تعا تفرج

تعالوا نتخلص من الفصاحة

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

يجدر بنا الإقرار بأن الإبداع شأن فردي، منفلت، لا توجد قواعد متفق عليها تحكمه، بمعنى أنك لا تستطيع تعداد الشروط التي يجب تحققها حتى يولد مبدع في فن، أو أدب، أو فكر.

يمكن أن يظهر المبدع في مدينة كبيرة، عامرة بالأضواء، مثل دمشق، مثلًا، فتتلقفه وسائل الإعلام، وترعاه، وتحثه على المثابرة.. ويمكن أن يولد مبدع، في قرية جبلية تعانق الغيوم، أو في مدينة صغيرة، بعيدة عن الحواضر الكبرى، مثل السلمية، وعامودا، والملاجة.. بإمكانك، الآن، أن تعارضني بالرأي، وتحكي لي عن المبدع الراحل، زياد الرحباني، وكيف رعاه والده، الفنان الكبير عاصي، منذ طفولته، وأعطى موهبته الكثير من الاهتمام والحفاوة، فكان هذا سر نبوغه في التلحين، والغناء، والسخرية.. وأنا سأؤيد كلامك، بلا تردد، ولكن بماذا تفسر أن أبناء القسم الأعظم من المبدعين لم ينبغوا، وإذا حاول أحد منهم تقليد أبيه، يخفق، ويقدم نماذج إبداعية هزيلة؟

سأنتقل، هنا، إلى فكرة أتوقع أنها ستغيظ أنصار اللغة العربية، وهي أن الإبداعات الغنائية العربية، التي قدمت باللهجات المحلية، كانت أرفع شأنًا من الإبداعات الفصيحة، وأنا، محسوب الطيبين، أشرت، مرارًا، إلى ولعي بشعر عبد الرحمن الأبنودي، الذي يكتب الشعر مثلما يتنفس.. وفي أثناء محاولتي الغوص في عالم غناء عصر النهضة الموسيقية، الذي تركز في مصر، عثرت على أسماء مبدعين باللهجة المصرية، لا يشق لهم غبار، مثل صلاح جاهين، وبديع خيري، وبيرم التونسي، وأحمد رامي، ومرسي جميل عزيز، وسيد حجاب، بينما الأسماء التي أبدعت بالفصحى، قليلة، ولم تبلغ مستويات تتيح لنا إمكانية المقارنة الجدية، والسبب، برأيي، يكمن في أن المبدع يفكر باللغة المحلية، ويستخدمها في حياته اليومية، فيتحول الإبداع بها إلى سليقة، فإذا أراد أن يكتب بالفصحى، سيضطر لـ”ترجمة” ما يفكر فيه، باللغة المحلية، إلى الفصحى، ولا بد أن يكون النص الأصلي أفضل من النص المترجم.

يحتاج الإبداع باللغة المحلية، وإشهاره على الملأ، إلى شجاعة استثنائية، لعل أول من أقدم عليها، في سوريا، الراحل فخري البارودي، الذي كان يحرر صحيفته “حط بالخرج”، بالمحلية الشامية، وكان ذلك قبل نحو قرن من الزمان.. ولا ننسى أن الساحة الثقافية العربية، شهدت معارك حامية الوطيس، بين أنصار العربية الفصيحة، وكل مبدع سولت له نفسه، هجرها.. فعندما دعا الشاعر اللبناني سعيد عقل إلى الكتابة بالعامية اللبنانية، واستخدام الحرف اللاتيني، انهمرت عليه الانتقادات، والشتائم، من مختلف أنحاء البلاد العربية، وبقي يتعرض للانتقاد والهجاء، في أوقات متقطعة، حتى الآن.

أنا، شخصيًا، لا أتدخل في خيارات المبدعين، حتى ولو اختار الواحد منهم لغة عربية صعبة، واستخدم مفردات مهجورة، مثلما كان شعراء كثيرون يفعلون، ومنهم الجواهري، ولكنني أميل إلى اللغة المفهومة، وأن نتخفف من ذلك الكم الهائل من الأشياء التي أحطناها بالقداسة، وبضمنها اللغة، مع الإشارة إلى أنه لا يوجد شعب دولة، أو مدينة، أو قرية، يتحدث بالعربية الفصحى، خارج نطاق المراسلات الرسمية، والكتب، بالإضافة إلى شعراء، إذا جالستهم، تشعر أنك قاعد في سوق عكاظ!



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة