يلتقي مع توجه السلطة نحو اقتصاد السوق والانفتاح السياحي والخدمي، قد يثير الأمر السخرية أو الغضب، لكنه في النهاية واقع: السوق لا يكترث بالقيمة الفكرية، بل بما يحقق الانتباه والتداول.

ويبقى السؤال الأخير، الذي نوجهه بقدر من المرارة: أليست هذه هي النتيجة الطبيعية لمن يطالبون باقتصاد حر واقتصاد سوق؟ إذا كان الجواب نعم، فهذا هو الاقتصاد الحر إذًا… فعيشوه.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة