جمهورية “عمو الشيخ”

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

لم يعد مستغربًا في سوريا اليوم أن يتحول “الشيخ” إلى المرجع النهائي والحاسم في شؤون الحياة العامة بحيث لا تُتخذ القرارات الإدارية أو الخدمية أو الاقتصادية أو حتى القضائية إلا بعد نيل “بركته” وموافقته، والأمر لم يعد مجرد نفوذ اجتماعي تقليدي، بل أصبح بمثابة نظام موازٍ يحكم مؤسسات الدولة ويعلو على سلطتها القانونية، حتى ليبدو أن سوريا باتت تتدحرج نحو ما يمكن تسميته بـ”جمهورية عمو الشيخ”!

هذه الظاهرة ليست جديدة تمامًا في التاريخ السياسي السوري،  فمنذ عقود استخدم النظام السابق علاقات الزعامة التقليدية لبسط السيطرة على الريف والهوامش الاجتماعية، واستعان بشيوخ العشائر ورجال الدين والوجهاء لضبط المجتمعات المحلية وتسهيل عمليات التجنيد أو التصويت أو حتى تمرير السياسات الاقتصادية، لكن ما يميز اللحظة الراهنة هو أن “الشيخ” لم يعد مجرد وسيط أو واجهة، بل صار المرجعية الخفية العليا التي تحدد مسار أي إجراء حكومي في مناطق عديدة من البلاد في انتهاك فظ لمبدأ المواطنة بالدولة الحديثة، يُفترض أن يكون بموجبه المواطنون متساوين أمام القانون، بصرف النظر عن دينهم أو قوميتهم أو موقعهم الاجتماعي، لكن في “جمهورية عمو الشيخ” يتبدد هذا المبدأ، ويصبح “الشيخ” وليس النص القانوني هو المرجع وصاحب القرار!

لا يمكن الحديث عن دولة قانون حين تتوارى المؤسسات الرسمية خلف سلطة غير منتخَبة وغير خاضعة للمساءلة، وحين يصبح “الشيخ” هو “المرجع الأخير”، فإن القاضي أو المدير العام أو المحافظ يتحول إلى مجرد موظف منفذ لا صاحب قرار، وهذا يخلق منظومة مزدوجة، مؤسسات ظاهرية تصدر القرارات، ومراكز قوة فعلية تتخذها في الخفاء.

بهذا المعنى، يتراجع مفهوم سيادة القانون ليستبدل بسيادة الأشخاص، والأخطر من ذلك أن هذا النمط يشرعن الاستثناء الدائم ويحوّل خرق القانون إلى قاعدة يومية، لأنه ما دام “الشيخ” هو صاحب الكلمة الفصل، فإن أي نص تشريعي قابل للتعطيل بمجرد كلمة منه.

يدرك السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن مجتمعهم أصيب بتصدعات عميقة نتيجة الحرب والأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء، فضلًا عن تفجير الكنيسة وما حمله من أبعاد طائفية وحساسيات خطيرة، في مثل هذه الأجواء يفترض أن تعمل الدولة على ترميم النسيج الاجتماعي وتعزيز الثقة بين المكوّنات عبر سياسات عادلة ومؤسسات محايدة، لكن “جمهورية عمو الشيخ” تفعل العكس تمامًا، فهي تعمّق الإحساس بالغبن والتمييز، وتُشعر كل مكوّن بأنه مضطر للاحتماء بمرجعيته الخاصة باعتبار أن الدولة لم تعد ضامنًا حياديًا لحياته وحقوقه، وبالتالي فإن إناطة سلطة القرار بـ”الشيوخ” يلغي عمليًا مفهوم الدولة والآليات القانونية لإدارة مؤسساتها.

تسمية “الجمهورية” لا تستقيم إلا حين تستند إلى عقد اجتماعي جامع يساوي بين المواطنين في الحقوق والالتزامات وتحتكم إلى الدستور والقانون، أما حين تصبح “الجمهورية” رهينة قرار “الشيخ”، فإنها تتحول إلى حكم شخصي لا مؤسسات فيه، وإلى ولاءات جزئية تتقدّم على الولاء للوطن، وبالتالي فإن استمرار هذا النهج سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من عزلة الدولة وانهيار ثقة الناس بمؤسساتهم، وسيجد السوريون أنفسهم أمام خيارات مريرة، إما الانتماء إلى جمهوريات صغيرة تحكمها المرجعيات التقليدية، أو العيش كمواطنين من الدرجة الثانية بلا حقوق ولا ضمانات.

السؤال الجوهري الذي يواجه السوريين اليوم هو: هل يريدون دولة وطنية جامعة أم “جمهورية عمو الشيخ”؟ الجواب يمر حتمًا عبر إعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة وسيادة القانون، فلا استقرار ولا سلم أهلي يمكن أن يتحقق إذا لم يشعر كل مواطن أن حقه مصون بالقانون، وأن ملاذ حمايته هو القانون والقضاء المستقل، فالمطلوب إذًا هو إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حيادية، وضمان خضوع الجميع للقضاء المستقل، وتجفيف منابع السلطة الموازية التي تمارسها المرجعيات غير الرسمية، عندها فقط يمكن الحديث عن مصالحة وطنية حقيقية ترمّم الجراح وتمنع إعادة إنتاج الدكتاتورية والانقسام المجتمعي.

وإذا كانت “جمهورية عمو الشيخ” تعكس هيمنة المرجعيات الدينية السلفية المتطرفة على القرار العام للدولة، فإن الوجه القميء الآخر للمشهد يتمثل في توظيف ظاهرة “المطبلين” و”المؤثرين” واستثمارها ضمن عملية ممنهجة لتلميع شخوص وسياسات السلطة، وإغراق المجتمع بفعاليات ومؤتمرات وأنشطة لا تقدم أي قيمة مضافة للواقع الكارثي للبلد، بل على العكس، تشكّل عبئًا إضافيًا، ماليًا وأخلاقيًا، عليه.

“جمهورية عمو الشيخ” ليست مجرد توصيف ساخر للواقع السوري الراهن، بل هي تشخيص دقيق لانحراف خطير يقود البلاد نحو المزيد من التفكك، فإما أن يستعيد السوريون دولتهم كإطار جامع قائم على القانون والمواطنة، وإما أن يستسلموا لواقع سلطات موازية تُشرعن الانقسام وتغذيه، والخيار واضح تمامًا، لكن الطريق إلى تطبيقه يحتاج إلى إرادة سياسية وشجاعة جماعية تعلن رفضها لهذا المسار الكارثي وتضغط نحو حلول تتجاوز الأطر الضيقة، التي تحبس السلطة نفسها وتحبس معها المجتمع السوري فيها، نحو أفق وطني أرحب وأشمل.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة