وقفة في دمشق تطالب بالعدالة والمحاسبة - 24 كانون الثاني 2025 (عنب بلدي/لقطة شاشة)
المصالحة السورية: العدالة أولًا.. ثم السلام
بعد عقد ونيف من الصراع المدمر الذي مزق النسيج الاجتماعي السوري وألحق أضرارًا هيكلية بالدولة، لم يعد تحقيق السلام الدائم مجرد طموح سياسي، بل أصبح ضرورة وجودية وحتمية استراتيجية، حيث يتطلب هذا المسعى استراتيجية متكاملة تدمج بعمق بين العدالة الانتقالية والحوار الوطني الشامل والإصلاح المؤسسي الجذري.
ولا يمكن لهذه الركائز أن تقوم بمعزل عن بعضها، بل يجب أن تُدعم بإجماع دولي وإقليمي صلب وموحد، ومن هنا يبدأ بناء دولة مستقرة وموحدة من خلال ترميم الثقة المنهارة لتضميد الجراح المجتمعية العميقة.
أولًا: العدالة الانتقالية– الشرط المسبق للمصالحة
لا يمكن للمصالحة الوطنية أن تكون حقيقية أو مستدامة دون إرساء العدالة الانتقالية أولًا، وهذه العملية ليست مجرد خيار أخلاقي، بل هي شرط مسبق وضروري لاستعادة الثقة وإنهاء دائرة الإفلات من العقاب والانتقام التي ظلت تغذي العنف لسنوات، لا شك أن العدالة الانتقالية تتطلب محاور متضافرة لمعالجة آثار الصراع وضمان عدم تكرار الفظائع مستقبلًا من أهمها:
1.توثيق الجرائم وإطلاق مسار المحاسبة من خلال:
- لجان تقصي الحقائق المستقلة:
يجب تأسيس لجان مستقلة ومحايدة مهمتها تقصي الحقائق والتحقيق في جميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، كما تعمل هذه اللجان على جمع الشهادات بدقة وتحديد المسؤوليات بشكل منهجي يُتاح من خلالها منصة للضحايا لتأكيد معاناتهم وضمان عدم طمس الحقيقة.
- المحاسبة القانونية العادلة:
تُعد محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب خطوة حاسمة لا يمكن التنازل عنها، ويجب أن تُجرى هذه المحاكمات بشكل علني ونزيه من خلال آليات قضائية وطنية أو دولية مستقلة، أو من خلال آلية مختلطة ومُصممة خصيصًا للسياق السوري (كتجربة البوسنة والهرسك)، وأي شكل من أشكال الإفلات من العقاب يُقوِّض سيادة القانون ويشجع على تكرار الانتهاكات.
2.تعويض الضحايا وإعادة التأهيل المجتمعي من خلال:
- برامج جبر الضرر والتعويضات:
من الضروري تقديم تعويضات شاملة للضحايا وعائلاتهم بحيث لا تقتصر على الجانب المادي فحسب بل تمتد لتشمل الاعتذارات الرسمية وإعادة الاعتبار وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي المتخصص الذي يُعين الضحايا على استئناف حياتهم.
- إعادة التأهيل المجتمعي:
يجب التركيز على برامج تستهدف المناطق الأكثر تضررًا التي يجب أن تتضمن إعادة بناء البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية وتعزيز الروابط الاجتماعية الممزقة، كما يجب أن تكون هذه البرامج شاملة وتلبي احتياجات الفئات الهشة بمن فيها اللاجئون والنازحون داخليًا.
ثانيًا: الحوار الوطني والإصلاح المؤسسي – بناء الحاضر
يُمثل الحوار الوطني الشامل الأداة الأكثر فعالية لتحقيق المصالحة في مجتمع مزقته سنوات الصراع ويجب أن يهدف إلى تجاوز الانقسامات وبناء توافق وطني حقيقي وتحديد رؤية سورية موحدة للمستقبل، ولضمان استدامة المصالحة يجب أن يقترن بإصلاحات هيكلية للمؤسسات.
1.الحوار الوطني الشامل ويتمثل في:
- مشاركة جميع الأطياف:
يجب أن يضم الحوار جميع الأطراف الفاعلة مثل الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني (الذي يمكنه جلب تجارب مثل تجربة جنوب إفريقيا في لجان الحقيقة والمصالحة) والشباب والنساء ومختلف المكونات العرقية والدينية بهدف خلق منصة جامعة تسمح للجميع بالتعبير عن آرائهم وتطلعاتهم بحرية واحترام متبادل.
- بلورة خارطة طريق سياسية:
يجب على الأطراف السورية بلورة خارطة طريق واضحة وملزمة ترسخ آليات حكم شفافة وخاضعة للمساءلة وتكفل حقوق جميع المواطنين ويشمل ذلك صياغة دستور جديد توافقي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
- الدور المحوري للمجتمع المدني:
يُعد المجتمع المدني شريكًا لا غنى عنه يجب تحفيز منظماته على المشاركة بالنشاط في جميع مراحل الحوار وتقديم الدعم للضحايا وترسيخ قيم التسامح والتعايش السلمي وبناء الجسور بين المجتمعات المحلية.
2.إصلاح المؤسسات لضمان عدم النكوص
لضمان استدامة المصالحة يجب إجراء إصلاحات هيكلية وجذرية في المؤسسات الحكومية والأمنية والقضائية لتعزيز الشفافية والمساءلة وحماية حقوق المواطنين:
- إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقضائية:
يقتضي الأمر إعادة هيكلة شاملة لضمان حيادها المهني واقتلاع الفساد ومنع تكرار الانتهاكات، ويتطلب ذلك تدريب القوات الأمنية على احترام حقوق الإنسان وإرساء نظام قضائي مستقل يضمن العدالة للجميع.
- نظام سياسي ديمقراطي وموحد:
يستلزم تحقيق المصالحة إرساء نظام سياسي جديد يضمن المساواة الكاملة بين جميع السوريين ويحقق تمثيلًا عادلًا، ويمكن تعزيز اللامركزية الإدارية كمسار فعّال لتحقيق السلام المستدام.
ثالثًا: الدعم الدولي والإقليمي والمصالحات المحلية – جسور الثقة
لا يمكن لجهود المصالحة الوطنية أن تكلل بالنجاح بمعزل عن الدعم الدولي والإقليمي الحاسم والمُركز إلى جانب تعميق المصالحات على المستوى القاعدي.
1. الدعم الدولي والإقليمي من خلال:
- تنسيق الجهود وبناء الإجماع:
يجب أن يكون هناك تنسيق فعال وموحد بين الدول العربية والمجتمع الدولي لدعم عملية المصالحة بالتوازي مع دور محوري للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة في تيسير الحوار وتقديم الخبرة.
- الدعم المالي المشروط لإعادة الإعمار:
من الضروري توفير دعم مالي كبير لإعادة الإعمار لكن هذا التمويل يجب أن يتم بشروط شفافة وفعالة مع التركيز الصارم على مكافحة الفساد وضمان وصول المساعدات إلى الفئات الأكثر احتياجًا.
- تسهيل العودة الآمنة والكريمة:
إن عودة اللاجئين والنازحين بأمان وكرامة هي جزء جوهري لا يتجزأ من عملية المصالحة، ويتوجب على المجتمع الدولي والحكومة السورية العمل معًا لتوفير الظروف الآمنة لعودتهم بعيدًا عن أي شكل من أشكال التهديد الأمني.
2. المصالحات المحلية وبناء الثقة
لا يقتصر العمل على المستوى الوطني بل يجب أن يمتد ويتعمق إلى المصالحات المحلية التي تُسهم في بناء الثقة من القاعدة إلى القمة من خلال:
- تشجيع ودعم المبادرات المحلية:
يجب تعزيز ودعم المصالحات على مستوى القرى والمناطق وتوفير قنوات تواصل فعالة بين الأهالي والفاعلين المحليين للمساعدة في حل النزاعات اليومية وتقوية التماسك الاجتماعي (كأحداث السويداء مؤخرًا).
- دور القيادات المجتمعية والوجهاء:
يلعب وجهاء العشائر والقيادات المجتمعية دورًا محوريًا في تيسير المصالحات، إذ يجب إشراكهم في تصميم وتنفيذ آليات المصالحة والاستفادة من خبراتهم في حل النزاعات بطرق سلمية.
رابعًا: الربط بين المصالحة وإعادة الإعمار
لضمان استمرارية المصالحة يجب ربطها بشكل وثيق وممنهج بجهود إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي من خلال:
- توفير فرص التنمية الاقتصادية:
إن توفير فرص العمل المستدامة وتحسين الظروف المعيشية وضمان الوصول إلى الخدمات الأساسية هي محركات أساسية لنجاح المصالحة، فحينما يشعر الناس بالأمان الاقتصادي يصبحون أكثر استعدادًا لتقبل المصالحة والتسامح.
- الشفافية ومكافحة الفساد:
من الأهمية بمكان أن تكون جهود إعادة الإعمار شفافة تمامًا وخالية من الفساد لأن الفساد يُقوِّض الثقة في الحكومة ويُطلق شرارة استياء جديد، لهذا يجب وضع آليات قوية لمكافحة الفساد لضمان استخدام الموارد بإنصاف وفعالية.
إن تحقيق المصالحة الوطنية في سوريا هو رحلة إستراتيجية طويلة ومعقدة لا يمكن اختصارها، وتتطلب إرادة سياسية لا تتزعزع ودعمًا دوليًا صادقًا وحقيقيًا والتزامًا مجتمعيًا واسعًا، فمن خلال التركيز المتزامن والمُنظَّم على العدالة الانتقالية (كماضٍ يجب معالجته) والحوار الشامل (كحاضر يجب بناؤه) يمكن لسوريا أن تبدأ في نسج مستقبل أكثر سلامًا واستقرارًا وازدهارًا.
إن الهدف الأسمى هو طي صفحة الماضي المؤلم وبناء دولة حديثة يسودها العدل والتسامح مما يضمن أن يعيش جميع السوريين بكرامة وأمان ويضع الأساس لعقد اجتماعي جديد ملزم للجميع ويمثل جميع أطياف الشعب السوري، وهذه هي الفرصة الأخيرة لبناء سوريا التي تستحقها أجيالها القادمة ولن يُكتب لها النجاح إلا بالتزام جماعي لا رجعة فيه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :