موفق الخوجة | وسيم العدوي | عمر علاء الدين
تحول عدو الأمس إلى صديق اليوم، بعدما صافح الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، عقب صعوده درج الكرملين الطويل، في منتصف تشرين الأول الحالي.
موسكو التي منحت اللجوء للرئيس الهارب، بشار الأسد، استقبلت في الكرملين، على مسافة لا تتجاوز خمسة كيلومترات من مكان إقامة الأسد في “موسكوفا سيتي”، الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، برفقة وفد رفيع المستوى.
وحملت الزيارة الكثير من الملفات والدلالات، وواجهت انتقادات قابلتها الإشادات، لكنها شكّلت لحظة مفصلية في علاقة الدولتين.
روسيا التي قصفت سوريا لسنوات، ودعمت الأسد سياسيًا وعسكريًا، وساندته حتى بعد سقوطه، من خلال تهريبه مع رجالاته ومنحه اللجوء الإنساني، تفتح صفحة جديدة مع دمشق الجديدة، لكن عوائق تواجه إعادة العلاقات، أولها حقوقية تتعلق بماضي روسيا في سوريا، خلال السنوات الـ14 الماضية، فضلًا عن علاقات دمشق بالعواصم الغربية، التي تكنّ بعضها العداء لموسكو.
تبحث عنب بلدي في هذا الملف، مع باحثين وأكاديميين وخبراء، أبعاد زيارة الشرع الأولى إلى موسكو، وتناقش أهدافها ودلالاتها، إلى جانب إمكانية تسليم الرئيس المخلوع، بشار الأسد.
أربعة ملفات ترسم العلاقة
ترتبط سوريا مع روسيا بعلاقة سياسية طويلة، تمتد إلى سبعينيات القرن الماضي، منذ عهد الاتحاد السوفييتي، التي عززها الرئيس الأسبق، حافظ الأسد، واستمرت هذه العلاقة إلى عهد الأسد الابن، وشكلت إحدى أبرز ركائز دعم نظامه.
وبعد سقوط النظام السوري السابق، تحولت العلاقة بين الإدارة السورية الجديدة، من الحرب إلى البرود، الذي طغى بداية على المشهد السياسي، وصولًا إلى محاولات تبحث عن تصفير المشكلات واستئناف العلاقات، تكللت مؤخرًا بزيارة الرئيس السوري، أحمد الشرع، إلى الكرملين.
الباحث السياسي السوري الدكتور نادر الخليل، يرى أن زيارة الشرع إلى موسكو ليست مجرد تحرك دبلوماسي عادي، وإنما تشكل “لحظة مفصلية” تعكس براغماتية سياسية، تهدف إلى إعادة تموضع سوريا في خارطة التحالفات الدولية بعد سقوط نظام الأسد.
وأشار إلى أن الملفات المطروحة تكشف عن رغبة في تجاوز “الضغائن” التاريخية لمصلحة مصالح وطنية مباشرة ذات بعد مستقبلي وتكتيكي.
وأثيرت العديد من القضايا بين البلدين، بداية من تسليم الرئيس المخلوع إلى القضاء، سواء المحلي أو الدولي، مرورًا بالقواعد الروسية في سوريا، وعلى رأسها قاعدتا “حميميم” الجوية في اللاذقية، ومرفأ “طرطوس”، إلى جانب قضايا أمنية واقتصادية وعسكرية وإقليمية.
ويرى الباحث ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز “الدراسات العربية الأوراسية”، ديمتري بريجع، خلال حديث إلى عنب بلدي، أن هناك عدة ملفات أساسية تدفع موسكو للحفاظ على هذه العلاقة وتطويرها نحو شراكة أكثر عمقًا، وتتمثل في أربعة ملفات رئيسة:
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين – 15 تشرين الأول 2025 (تاس)
الجنوب السوري
الملف الأول، بحسب بريجع، يتعلق بالجانب الأمني في الجنوب السوري، حيث تسعى روسيا إلى منع أي تصعيد عسكري أو فوضى على حدود الجولان المحتل والحدود الأردنية، بما يحافظ على توازن القوى ويمنع تمدد النفوذ الإسرائيلي أو عودة المجموعات المسلحة.
وقال الباحث، إن موسكو تعتبر الجنوب السوري منطقة اختبار حقيقية لنفوذها الإقليمي، وتسعى إلى لعب دور الضامن لوقف إطلاق النار والاستقرار الأمني هناك.
وسبق أن نشرت روسيا نقاطًا أمنية في منطقة الجنوب السوري، بالقرب من خط فضّ الاشتباك، على الحدود بين سوريا وإسرائيل، منعًا لأي توتر بين الجانبين.
وبعد سقوط النظام، أثير الحديث عن عودة هذه النقاط، وتسيير دوريات روسية، منعًا للتوغل الإسرائيلي الذي تشهده محافظتا درعا والقنيطرة على الحدود.
تسليح الجيش
يتعلق الملف الثاني، وفق الباحث في الشؤون الروسية ديمتري بريجع، بتدريب وتسليح الجيش السوري الجديد، إذ تعمل روسيا على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية ضمن رؤية مهنية حديثة، تشمل دعم وتطوير أنظمة القيادة والسيطرة، وتزويده بمنظومات دفاع جوي متقدمة، وتدريبات على الأسلحة الروسية الحديثة.
يهدف هذا الدعم إلى بناء مؤسسة عسكرية محترفة وقادرة على حماية البلاد وضمان استقرارها، بما يجعل من الجيش السوري ركيزة أساسية في الحفاظ على الأمن الإقليمي والدفاع عن وحدة الأراضي السورية، وفق بريجع.
وقبل زيارة الشرع، وصل وفد عسكري من وزارة الدفاع السورية إلى العاصمة موسكو، في 2 من تشرين الأول الحالي، ترأسه رئيس هيئة الأركان العامة، اللواء علي النعسان.
واطلع الوفد السوري على منظومات الدفاع الجوي، والطائرات المسيرة الاستطلاعية والقتالية المذخرة، إضافة إلى المعدات العسكرية الثقيلة، وذلك في إطار تعزيز التعاون وتبادل الخبرات، وفق بيان لوزارة الدفاع.
وكان الجيش السوري السابق، المنحل حاليًا، يعتمد بشكل كلي على المعسكر الشرقي، المتمثل في روسيا، من ناحية التسليح والهيكلية، وإدارة المؤسسة العسكرية ومناهجها.
مصالح اقتصادية مشتركة
يتمثل الملف الثالث، بحسب الباحث بريجع، في إدخال الشركات الروسية إلى السوق السورية، خصوصًا في مجالات الطاقة، والنفط، وإعادة الإعمار، والنقل، والبنى التحتية.
وترى موسكو في إعادة إعمار سوريا فرصة اقتصادية ضخمة، وتعتبرها امتدادًا لنفوذها الاقتصادي في الشرق الأوسط، مما يعزز حضورها كمنافس مباشر للغرب في المنطقة، وفق بريجع.
الباحث نادر الخليل، يرى من جانبه أن موسكو قادرة على توفير موارد حيوية خارج العقوبات الغربية، فضلًا عن عودة شركات مثل “تاتنفت” المتخصصة بالنفط، و”غوزناك” المتخصصة بطباعة الأموال النقدية، ما يعكس شراكة عملية لا أيديولوجية.
كما يجري الحديث عن إنشاء صندوق استثماري سوري- روسي مشترك، يهدف إلى تمويل مشاريع إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد المحلي، عبر شراكات تجمع بين القطاعين العام والخاص من الجانبين.
واعتبر ديمتري بريجع أن هذا الصندوق سيُعد رافعة مالية لتنفيذ المشاريع الكبرى وتوفير السيولة اللازمة دون الاعتماد على مؤسسات التمويل الغربية.
المقاتلون الأجانب
يرتبط الملف الرابع، بحسب ما يرى الباحث بريجع، بقضية المقاتلين الأجانب المنحدرين من الجمهوريات الروسية، المنضوين في الجيش الجديد.
ويعتقد بريجع أن روسيا ترى في بقاء ما أسماها “بؤر التطرف” تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، إذ اعتبر أن ملف المقاتلين الأجانب من أخطر الملفات التي تواجه الدولة السورية في المرحلة الحالية، وهو من القضايا التي تضعها موسكو ودمشق في صلب التعاون الأمني والعسكري بينهما.
ويرى أن وجود آلاف المقاتلين الذين دخلوا إلى سوريا خلال سنوات الحرب لا يزال يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الداخلي، وللسيادة السورية، وللأمن الإقليمي بشكل عام.
ويعتقد أن هذا الملف أصبح اليوم ملفًا مشتركًا سوريًا- روسيًا من الدرجة الأولى، لأن تداعياته لا تقتصر على سوريا فقط، بل تمتد إلى العمق الروسي نفسه.
كثير من هؤلاء المقاتلين ينتمون إلى جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى، وبعضهم يحمل خبرات قتالية اكتسبها خلال الحرب، ما يجعل احتمالية عودتهم إلى بلدانهم الأصلية مصدر قلق دائم لموسكو.
وتعمل موسكو حاليًا مع دمشق على إعادة هيكلة آليات التعامل مع هذا الملف، بحيث تشمل الجانب العسكري والاستخباراتي والإنساني في آن واحد، بحسب بريجع.
على المستوى الميداني، يجري إعداد خطط مشتركة لـ”تطهير” مناطق الشمال والبادية من “فلول” الجماعات المسلحة ذات الطابع الأجنبي، وخاصة في إدلب وريف حلب الشرقي، حيث لا يزال نشاطها قائمًا بدعم خارجي.
أما على المستوى الاستخباراتي، فقد تم الاتفاق على إنشاء قنوات تنسيق لتبادل المعلومات، وتعقب شبكات التمويل والتهريب التي تغذيها عبر الحدود التركية والعراقية، بحسب الباحث بريجع.
من جانب آخر، أشار الباحث بريجع إلى اهتمام روسي خاص بإطلاق برامج لإعادة التأهيل الفكري والإنساني للعناصر الذين لم يتورطوا في “جرائم” مباشرة، كجزء من مشروع المصالحة الوطنية في سوريا.
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع بجانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو – 15 تشرين الأول 2025 (الخارجية السورية)
ماذا لو تجاهلت دمشق موسكو
تلقت الإدارة السورية العديد من الانتقادات، وخاصة من الشارع الثوري، بسبب علاقات دمشق مع موسكو، ودور الأخيرة في دعم نظام الأسد المخلوع.
وفي هذا الصدد، تثار الأسئلة حول النتائج المتوقعة في حال تجاهلت الحكومة السورية روسيا، ورفضت التعامل معها وإعادة العلاقات.
الباحث السياسي نادر الخليل، قال لعنب بلدي، إن روسيا لاعب دولي لا يمكن تجاهله، ويدرك الرئيس السوري ذلك.
بالمقابل، يرى أن تكون العلاقة الجديدة محدودة ومشروطة، بما يضمن مصالح سوريا دون تكرار أخطاء التبعية السابقة، مشيرًا إلى أن البراغماتية تتجاوز العاطفة لمصلحة الاستقرار.
ويرجح الباحث السوري، الخليل، أن قطع العلاقات مع روسيا سيؤدي إلى فوضى، حيث يحتاج الشرع إلى روسيا كـ”موازن” ضد الضغوط الإسرائيلية والتركية وغيرها، داعيًا إلى السعي لعلاقات متوازنة لضمان الاستقرار السوري.
وأوضح أن القطيعة ستكون مكلفة على أربعة مستويات، الأول اقتصادي، فخسارة الدعم الروسي تعني تفاقم الأزمة القائمة في سوريا، والثاني أمني يتعلق بوجود احتمال دعم روسي لفصائل مناوئة أو فرض وجودها بالقوة، إذ تشير تقارير إعلامية إلى دور لعبته قاعدة “حميميم” في اللاذقية، لدعم عناصر النظام السابق خلال أحداث الساحل، في آذار الماضي.
على المستوى الدبلوماسي، يربط الخليل القطيعة مع موسكو بفقدان الغطاء الروسي في مجلس الأمن وعزل دمشق دوليًا. أما على الجانب الإقليمي، فسيؤدي قطع العلاقات إلى تعقيد الوساطة مع تركيا وإيران، وزيادة العزلة.
تسليم الأسد.. رهن الآليات
أثار طلب الرئيس السوري، أحمد الشرع، من نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، تسليم الرئيس المخلوع، بشار الأسد، خلال زيارته إلى موسكو، نقاشًا واسعًا حول البعد القانوني والسياسي لهذه الخطوة التي تمثل مطلبًا شعبيًا سوريًا، لمحاكمة رئيس النظام السابق ورموزه، على الجرائم المقترفة بحق الشعب السوري.
الطلب السوري، أكده نائب مدير إدارة روسيا وشرق أوروبا في وزارة الخارجية والمغتربين، أشهد صليبي، في تصريحات صحفية، قال فيها إن الرئيس الشرع طالب نظيره الروسي بتسليم الأسد بشكل واضح وأكثر من مرة، وأبدى الجانب الروسي تفهُّمًا واضحًا تجاه تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا.
لكن صليبي ربط تسليم المطلوبين إلى سوريا بوضع آليات قانونية جديدة، وأضاف أن سوريا تسعى في هذه المرحلة لتحقيق الاستقرار الأمني عبر إنجاز العدالة الانتقالية كأساس للاستقرار الشامل، وتم الاتفاق مع روسيا على وضع آليات قانونية جديدة للتعاون في ملف المطلوبين والملفات العالقة، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه تم بحث ملف المطلوبين من رؤوس “المجرمين” الأمنيين والعسكريين السوريين المقيمين حاليًا في موسكو.
اتفاقية تسليم وقّعها الأسد.. قد تؤدي إلى تسليمه
يبلغ عدد اتفاقيات تسليم “المجرمين” الموقّعة بين سوريا ودول العالم حوالي 23 اتفاقية مع دول عربية وأجنبية، من ضمنها اتفاقية تسليم لـ”المجرمين” موقّعة بين سوريا وروسيا، قُدمت من قبل مجلس الوزراء الروسي في عام 2022 بناء على اقتراح سوري، ووافق عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأصدر رئيس النظام السوري السابق، الأسد، مرسومًا بالتصديق عليها آنذاك.
وأشار إلى الاتفاقية المحامي محمد الحربلية، الباحث والخبير في القانون الدولي، في حديث إلى عنب بلدي، بالقول إن الرئيس المخلوع أصدر، في تشرين الأول 2022، المرسومين “32” و”33″ للتصديق على اتفاقيتي تسليم “المجرمين”، والتعاون القانوني المتبادل مع روسيا لمكافحة الجريمة بين البلدين، وصدّق مجلس “الدوما” الروسي على الاتفاقيتين، في نيسان 2023.
وأكد المحامي الحربلية أن الاتفاقيتين لا تزالان ساريتي المفعول حتى الآن، أي أن بشار الأسد قد يتم جلبه للمحاكمة في سوريا بموجب اتفاقية سبق وأن سعى إليها ووقّعها لتبادل تسليم “المجرمين” بين سوريا وروسيا الاتحادية.
المرسوم رقم “32”
تصدّق اتفاقية التعاون القانوني المتبادل في القضايا الجزائية الموقّعة في بطرسبورغ بتاريخ 29 من حزيران 2022 من قبل وزير العدل نيابة عن حكومة الجمهورية العربية السورية ووزير العدل نيابة عن حكومة روسيا الاتحادية.
المرسوم رقم “33”
تصدّق اتفاقية تسليم المحكومين الموقعة في بطرسبورغ بتاريخ 29 من حزيران 2022 من قبل وزير العدل نيابة عن حكومة الجمهورية العربية السورية ووزير العدل نيابة عن حكومة روسيا الاتحادية.
عقوبة الإعدام قد تمنع تسليم الأسد
تكشف اتفاقية “تسليم المجرمين” الموقّعة بين سوريا وروسيا عن معضلة حقيقية حول ملف مرتكبي “الجرائم”، بمن في ذلك بشار الأسد ورموز نظامه، قال المحامي محمد الحربلية، إذ تؤكد الاتفاقية بوضوح على تسليم مرتكبي الجرائم الجنائية العادية، باستثناء الجرائم السياسية أو الحالات التي قد يعاقب عليها بالإعدام (ما لم تقدم الدولة طالبة التسليم ضمانات بعدم تنفيذ العقوبة)، وهذا الأمر يفتح باب النقاش حول حدود الالتزامات القانونية ومبدأ سيادة الدولة في هذه القضايا.
من جهة، يُعتبر الأسد ورفاقه ضمن فئة الجرائم الخطيرة التي يفرض القانون الدولي تسليم مرتكبيها، بما يشمل “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” والإبادة الجماعية، ما يجعل منح روسيا حق اللجوء لهم أمرًا غير متوافق مع المواثيق الدولية، والاتفاقيات الدولية المتعددة، من اتفاقية منع الإبادة الجماعية إلى اتفاقيات جنيف ومناهضة التعذيب، التي تؤكد أن الدول التي تؤوي مرتكبي هذه الجرائم ملزمة بتسليمهم أو بمحاكمتهم على أراضيها.
ولكن من جهة أخرى، تمنح الاتفاقية روسيا مخرجًا قانونيًا مؤقتًا يمكنها التذرع به، وهو أن تسليم المطلوبين قد يعرضهم لعقوبة الإعدام، وهو شرط مقبول في القانون الدولي لرفض التسليم.
هذا الموقف يضع موسكو أمام مفترق طرق حقيقي، حيث يجب عليها الموازنة بين التزاماتها القانونية الدولية وموقفها السياسي الداخلي، ما يجعل ملف الأسد ورفاقه واحدًا من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في العلاقات السورية- الروسية.
ما موقف القانون الدولي
من حيث المبدأ، يعتبر قرار تسليم المجرمين قرارًا سياديًا، أي يتعلق بسيادة أي دولة كانت، بحسب ما أكده الخبير بالقانون الدولي، لكنه رغم ذلك يجب ألا يتنافى مع ما ورد في نصوص الاتفاقيات الدولية التي تفرض على الدولة التي تؤوي مرتكبي “جرائم” القانون الدولي (مثل بشار الأسد ورموز نظامه) كـ”جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” والإبادة الجماعية، إما تسليم المطلوب إلى الدولة الطالبة وإما محاكمته لديها.
وجاء النص على ما تقدم، أضاف الحربلية، في العديد من الاتفاقيات الدولية، منها اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1948، واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006.
وأكد المحامي الحربلية، أن جميع الاتفاقيات السابقة تعني أن قيام روسيا بمنح حق اللجوء الإنساني لبشار الأسد ورموز نظامه يتعارض مع القانون الدولي، الأمر الذي يزيد من حجم التساؤلات حول أسباب قيام روسيا بمنح حق اللجوء الإنساني للأسد وأعوانه.
قرار أممي يلزم روسيا بتسليم الأسد أو محاكمته
أشار الخبير بالقانون الدولي محمد الحربلية، إلى أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم “3074” لعام 1973، يكتسب أهمية خاصة لشموله، والتوصيف القانوني الدقيق في نصه، بهدف ضمان عدم إفلات مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من العقاب، حيث تعلن الأمم المتحدة بموجبه عددًا من مبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي:
- أن تكون جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أيًا كان المكان الذي ارتكبت فيه، موضع تحقيق، ويكون الأشخاص الذين تقوم دلائل على أنهم قد ارتكبوا الجرائم المذكورة محل تعقب وتوقيف ومحاكمة، ويعاقبون إذا وجدوا مذنبين.
- لكل دولة الحق في محاكمة مواطنيها بسبب جرائم الحرب أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
- تتعاون الدول بعضها مع بعض، على أساس ثنائي ومتعدد الأطراف، بغية وقف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والحيلولة دون وقوعها، وتتخذ على كلا الصعيدين الداخلي والدولي التدابير اللازمة لهذا الغرض.
- تؤازر الدول بعضها بعضًا في تعقب واعتقال ومحاكمة الذين يشتبه بأنهم ارتكبوا مثل هذه الجرائم، وفي معاقبتهم إذا وجدوا مذنبين.
- يقدم للمحاكمة الأشخاص الذين تقوم ضدهم دلائل على أنهم ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ويعاقبون إذا وجدوا مذنبين، وذلك، كقاعدة عامة، في البلدان التي ارتكبوا فيها هذه الجرائم، وفي هذا الصدد، تتعاون الدول في كل ما يتصل بتسليم هؤلاء الأشخاص.
- تتعاون الدول بعضها مع بعض في جمع المعلومات والدلائل التي من شأنها أن تساعد على تقديم الأشخاص المشار إليهم سابقًا، إلى المحاكمة، وتتبادل هذه المعلومات.
- لا يجوز للدول منح ملجأ لأي شخص توجد دواعٍ جدية للظن بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية.
- لا تتخذ الدول أي تدابير، تشريعية أو غير تشريعية، قد يكون فيها مساس بما أخذته على عاتقها من التزامات دولية فيما يتعلق بتعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
- تتصرف الدول، حين تتعاون بغية تعقب واعتقال وتسليم الأشخاص الذين تقوم دلائل على أنهم ارتكبوا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ومعاقبتهم إذا وجدوا مذنبين، وفقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقًا للميثاق.
خطوتان واجبتان..
وجهة نظر حقوقية
لم يكن الوجود الروسي في سوريا عابرًا، حيث شاركت موسكو بقوة في دعم نظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية، بداية على الصعيد السياسي، واستخدام حق “النقض” (الفيتو) في مجلس الأمن، لمصلحة الرئيس المخلوع.
وتعزز دعم موسكو بتدخلها عسكريًا، في 30 من أيلول 2015، الذي قلب الموازين لمصلحة النظام السابق، وغيّر من خرائط السيطرة، عبر قضم مناطق سيطرة المعارضة.
ويرى المختص في القانون الجنائي وحقوق الإنسان المعتصم الكيلاني، خلال حديث إلى عنب بلدي، أن الجانب السلبي الأساسي لمثل هذه الزيارة هو أنها قد تُقدم سياسيًا كنوع من إعادة التطبيع قبل تحقيق العدالة، موضحًا أن ذلك يُضعف الثقة لدى الضحايا وذويهم، ويُعطي انطباعًا بأن العدالة يمكن تجاوزها باتفاقات سياسية أو رمزية، بدل أن تكون أساس أي مسار للحل.
ويعتقد أن “الخطأ الأكبر” هو تحويل الزيارة إلى بوابة لإعادة العلاقات دون وضع شروط واضحة تتعلق بمحاسبة المتورطين، وكشف مصير المختفين قسرًا، وتعويض المتضررين وتسليم مجرمي الحرب.
مطالب بالتعويض
إعادة بناء أي علاقة بين دمشق وموسكو بعد هذا التاريخ الطويل من الانتهاكات يجب أن تبدأ من الاعتراف بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية، لا من المصالح السياسية فقط، وفق ما يراه الكيلاني.
وحدد الكيلاني خطوتين في هذا المسار يجب على روسيا أن تتخذهما، وتكون الأولى بأن تتحمل مسؤولياتها وتعترف بجرائم الحرب المرتكبة، والثانية أن تعوض روسيا الضحايا وأن تسهم بإعادة إعمار ما دمرته الماكينة العسكرية، عبر التزام الطرفين بإنشاء آلية وطنية مستقلة للحقيقة والمساءلة تُعنى بجبر الضرر.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلتقي رئيس النظام السوري بشار الأسد في موسكو- 15 من آذار 2023 (رئاسة الجمهورية)
يكسره تعليق أممي
صمت أمريكي- أوروبي
زيارة الرئيس السوري إلى موسكو ذات أثر على ملفات تتعلق بالإقليم والعالم وعلاقات سوريا الجديدة مع أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن صمتًا دوليًا رافق الزيارة، ما أثار تساؤلات حول موقف هذه الدول منها.
ورغم أن العلاقات السورية مع أوكرانيا (عدو روسيا الحالي وحليف الأوروبيين والأمريكيين) تبدو في تحسن مستمر، إضافة إلى تطور العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لم تعلق هذه الدول التي اشترطت بعد سقوط النظام خروج القواعد الروسية من سوريا.
هذا الصمت، كسرته الأمم المتحدة، التي كانت أول المعلقين على الزيارة حيث اعتبر المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن وجود الشرع في موسكو “مهم”.
وقال في تصريحات لقناة “روسيا اليوم”، في 16 من تشرين الأول، “من المهم لسوريا أن تُرسخ علاقاتها ليس فقط مع جيرانها، بل مع جميع الدول”.
ضوء أخضر أمريكي
تواجه إدارة ترامب حالة من الانقسام بشأن كيفية الرد على الوجود العسكري الروسي في سوريا، وما إذا كان ينبغي لها أن تطلب من الحكومة الجديدة إخراج القوات الروسية من القاعدة البحرية والجوية غربي سوريا، وفق ما ذكرته صحيفة “The Hill” الأمريكية، في 6 من نيسان الماضي.
ونقلت الصحيفة عن مصدر وصفته بـ”المطلع” (لم تسمّه) قوله، إن “هناك جدلًا داخليًا واسع النطاق داخل الإدارة حول الموقف الذي يجب اتخاذه تجاه القاعدة الروسية. ونوقش هذا الأمر داخل وزارة الخارجية والبيت الأبيض، وكان هناك ضغط من بعض أعضاء الإدارة لإزالة القاعدة الروسية”.
وأضاف المصدر أن إخراج القوات الروسية “ليس مطلوبًا حاليًا من السوريين مقابل رفع العقوبات”.
من جانبها، رفضت الخارجية الأمريكية التعليق على سؤال عنب بلدي، في 16 من تشرين الأول الحالي، حول زيارة الشرع إلى روسيا وبقاء القواعد الروسية، وعزت ذلك إلى الإغلاق الحكومي الذي تشهده الولايات المتحدة.
الصحفي السوري المقيم في الولايات المتحدة محمد عبد الرحيم، يرى أن واشنطن لم تعلق على زيارة الشرع لـ”أسباب مفهومة”، لأن علاقتها مع موسكو تمر الآن بـ”ظروف دقيقة بسبب الحرب في أوكرانيا”.
وفي حديث إلى عنب بلدي، اعتبر الصحفي أن واشنطن لا تستطيع تأييد هذا التقارب، لأن كل حلفائها الغربيين هم ضد أي تقارب سوري- روسي، وطالبوا دمشق علنًا بقطع أي علاقة مع موسكو.
لكن يمكن الاستدلال على موافقة واشنطن على هذه الخطوة بأن سلطات دمشق لم تكن لتقدم عليها لولا وجود موافقة صامتة من واشنطن، فالحكومة السورية ليست بوارد أي صدام مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت.
واشنطن تحث على دور روسي في سوريا
يعتقد الصحفي السوري أن واشنطن تحتاج إلى دور روسي في سوريا، يتمثل بعدم انجرار تركيا وإسرائيل لمواجهة في سوريا، كما أن الوجود الروسي في الساحل السوري يقدم تطمينات لتل أبيب أن المواني السورية لن تُستخدم لنقل أسلحة إلى ما سماها “فصائل متطرفة”.
وتحاول دمشق استغلال علاقات بوتين مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، معتبرًا أن حالة التقارب هذه تخدم أطرافًا متعددة كلها صديقة لواشنطن، مثل أنقرة وتل أبيب.
ربما عبّر بعض أعضاء الكونجرس عن غضبهم، ولكنهم ليسوا جزءًا من المؤسسات الفاعلة، هذا الغضب آتٍ من تصور أن سوريا الجديدة يجب أن تكون على قطيعة كاملة مع ماضيها الدائر في الفلك السوفييتي، وأن النظام الجديد يجب أن ينتمي للغرب واقتصاد السوق.
لكن يبدو التصور في واشنطن أن تصبح دمشق على قطيعة مع موسكو غير واقعي.
محمد عبد الرحيم
صحفي سوري
عضو الكونجرس الأمريكي جو ويلسون، المعروف بمناصرته للثورة السورية ودعمه للحكومة السورية، دعا لإخراج القواعد الروسية من سوريا، وقال عبر منصة “إكس”، في 15 من تشرين الأول، إنه “يجب بذل كل الجهود لإزالة قواعد بوتين المجرمة القاتلة من سوريا”.
واعتبر الصحفي السوري محمد عبد الرحيم، أن واشنطن تفهم كل هذه التعقيدات التي تمر بها العلاقات بين سوريا وروسيا بدءًا من بناء الجيش السوري والديون والاستثمارات والحلف القديم الممتد قرابة 80 عامًا، حيث يمكن أن تقدم موسكو السلاح مقابل المنتجات بينما الدول الغربية لا تفعل ذلك.
في أوروبا.. من الصمت إلى القلق ثم الذعر
عقب سقوط نظام الأسد، حملت الوفود الأوروبية القادمة إلى سوريا الجديدة عددًا من المطالب، أبرزها إخراج روسيا من سوريا كليًا، حيث تجلى ذلك بعدة تصريحات أبرزها لوزيرة الخارجية الألمانية السابقة، أنالينا بيربوك، التي طالبت خلال زيارتها إلى دمشق، في 3 من كانون الثاني الماضي، بانسحاب القوات الروسية من سوريا، مشيرة إلى أن فلاديمير بوتين قدم دعمًا طويل الأمد لبشار الأسد وغطى على جرائم النظام السابق وساندها.
منسق الحكومة الألمانية لشؤون سوريا، توماس ليندنر، قال لمجلة “دير شبيغل” الألمانية، في 16 من كانون الثاني الماضي، إن الوجود العسكري الروسي في سوريا “له آثار أوسع على أمن أوروبا”، وإن روسيا تشكل “أكبر تهديد للأمن الأوروبي في المستقبل المنظور”.
الباحثة الفرنسية والمتخصصة في السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط دوروثي شميد (Dorothée Schmid)، ترى أن رفض الأوروبيين للوجود الروسي في سوريا يعود إلى عدة عوامل أبرزها تهميشهم في “الصراع السوري” الذي جسدته روسيا، حيث دعمت موسكو ذلك النظام بينما طالب الأوروبيون بإسقاطه.
وأضافت شميد، في حديث إلى عنب بلدي، أن الوجود الروسي في البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا أمر “يُقلق الأوروبيين استراتيجيًا”، والقلق الأكبر من أن يستعيد بوتين “موطئ قدم دبلوماسي وعسكري في الشرق الأوسط”.
وباعتقاد الباحثة الفرنسية، فإن تجاهل التعليق على لقاء الشرع وبوتين من قبل أوروبا، يعود إلى “جهل الأوروبيين الحالي بالتوازن الجيوسياسي المحيط بسوريا” ونظرة سلبية للنظام السوري الجديد أو “نظرة حذرة للغاية”، لأن “ماضي الشرع الجهادي ما زال موضع شك”، ورعاة الحكم الجديد في سوريا هم دول الخليج وتركيا.
شميد أرجعت تجاهل أوروبا للتقارب السوري- الروسي إلى نوع من “قصر النظر الاستراتيجي” الذي يكرسه بوتين نفسه، من خلال ضغوط شديدة يمارسها حاليًا على العديد من جيران روسيا الأوروبيين.
وقالت إن “هذا يُسبب ذعرًا أوروبيًا يمنعنا من التفكير بشكل أوسع في إعادة الانتشار الروسي، ومن إدراك أن إعادة الانتشار هذه تجري أيضًا في الشرق الأوسط، ناهيك بالقوقاز”.
وبسؤالها عما إذا كان هناك موقف مشترك أو رؤية للموقف من دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أجابت الباحثة الفرنسية، بأنها لا تعتقد أن هناك موقفًا أوروبيًا مشتركًا بشأن عودة روسيا إلى سوريا، و”هو ما يعتبره معظم المحللين الأوروبيين مفاجئًا”، على حد قولها.
وقالت، “على الأقل، هذا هو الحال في فرنسا، بينما في الواقع، لو تابعنا الأمر من البداية، فمنذ تولي أحمد الشرع منصبه، لم تنقطع العلاقات مع روسيا، الأمر فقط أنهم اليوم يتخذون منعطفًا أكثر مؤسسية وانتظامًا”.
وبالنسبة لفرنسا، ترى الباحثة أن باريس منشغلة بالوضع الفلسطيني، وهو ما شعرت أنها قد تجد فيه فائدة، بينما لا تزال مترددة في مسألة إعادة إعمار سوريا.
في ألمانيا، التي تعد من أقوى معارضي بوتين داخل الاتحاد الأوروبي، تعتقد الباحثة أن برلين قلقة للغاية بشأن ما يحدث في أوروبا الوسطى والشرقية، و”تنظر إلى الشرق الأوسط بشكل أقل بكثير”.
أما بريطانيا، فوفق تحليل دورثي شميد، فتمر بمرحلة من “الحذر الهيكلي” تجاه سوريا.
وأشارت إلى أن الأوروبيين يظلون “لاعبًا هامشيًا” إلى حد ما في هذا المجال، لأنهم يدركون أنهم لا يملكون القرار، ويعتبرون أن المواجهة مع روسيا سوف تدور على الأراضي الأوروبية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :