قطاف الزيتون في ريف مدينة بانياس - 14 تشرين الأول 2025 (محافظة طرطوس/فيسبوك)
صناعة قديمة لها طقوسها
الساحل السوري يتمسك بزيت زيتون “الخريج”
عنب بلدي – شعبان شاميه
يتفرد السوريون بطرائق تحضير المؤونة، التي يبدأ إعدادها في أيلول وخلال “التشرينين” (تشرين الأول وتشرين الثاني)، باختلاف المناطق وعاداتها، إلا أن الساحل السوري يتميز بتحضير زيت “الخريج”، المعروف بنكهته القوية الحادة ولونه الغامق المائل إلى الأسود غالبًا، والذي بدوره تطرأ على آلية تجهيزه فروق بسيطة باختلاف المناطق.
ويعود إنتاج زيت “الخريج” إلى ما قبل عهد مملكة أوغاريت الشهيرة على ساحل البحر المتوسط، بحسب العديد من المصادر، وتتعزز هذه الرواية من خلال اكتشاف حبوب زيتون مسلوقة يعود تاريخها إلى ما قبل زمن المملكة المذكورة.
كما عثر علماء آثار على “الباطوس”، وهي كلمة سريانية تعني “الحجر الدائري”، إذ يُستخدم في تصنيع “الخريج”، في حين أنه من غير المعروف التاريخ الذي بدأ فيه إنتاج هذا الزيت تحديدًا.
مراحل إنتاج “الخريج”
بعد قطاف الزيتون يتم غسله ووضعه في إناء كبير يسمى “الدست”، لسلقه على الحطب في عملية تستمر حتى غلي الزيتون، ويُترك نحو 20 دقيقة على النار، كأولى خطوات الحصول على زيت “الخريج”، قال “أبو حسن” (50 عامًا) من قرية بلوزة بريف مدينة بانياس بمحافظة طرطوس، لعنب بلدي.
بعد ذلك، تجري مرحلة تصفية الزيتون من الماء، وإخراجه إلى سطح المنزل بـ”قفف” (سلال مصنوعة من أعواد الريحان- الآس)، ويوضع فوق بعضه على شكل تلال، ويُغطى لمدة أربعة أو خمسة أيام تقريبًا لتخميره، بحسب “أبو حسن”، موضحًا أن بعض الأهالي يغطونه بأوراق الخرنوب أو البطم لتطعيمه.
وأضاف أنه بعد عملية التخمير، يتم فرش الزيتون على السطوح حتى ينشف تقريبًا، إذ يتحول قوامه إلى شكل حبّات الزبيب مع رائحة فوّاحة، ومن ثم يؤخذ للمعصرة، وهناك معاصر “هيدروليكية” ويدوية على خلاف المعاصر الحديثة.
ولفت “أبو حسن” إلى أن بعض الأهالي لا يزالون يستخدمون حجر “الباطوس” لغاية اليوم على طريقة الأجداد، إذ يُطحن الزيتون مع بذوره.
“الباطوس” هو عبارة عن حجر كبير محفور على شكل جرن، في داخله حجر يُدعى “الخريزة” دائري الشكل أيضًا ومثقوب من المنتصف، توضع فيه ذراع من الخشب لسهولة تحريكه ودورانه، وعادة ما تُربط نهاية الذراع إلى حيوان يقوم بالدوران، وبالتالي تحريك الحجر ما ينتج عنه ضغط وهرس للزيتون لاستخلاص الزيت منه.
وحول سبب التسمية بـ”الخريج”، أجاب “أبو حسن” أنها تعود إلى “تخريجه” قديمًا بوساطة الماء الساخن (قطف الزيت) بعد كسر الزيتون ووضعه في برميل من الماء، إذ يُفصل الزيت عن الماء ويطفو على السطح.
وتحدث “أبو حسن” عن الأجواء العائلية التي ترافق تحضير زيت “الخريج”، من خلال الجلوس أمام “الدست” وشرب المتة أو الشاي على الحطب، إضافة إلى دندنة العديد من الأغاني التراثية واسترجاع كثير من الذكريات، لافتًا إلى تجربة أول وجبة زيت “خريج” بطبخ “البرغل بحمص”، وبالرغم من عدم تفضيل بعض الناس للزيت “على الحامي” (في الطبخ) لأنه ثقيل، فإن طعمًا آخر فيه للبرغل على الحطب وكذلك لخبز التنور، قال “أبو حسن”.
وأوضح أن أكثر أنواع الزيتون التي يُعتمد عليها لصناعة “الخريج” في منطقة بانياس هو النوع الخضراوي السوري، إذ تكون نسبة الزيت فيه أكبر، أما الزيتون المروي فغالبًا ما تكون نسبة الزيت فيه أقل.
وذكر أن سعر زيت “الخريج” أعلى من الزيت العادي، كونه يستهلك وقتًا في السلق والتخمير، بحيث يزيد النصف وأحيانًا الضعف، وفق العرض والطلب، مبينًا أن سعر “البيدون” (عبوة تستوعب 18 ليترًا) الواحد يصل حاليًا إلى مليون ونصف مليون ليرة سورية.
وشرح “أبو حسن” أن زيت “الخريج” سابقًا كان متعدد الاستخدامات، في حين بات يُعتمد عليه حاليًا أكثر لأكلات محددة كالشنكليش، واللبنة، والبيض المسلوق، والبرغل بحمص، وغيرها، كما يقوم بعضهم بخلطه بالزيت النباتي لتخفيفه، مشيرًا إلى أنه غير مُستحب لدى معظم أهالي المدن لعدم اعتيادهم على طعمه.
كلام عن عدم صلاحيته
أثار تصريح سابق لمديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة، عبير جوهر، لوسائل إعلام محلية، حول عدم صلاحية زيت “الخريج” للاستهلاك البشري جدلًا واسعًا، إذ اعتبر بعضهم أنه “مبالغ فيه”، خاصة أن “المنتجين لهذا النوع من الزيت يتغذون عليه منذ عشرات السنوات، والمعمّرون منهم لم يصبهم ضرر بالرغم من تناولهم له بكميات كبيرة”.
وقالت جوهر، إن “أفضل نوع هو الذي ينتج بالعصر الطبيعي للزيتون في المعاصر ويحافظ على جودته وطعمه، أما بالنسبة للزيت الذي ينتج عن الغلي ويطلق عليه شعبيًا (الخريج) فهو موروث شعبي، لكنه غير صالح للاستهلاك البشري، لأنه يحوي على نسب عالية من الحموضة ورقم (البيروكسيد) فيه فوق الـ40، ويتعرض لحرارة عالية ويخمر عدة مرات وأضراره مثبتة علميًا”.
وأسهم انتشار معاصر الزيتون الحديثة، التي تنتج زيت الزيتون بطريقة أكثر ديناميكية وسرعة، بتقليص صناعة زيت “الخريج” إلى حد كبير واقتصارها على “ذوّاقيه” فقط.
ويُعتبر الزيت غير صالح للاستهلاك في حال زادت حموضته على 5%، وتؤكد مصادر علمية ورسمية، أن “حموضة الخريج تفوق ذلك بكثير”، في وقت تحدد منظمة الصحة العالمية 3.3% كأعلى درجة حموضة للزيت.
ويعد الساحل السوري المنتج الأول لزيت “الخريج”، وتحديدًا منطقة جبلة، وقرى بيت ياشوط، حراما، الدالية، دوير بعبدة، القطيلبية، وبسيسين، إضافة إلى معظم قرى منطقة بانياس، أبرزها بلوزة، ولا تخلو موائد البيوت الساحلية من حضوره، لا سيما مع المجدرة، الشنكليش، وصحن اللبنة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :