
مرضى أمام قسم الإسعاف بمستشفى الرازي في مدينة حلب - 31 آب 2025 (عنب بلدي)
مرضى أمام قسم الإسعاف بمستشفى الرازي في مدينة حلب - 31 آب 2025 (عنب بلدي)
حلب – محمد ديب بظت
تشهد مدينة حلب ارتفاعًا لافتًا في أجور المعاينات الطبية (الكشفيات) داخل العيادات الخاصة، في وقت يعاني الأهالي من ظروف معيشية خانقة، حيث لم تعد الزيارة الطبية خيارًا سهلًا أو متاحًا لشرائح واسعة من السكان.
الزيادة لا تتعلق بتخصص واحد، بل تشمل مختلف المجالات الطبية، من العيادات البولية إلى الأسنان والعيون وحتى العيادات الداخلية، مع تفاوت في الأجور بين الأطباء والعيادات يصل أحيانًا إلى الضعف.
ومع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وعدم ثبات قيمة الليرة السورية، وارتفاع تكاليف الاستيراد والتشغيل، تحولت المعاينة الطبية الواحدة إلى عبء مالي يعادل دخل أسرة بأكملها لعدة أيام، بل لأسابيع في بعض الحالات.
اللافت أن ارتفاع الأجور يترافق مع تضاعف أسعار الأدوية، ولا سيما تلك التي لا تتوفر منها بدائل محلية، ما يعني أن المريض لا تنتهي معاناته عند دفع “كشفية” مرتفعة، بل يواجه أيضًا فاتورة دوائية باهظة.
محمد معراتي (30 عامًا)، من سكان حي الميدان، قصد عيادة بولية بعد معاناته من أعراض صحية استدعت مراجعة عاجلة.
وقال محمد لعنب بلدي، إنه دفع 400 ألف ليرة (تعادل 40 دولارًا أمريكيًا تقريبًا) لقاء المعاينة وحدها، قبل أن يواجه وصفة دوائية تجاوزت قيمتها 150 ألف ليرة إضافية، ما جعله يعتبر العلاج “فوق طاقته”، خاصة أن دخله الشهري لا يتجاوز مليونًا ونصف المليون ليرة (حوالي 150 دولارًا أمريكيًا).
وأوضح أن مثل هذا المبلغ يعادل أكثر من نصف الدخل الشهري، وهو ما سيدفعه لاحقًا للتفكير بتأجيل أي مراجعة جديدة إلا في الحالات الطارئة فقط.
واضطرت رهف سرميني (40 عامًا) إلى إلغاء خطة علاجية لابنتها لدى طبيب أسنان، بعد أن أخبرها أن تكلفة سحب العصب وحدها تبلغ 400 ألف ليرة كحد أدنى (حوالي 40 دولارًا أمريكيًا).
ومع وجود ثلاثة أطفال يحتاجون إلى متابعة سنّية، وجدت الأسرة نفسها أمام فاتورة علاجية “تعجيزية”، حسب وصفها لعنب بلدي.
وأشار عبد السلام مزراب (45 عامًا)، ويقطن في حي صلاح الدين، إلى أنه بات يلجأ إلى ريف حلب لمعالجة أسنانه، إذ لاحظ أن أسعار الأطباء هناك أقل بنسبة ملحوظة.
ولم يقتصر الارتفاع على العيادات البولية والسنّية، إذ شمل أيضًا اختصاصات أكثر ندرة مثل العصبية للأطفال، والتي تعاني المدينة أساسًا من قلة عدد الأطباء العاملين فيها.
يزن مصري (22 عامًا)، والد لطفلة تبلغ عامًا واحدًا، قصد عيادة عصبية خاصة بعد ظهور أعراض تستدعي الفحص.
وبحسب قوله، بلغت أجرة المعاينة 200 ألف ليرة سورية، فيما طلب الطبيب إجراء تخطيط دماغ بتكلفة إضافية وصلت إلى 300 ألف ليرة.
وأشار إلى أن هذه المبالغ لم تكن سوى البداية، إذ طلب منه لاحقًا تصوير رنين مغناطيسي في أحد المراكز الخاصة بتكلفة تجاوزت مليون ليرة سورية (حوالي 100 دولار أمريكي)، فضلًا عن وصفة أدوية عصبية يصعب تأمينها.
وأوضح لعنب بلدي أن مجموع هذه النفقات يفوق قدرة الأسرة المتوسطة على الاحتمال، لكنه اضطر لتأمينها نظرًا لأهمية علاج طفلته.
يتفق المرضى على أن أجور المعاينات لم تعد تخضع لأي قاعدة واضحة، وأن التفاوت بين عيادة وأخرى بات “مربكًا”، إذ يمكن أن تتراوح معاينة طبيب الأسنان بين 200 و600 ألف ليرة، بحسب مكان العيادة وسمعة الطبيب، وليس بالضرورة وفق جودة الخدمة الطبية.
بعض الأهالي وصفوا الأمر بأنه “مزاجي”، فيما اعتبر آخرون أن غياب الرقابة والتسعيرة الرسمية هو ما جعل الأسعار خارج السيطرة.
من جهتهم، يرى بعض الأطباء، ممن التقتهم عنب بلدي، أن ارتفاع أجور المعاينات لم يكن خيارًا شخصيًا بقدر ما هو نتيجة طبيعية لظروف العمل، وبرروا هذه الأجور بارتفاع تكاليف المستلزمات الطبية والأجهزة.
محمد الباش، طبيب مختص بالأمراض البولية يعمل في حي الفردوس، أوضح لعنب بلدي أن تشغيل العيادة بات مرهقًا ماليًا، إذ ارتفعت أسعار الأجهزة الطبية بالدولار، بينما بقيت الأجور مرتبطة بالليرة السورية المنهارة.
واعتبر أن بقاء الأسعار على حالها يعني إغلاق العيادات.
طبيب الأسنان محمد جمال نيال، وهو يدير عيادة في حي الزبدية، أشار إلى ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية للمعالجة السنّية بشكل واضح خلال الأشهر الماضية، قبل حساب أجور العمل، عدا عن ارتفاع أسعار التعقيم والمواد الأساسية التي تُستهلك بشكل يومي.
ونوه إلى أن كثيرًا من الأطباء يجدون أنفسهم مضطرين لرفع أسعارهم “حتى لا يخسروا”.
محمد طلعت كوسا طبيب عيون، قال إن مهنة الطب “إنسانية في المقام الأول”، لكن الأطباء أنفسهم يعيشون في نفس البيئة الاقتصادية التي يعاني منها المرضى.
وأضاف أن أصحاب الدخل المحدود قد يرون أي “كشفية” مرتفعة عليهم، في حين أن للطبيب بدوره التزامات ثابتة تبدأ من أجور العيادة الشهرية، مرورًا بصيانة الأجهزة الطبية، وصولًا إلى تكاليف المواد والمستلزمات المستوردة التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.
حاولت عنب بلدي التواصل مع نقابة الأطباء في حلب للحصول على توضيحات رسمية حول أسباب ارتفاع أجور المعاينات الطبية وآليات ضبطها، إلا أن النقابة مغلقة منذ أسبوعين على خلفية خلافات داخلية واستقالة عدد من أعضاء مجلسها، بانتظار صدور قرار جديد لإعادة تفعيل عملها.
وبحسب تأكيد مكتب العلاقات الإعلامية في مديرية الإعلام بحلب، فإن النقابة “مغلقة حاليًا ولا تصدر أي تصريح”.
كما تواصلت عنب بلدي مع نقيب الأطباء المركزي في دمشق، مالك عطوي، وطرحت عليه الموضوع، دون أن تتلقى أي رد حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
ارتفاع أجور المعاينات الطبية في حلب قضية متجددة تعكس ضغوطًا على الأسر منذ سنوات خلال حكم النظام السابق.
في ذلك الوقت، كانت أقل “كشفية” في العيادات الخاصة 40 ألف ليرة سورية، فيما كان متوسط رواتب الموظفين لا يتجاوز 300 ألف ليرة (19 دولارًا أمريكيًا حينها)، ما جعل الوصول إلى الخدمة الطبية عبئًا ماليًا ملموسًا.
ومع نهاية حزيران 2024، أصدرت حكومة النظام السابق قرارات برفع التعرفة على المعاينات الطبية لتصبح الأسعار رسمية ومعتمدة، إذ بلغت معاينة الطبيب الممارس العام 25 ألف ليرة، بينما ارتفعت معاينة الطبيب المختص إلى 40 ألف ليرة، ووصلت معاينة الأطباء ذوي الخبرة الذين تجاوزت مدة ممارستهم للمهنة عشر سنوات إلى 50 ألف ليرة.
تلك الزيادات الرسمية، أثرت بدورها على الأهالي أصحاب الدخل المحدود، إذ اعتبرت معظم الأسر أي “كشفية” مرتفعة مقارنة بدخلها، فيما استمرت العيادات الخاصة في تطبيق أسعار متفاوتة، ما يعكس فجوة بين القرارات الرسمية والواقع اليومي للمرضى.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى