حتى لا يُبنى استبداد جديد

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

طوال عقود، عانى السوريون من تركز مفرط للسلطة جعل العاصمة المركز الوحيد للقرار، فيما بقيت المحافظات الأخرى مجرد ملحقات إدارية تنفذ ما يُملى عليها من عل.

هذا النموذج لم يقتل الروح الوطنية السورية فحسب، بل أثبت فشله في بناء تنمية متوازنة، وفي تحقيق العدالة بين المكونات، وكان مدخلًا للاستبداد الذي صادر إرادة المجتمع وحوّل مؤسسات الدولة إلى أدوات طيّعة بيد السلطة الحاكمة.

اليوم مجددًا، وبعد صدور عدة مؤشرات كارثية لإمكانية تكرار المأساة والتأسيس لطغيان جديد، ابتدأت بكرنفال مؤتمر “الحوار الوطني”، ومن ثم الإعلان الدستوري الذي يؤسس لصناعة “الفرعون”، مرورًا بالمذابح التي ارتكبت في الساحل والسويداء واستبيحت فيها الأعراض والأموال والحيوات، ربما صار الحديث عن إعادة بناء الدولة السورية وفق نفس المعايير والأسس السابقة ضربًا من الجنون والعته والعبث بسوريا ومستقبلها، لذلك لا بد بعد سنوات الحرب والدمار من تبني نظام سياسي وإداري يمنع تكرار التجربة المريرة، ويعوق أي فرصة لإعادة بناء استبداد جديد.

اللامركزية تبدو خيارًا وطنيًا جامعًا، ليس فقط لأنها تعزز الانتماء وتجعل المواطن شريكًا فعليًا في إدارة شؤون بلده، وتعطي لصوته وزنًا في تقرير أولويات محافظته، بل لأنها تعزز الإحساس بالانتماء والمشاركة بما يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وهي الثقة التي دمرتها عقود الاستبداد والتهميش.

فاللامركزية ليست هنا ترفًا سياسيًا، بل ضرورة حياتية لسوريا المستقبل، لأنها تعني توسيع صلاحيات المحافظات في إدارة شؤونها بقرارها المستقل، من خلال انتخاب محافظيها ومجالس حكمها المحلي التي تمثل فعلًا سكانها، وتمنح بعضًا من السلطة التشريعية والتنفيذية الكافية لرسم سياساتها الداخلية وإدارة مواردها المحلية بما يخدم خريطتها الخاصة للتنمية، وليصبح هؤلاء جميعًا مسؤولين أمام أهلهم وناخبيهم، لا أمام الأجهزة الأمنية في العاصمة، فلقد حان الوقت للكفّ عن المراهنة على نزاهة أو وطنية الحاكم الفرد، أو وضع مصير البلاد بيد شخص مهما بدا نظيفًا أو صادق النيات، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة بالضرورة، والتجربة برهنت أن الفرد مهما علا شأنه، يبقى عاجزًا عن حمل أعباء وطن كامل، وأن تركيز السلطات في يده يفتح الباب واسعًا أمام الاستبداد والانزلاق مجددًا نحو الحكم المطلق.

وبالتالي يبقى الخيار الأجدى هو التعويل على الإرادة الحرة للناس، التي تتجسد في مؤسسات منتخبة ورقابة مجتمعية متواصلة، بدلًا من تعليق الأمل على “زعيم” منقذ يتخذ القرار وحده ويتم التهليل والتطبيل له، لأن مثله لم تلد النساء ولم تقمّط الدايات!

وحتى لا تتحول اللامركزية إلى عبء وطني وتتسبب بتفكك أو انقسام المجتمع، لا بد ابتداء من أن تبنى ضمن رؤية وطنية جامعة تصدر عن حوارات وطنية في العمق، ويكرسها دستور الدولة الذي يوازن بين سلطات وصلاحيات المحافظات، وبين صلاحيات حكومة المركز المنتخبة من الشعب كله، وتبقى القضايا السيادية الكبرى كالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية والدفاع الوطني وإدارة الثروات الاستراتيجية والسياسات المالية العامة بيد تلك الحكومة، بما يضمن ويعزز وحدة الدولة واستمرارها ككيان سياسي موحد، في الوقت نفسه تتحرر المحافظات من هيمنة العاصمة على شؤونها اليومية لتقرر بحرية في شؤونها التعليمية والصحية والخدمية والبنية التحتية والاقتصاد المحلي والأمن الداخلي المحلي، وبذلك تتحول الدولة من عبء ثقيل على المجتمع إلى حامية للحريات وحاضنة للتنمية المتوازنة، والتجارب العالمية تقدم لنا شواهد على نجاح هذا النموذج، فدول كثيرة ذات تنوع قومي أو ديني أو مذهبي مثل ألمانيا، وسويسرا، والولايات المتحدة الأمريكية، لم تستطع الحفاظ على وحدتها واستقرارها إلا عبر اعتماد أنظمة لامركزية أو فيدرالية منحت الأقاليم سلطات واسعة وفي الوقت ذاته حافظت على كيان وطني مركزي يتولى الملفات الكبرى، وسوريا في هذا المقام ليست استثناء، فهي بلد غني بثرواته وبتنوعه الثقافي والاجتماعي والديني، وهذا التنوع يجب أن يُترجم إلى عنصر قوة لا إلى هشاشة وانقسام.

شخصيًا كنت أتمنى أن يحصل السوريون في السويداء وفي غيرها من المحافظات على حقوقهم بالحوار والتفاهم الوطني بدلًا من أن يضطروا لانتزاعها بالقوة وبأكثر مما كانوا يطلبون، وأن تجبر السلطة على الامتثال صاغرة. وهو درس يجب أن تدرك السلطة فحواه ومؤداه وأن تستخلص منه العبرة، أن من مقتضيات الحفاظ على وحدة البلاد هو الاستجابة للمطالب المشروعة للناس، وأن سياسة الإكراه لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأمور وخروجها عن السيطرة، وأن أهم معالم السيادة هي إعلاء شأن المواطنين وحقوقهم، وأن حصرية السلاح تكون كمحصلة نهائية للتوافق الوطني وتأطير الحقوق في دستور متوافق عليه يحفظ لكل السوريين حقهم في الشراكة الوطنية بالسلطة والثروة على قاعدة المواطنة، وليس قبله.

إن اللحظة السورية الراهنة تفرض التفكير العميق في مستقبل الدولة، فالإصرار على إعادة إنتاج المركزية القديمة يعني بالضرورة إعادة إنتاج الاستبداد نفسه الذي ثار عليه الشعب ودفع أثمانًا باهظة لمواجهته والخلاص منه، أما تبني اللامركزية الموسعة في إطار دستور وطني متوافق عليه، فهو وحده الكفيل بأن يمنع قيام استبداد جديد، ويؤسس لدولة عادلة قوية بوحدة أبنائها وتعدد أفكارهم وأصواتهم، هكذا فقط يمكن أن نقول إننا استوعبنا الدرس، وإن ثورة السوريين انتصرت، وإننا بالفعل نؤسس لمستقبل مختلف.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة