أوقفوا كل هذا الصراخ

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

سافر الرئيس السوري الأسبوع الماضي إلى روسيا الاتحادية، في أول زيارة له إلى واحدة من أهم الحلفاء التقليديين للنظام السابق، وبطبيعة الحال، لم تمر هذه الخطوة بهدوء، بل أثارت ردود فعل متباينة لدى السوريين، أضافت طبقة جديدة من التعقيد إلى مشهد اجتماعي وسياسي مثقل أصلًا بالتنافر والانقسامات، وكأن المجتمع السوري يحتاج إلى المزيد من الشروخ بين معسكراته المتعددة.

وكالعادة، لم تتأخر الاتهامات الأخلاقية المتبادلة في الظهور، بعض المنتقدين سارعوا إلى اتهام الشرع بأنه تناسى معاناة السوريين وضحاياهم نتيجة القصف الروسي، وللمفارقة، الشرع نفسه، ومعه إدلب تحديدًا، كانا أكثر المتأثرين بالهجمات الجوية الروسية، أي أنه لم يأتِ من فندق فخم في أوروبا ليطلق تصريحاته، بل عاش جسديًا ونفسيًا تحت وطأة تلك الضربات، وذاق خطورة أن يكون في لحظة واحدة هدفًا لسلاح موسكو ومطلوبًا لواشنطن.

في المقابل، رأى آخرون في الزيارة خطوة براغماتية ضرورية لحماية الدولة، هذا التناقض يكشف أحد أوجه الانقسام في الخطاب السوري، غير أن المهم في هذه الاتهامات ليس الخلاف بحد ذاته، فالاختلاف حول التوجهات السياسية لأي دولة، خاصة في علاقاتها الخارجية، أمر صحي وضروري في أي مجتمع، لكن الكارثة في هذا الحامل الأخلاقي الذي يغلّف به كل طرف موقفه من السلطة، فكل معسكر يصر على أنه الممثل الأوحد للأخلاق، فيما يُشيطن الطرف المقابل باعتباره لا أخلاقيًا، خائنًا أو شريرًا. وهنا يدخل عنصر السخرية كأداة إضافية للنفي والاحتقار: فالآخر يُختزل إما في صورة “الداعشي”، “الإرهابي” و”الخائن”، أو يُسخر منه بوصفه “كيوت”، “مائع”، “ناشط بارات برلين”، “جماعة المنظمات”، أو “العنجهية السنية”، هي قائمة لا تنتهي من التسميات التي تنم عن ازدراء واحتقار، أكثر مما تعكس رغبة في النقاش أو الفهم.

لا يترك أي طرف مجالًا للتساؤل عن صحة موقفه أو لفتح باب الحوار، فالحوار مع “الشر” يصبح غير وارد أصلًا، وبذلك يُقطع الطريق على أي إمكانية للنقد الذاتي أو الاعتراف بالتناقضات، هذا المنطق الثنائي، الذي يقسّم العالم إلى خير مطلق وشر مطلق، هو بالضبط ما وصفته ميلاني كلاين بآلية الانقسام (clivage)، حيث تنشطر الذات والموضوع إلى قسمين متعارضين لا يلتقيان: بقايا الشعور بـ”الأم الجيدة” و”الأم السيئة” لدى الطفل، أو صورة “الذات النقية” و”الآخر المدنس” لدى البالغين.

هذا النمط من التفكير يظهر على مستويين، انقسام الأنا (clivage du moi)، حيث تنشطر الذات نفسها إلى جانب نقي مثالي يُنكر كل ما هو عدواني أو مظلم فيها، وجانب آخر يُسقَط بعيدًا أو يُنفى. المستوى الثاني انقسام الموضوع/الآخر (clivage de l’objet)، حيث يُقسّم الآخر إلى موضوع جيد وموضوع سيئ، فلا يُرى ككائن معقّد يحمل تناقضات، بل كشر أو خير مطلق.

في السياق السوري، يظهر هذان المستويان بوضوح، فكل معسكر يحافظ على صورة مثالية عن نفسه وينفي أي إمكانية للاعتراف بأخطائه أو تناقضاته، فيما يُصوّر المعسكر المقابل على أنه موضوع شرير بالكامل، هذه الثنائية ليست فقط آلية نفسية لتخفيف القلق عبر تبسيط العالم، بل تتحول إلى إطار سياسي وأخلاقي يعيد إنتاج الصراع ويمنع أي شكل من أشكال الحوار.

إنها أيضًا واحدة من أشهر آليات الدفاع غير الناضجة، حيث يحمي الإنسان نفسه من القلق عبر الانغلاق على الذات والتشبث بقيم ثابتة وبسيطة تفسر العالم في صورة ثنائية حادة، غير أن الكارثة هنا أن هذه الآلية ليست حكرًا على الصراعات السياسية، بل هي نفسها التي يلجأ إليها الإرهابي حين يقسم العالم إلى خير مطلق وشر مطلق. عندها يصبح الحوار مع “الشر” أمرًا غير وارد، وتغدو مهمته “المقدسة” القضاء عليه، فالشر، بحسب هذا المنطق، ليس موقفًا قابلًا للتغيير، بل جزء من كيان ثابت لا يمكن إصلاحه، وهكذا يُبرَّر العنف بوصفه دفاعًا عن نقاء الذات.

في هذه البيئة، يصبح القبول بمحو الآخر أمرًا ممكنًا ومقبولًا، وهذا ما يفسر ميل كل طرف إلى السكوت، ولو جزئيًا، عن التجاوزات والانتهاكات التي تصدر من معسكره، أو على الأقل عدم تناولها بنفس الحدة التي يواجه بها خصومه، هنا يتحول الصراخ الأخلاقي المشترك إلى أرضية خصبة للعنف والإنكار، أكثر مما هو محاولة للبحث عن حلول أو مساحات مشتركة.

وأمام حالة الاستعصاء هذه، لا يبدو أمامنا من خيار سوى إحداث بعض الفجوات في تلك الجدران الصمّاء ، فجوات تبدأ بالتساؤل عن مدى قدرتنا على ممارسة نقد الذات قبل نقد الآخر، وعن ضرورة الاعتراف بوجود الآخر وآلية تفكيره وحتى مخاوفه، مهما بدت لنا خاطئة أو مبالغًا فيها، فهي موجودة وفاعلة ولا يمكن تجاوزها بالإنكار، سواء كان الآخر درزيًا أو علويًا أو سنيًا أو ضحية لمجازر ارتكبها أي طرف، والأهم من ذلك كله هو تعزيز الاستبصار بالآلية النفسية التي يتبعها كل معسكر في التعامل مع خصومه، والتشجيع على التخلي عنها تدريجيًا، إذ لا سبيل لبناء لغة جديدة للحوار من دون هذه الخطوة المؤلمة والضرورية في آن واحد.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة