عن مظاهرة الجامع الأموي وسؤال الحرية
أحمد عسيلي
أعلى درجات الوعي، سواء عند الفرد أو الأمة، هي القدرة على مواجهة الذات كما هي، بلا تجميل ولا إنكار، ثم القدرة على قراءة المحيط والتأقلم مع لحظته الراهنة، فالواقع ليس جامدًا، بل يتغير بشكل مستمر، من كان يتخيل، قبل عدة أشهر فقط، أن حكم عائلة الأسد سيزول بهذه السرعة، وأن بشار سيغادر المشهد السياسي تمامًا!
بهذه الروح نفسها ينبغي أن ننظر إلى ما جرى قبل أيام في دمشق، حين خرجت مظاهرة محدودة من الجامع الأموي، لم يتجاوز عددها بضع مئات، تُحمل النظام والمجتمع المصري مسؤولية ما يجري في غزة، مظاهرة عابرة، لكنها سرعان ما تضخمت في المرآة الإعلامية، فالإعلاميون المصريون المعروفون، مثل أحمد موسى ونشأت الديهي ولميس الحديدي، تلقفوا المشهد، وقدموه كما لو كان موقفًا عامًا للسوريين، بل ذهب بعضهم إلى الدعوة لترحيل اللاجئين السوريين من مصر (نعم هكذا). أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد انتشرت حملات تحريضية عنيفة، أغلبيتها من صفحات مجهولة لا تعكس حقيقة العلاقة العميقة بين الشعبين، لكنها كشفت هشاشة الخطاب العام وسرعة تحوله إلى أداة تهديد.
السؤال هنا، ونحن نطرحه من موقعنا السوري، لا يرتبط بردود الفعل في الإعلام المصري التي لها ظروفها وحيثياتها الخاصة، بقدر ما يخصنا نحن: هل ما جرى يُعد ممارسة طبيعية لحرية التعبير من قِبل مجموعة محدودة، وواجبنا أن نحافظ على حق الجميع في التعبير عن رأيه، حتى لو كان صوتًا نشازًا، أم تطاولًا مرفوضًا لأنه يمس الأمن القومي السوري عامة؟
هنا نحن أمام سؤال جوهري: كيف نعرّف نحن السوريين حدود الحرية في ظل ظروفنا الراهنة؟
إن مفهوم الحرية ليس واحدًا بين الدول والمجتمعات، بل يتغير مع السياق الاجتماعي والتاريخي والنفسي، ففي فرنسا عاصمة الأنوار والحريات، هناك قوانين صارمة تمنع إنكار “الهولوكوست”، ليس تقييدًا للحرية بقدر ما هو حماية لذاكرة جماعية ما زالت جراحها مفتوحة، وفي النمسا، برزت منذ عدة سنوات قضية امرأة أثارت جدلًا واسعًا، حين أيدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا صادرًا بحقها، فقد اعتبرت المحكمة الأوروبية أن الكلام المسيء للرسول محمد لا يندرج ضمن حرية التعبير، فالحرية تبقى مقيدة بشروط أخرى، حتى في الممارسات الفردية، من العلاقات الجنسية إلى استهلاك المخدرات، نجد أن ما تسمح به دولة قد تحظره أخرى، الحرية هنا ليست قيمة مطلقة، بل انعكاس لسياق اجتماعي وتاريخي محدد، ولقدرة نفسية جماعية على تحمّل حدود معينة من الاختلاف، دعوني هنا أضرب مثلًا آخر من باريس، فقد شاهدت يومًا رجلًا من أصول إفريقية يقف في محطة مترو، يسبّ فرنسا والحضارة الفرنسية، ويصف الجيش الفرنسي بأنه جيش يرتكب الجرائم، الناس مروا بالقرب منه، بعضهم بعبوس، بعضهم بضحكة ساخرة، ثم واصلوا طريقهم كأن شيئًا لم يكن، هذا المشهد يكشف عن قدرة نفسية جماعية على تحمل النقد، من الصعب أن نتخيل مشهدًا مشابهًا في دمشق أو القاهرة أو عاصمة خليجية، إذ لا أظن أن سوريًا يمكن أن يقف في إحدى ساحات بيروت مثلًا، ويطلق كلمات مسيئة بحق الدولة أو الجيش اللبناني، من دون أن يُقابل برد فعل غاضب أو عنيف، هنا يظهر الفارق، ما يتحمله مجتمع ويدخله في خانة الحرية، قد يعتبر في مجتمع آخر تعديًا لا يغتفر.
هذا كله يستلزم منا كسوريين جهدًا جبارًا لخوض نقاشات حقيقية وصريحة، نحدد من خلالها ما يناسب مجتمعاتنا وما لا يناسبها، وحتى حين نتوصل إلى قرارات أو توافقات، فهي لن تكون نهائية أو جامدة، فالحريات نفسها في العالم ما زالت في حركة دائمة، تزداد في مجالات معينة وتقلّص في أخرى، تتوسع في بلدان وتتراجع في غيرها، بحسب كل مجتمع، بل هي تعيد صياغة نفسها باستمرار وفقًا للظروف المحلية، بهذا المعنى، الحرية ليست وصفة جاهزة بل عملية تفاوض مستمرة مع الذات ومع الواقع، وفي سوريا نحن اليوم مجتمع منهك، أرهقته الحروب، وممزق إلى ثلاث إدارات سياسية متنافسة، ومختلف على هويته الاجتماعية والثقافية، نعم، لتكن لدينا الجرأة و لنقل هذا بصراحة، جيشنا الذي كان يفترض أن يكون عماد الوحدة الوطنية تفكك منذ عقود بفعل الفساد والمحسوبيات والطائفية، جعلت سقوطه مدويًا خلال عدة أيام فقط، نحن أيضًا مجتمع فقير، استنزفت عائلة الأسد وأعوانها موارده ومدخراته، وغير قادر حتى الآن على حماية نفسه أو توحيد صفوفه، لذلك فإن حدود حريتنا يجب أن تُبنى على قدراتنا الراهنة، لا على شعارات مجردة.
نقول هذا بكل مسؤولية، وبإحساس، إن الوضع الذي نعيشه اليوم هو وضع آني ومرحلي، هذا الضعف ليس هويتنا الوطنية، بل حالة عابرة فرضتها عقود من الاستبداد والحرب، حالة يجب أن تتغير قريبًا، وما حدث عند الجامع الأموي ليس إلا صورة مصغّرة عن خطورة غياب تعريف واضح للحرية وحدودها، حدث محدود، لا يتجاوز بضع عشرات أو مئات، تحوّل في ساعات إلى أزمة رمزية وإلى مادة تهديد في الخطاب العام، إنها دعوة كي نواجه أنفسنا ونرسم نحن، من داخل واقعنا، الحرية التي تناسبنا وتفتح الطريق نحو الاستقرار والبناء.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :