يخفي تاريخ المدينة وثقافتها

“سور دمشق” أعلى من جدليّة “جوّا” و”برّا”

باب شرقي أحد أبواب دمشق السبعة والذي يعد من داخل سورها - 22 تشرين الأول 2025 (عنب بلدي/كريستينا الشماس)

camera iconباب شرقي أحد أبواب دمشق السبعة والذي يعد من داخل سورها - 22 تشرين الأول 2025 (عنب بلدي/كريستينا الشماس)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – كريستينا الشماس

إذا كنت من مدينة دمشق فلا بد أنه وُجّه لك سؤال مرة على الأقل في حال كنت من داخل السور أو من خارجه، عبارة قد تكون مبهمة لبعض الناس لكنها تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا وذاكرة مجتمعية.

ولا يزال هذا السؤال متداولًا في أحاديث الدمشقيين حتى الآن، لكنه لم يعد يحمل المعنى ذاته الذي كان يحمله في السابق، فكانت عبارة “من جوّا السور”، تحدد موقع العائلة في خريطة الانتماء الدمشقي ومدى أصالتها، لتصبح اليوم أقرب إلى نكتة محلية أو ذكرى يرويها الأجداد.

تختزل عبارة “من جوّا السور أو من برّا” تاريخًا من التوسع العمراني، والانتقال الاجتماعي بين المدينة القديمة التي كانت محصنة بأسوارها، وبين الأحياء التي نمت خارجها، ومع تغيّر الزمن بقيت الكلمات، لكن دلالاتها تراجعت أمام تحولات الناس وحياتهم.

بين السور والذاكرة

قديمًا، شكّل السور الذي يحيط بالمدينة القديمة في دمشق حدًا دفاعيًا يفصل الداخل عن الخارج، ويميز المدينة المسوّرة عن أراضيها الزراعية والطرق المؤدية إلى الغوطة.

وأصبح السور مع مرور الزمن رمزًا ثقافيًا أكثر منه أثرًا معماريًا، فـ“جوّا السور” لم تعد تعني فقط العيش داخل حدود المدينة القديمة، بل الانتماء إلى العائلات التي ولدت فيها جيلًا بعد جيل.

هاغوب أروشان (66 عامًا)، من أصول أرمنية وعاش طيلة حياته في حي باب توما، تحدث لعنب بلدي، أنه عاش مع عائلات دمشقية عريقة، فكانت عبارة “جوّا السور” تشير إلى العائلات الدمشقية الأصيلة.

وأوضح هاغوب أنه لمجرد ذكر اسم عائلتك وكنت من داخل السور، يتم تلقائيًا التعرف على تاريخ العائلة وجذورها.

“لطالما كنت شاهدًا على جلسات دمشقية، يُتنافس فيها على رقم خانة العائلة، فإذا كنت دمشقيًا ومن داخل السور ورقم خانتك في الهوية الشخصية أقرب للرقم (1)، فهذا يعني أنك دمشقي أصيل أبًا عن جد”، قال هاغوب.

وأوضح عماد نجم، من حي القيمرية، أن الفارق بين “جوّا وبرّا السور”، لم يكن ماديًا بقدر ما هو شعور بالانتماء.

وأشار عماد إلى أن الدمشقيين الذين من داخل السور، كانوا يشعرون أنهم سكان دمشق الأصليين، وكل من هو خارج السور كان يُنظر إليه كوافد جديد على المنطقة.

انتماء متغير بين الأجيال

في النصف الثاني من القرن الـ20، ومع توسع دمشق خارج أسوارها القديمة نحو المهاجرين والبرزة والميدان، بدأ مفهوم “برّا السور” يأخذ شكلًا جديدًا، فكثير من العائلات التي خرجت من المدينة القديمة استقرت في أحياء حديثة، لكنها ظلت تحتفظ برمزية “البيت القديم”.

خالد جمعة، شاب يعيش في حي باب شرقي، اعتبر أن هذه العبارة باتت تُستخدم اليوم بروح الدعابة لا التمييز.

واعتبر خالد أن بعض كبار السن ما زالوا يتعاملون مع الموضوع من باب الفخر بالمكان، مضيفًا أن هناك أشخاصًا يعتبرون أن العائلات من “جوّا السور” تمتلك تاريخًا أطول، ولكن الجيل الجديد ينظر إلى القصة من ناحية “حكايات التراث”.

ومن وجهة نظر عماد نجم، يرى أن استخدام المصطلح تغير تمامًا خلال الفترة الأخيرة.

“اعتدنا سماعها كثيرًا عندما كنا صغارًا، وكان الكبار يعتبرون أهل (جوّا السور) مميزين، لكن اليوم ما يجمع عائلات (برا وجوا السور) ذات الحياة والهموم التي يعيشها كل سوري”، بحسب قوله.

الذاكرة تتبدل.. والهوية تبقى

ارتبطت عبارة “جوّا السور” خلال العقود الماضية بسمعة اجتماعية محددة، وفي بعض العائلات، كان يُنظر إلى الزواج من “برّا السور” بتحفّظ، باعتبار أن الدمشقي الأصيل هو من داخل الأسوار، إلا أن هذا التقسيم لم يعد يحمل الوزن نفسه بعد التغيرات الديموغرافية والحروب والنزوح.

ماري شاهين، تعيش في حي القصاع، ترى أن قصة “جوّا السور وبرّا السور” أصبحت جزءًا من القصص التي يرويها الكبار، أكثر من كونها تعبيرًا عن واقع اجتماعي.

وحول رأيها بتشبث بعض العائلات بالنسب من “داخل السور”، أجابت مبتسمة، “باتت من قصص زمان، فاليوم إذا سألوك من أين، تجيبهم فقط من الشام، فلم يعد أحد يسأل أكثر من ذلك”.

واعتبرت ماري أن العبارة اليوم لم تعد تقال لتفرّق، بل لتذكّر بتاريخ المدينة، وتُستعاد كجزء من الحنين الدمشقي.

ومن وجهة نظر هاغوب أروشان، تحولت عبارة “جوّا السور” من علامة طبقية إلى ذاكرة لغوية، ومن معيار للانتماء إلى إشارة تراثية، تجمع الدمشقيين أكثر مما تفرقهم.

ويرى هاغوب أن ما تبقى من الأسوار اليوم ليس الحجارة القديمة، بل حنين الناس إلى هوية ظلت رغم التبدل، قائمة في الوجدان.

سور دمشق وأبوابها

سور دمشق القديم وأبوابها أحد أبرز شواهد العمران والتحصين في تاريخ المدينة، فبالرغم من أن دمشق من أقدم مدن الأرض، فقد أُحيطت في العهد الروماني بسور حجري عريض مستطيل الشكل، بُني بالأحجار الضخمة وزُوّد بعدة  أبواب (سبعة في الأصل) كجزء من نظام دفاعي وحضري، وهذه الأبواب هي: باب الفراديس، باب الجنيق، باب توما، باب شرقي، باب كيسان، باب الصغير، باب الجابية، وبعضها لا يزال في موضعه الأصلي وبعضها الآخر أُزيل.

هذا السور كان يفصل “المدينة المسوّرة” عن محيطها الزراعي والطرق المؤدية إلى الغوطة، وكان مدخله يتم عبر أبواب رئيسة، مثل الباب الشرقي (المعروف أيضًا بـ“باب الشمس”).

ومع الزمن تغيرت وظيفة السور من حماية عسكرية إلى حدود معمارية تشيد بها المدينة وتعبر عن تاريخها، ففي العهد الإسلامي والأيوبي والمملوكي والعثماني جرت عليه ترميمات وتعديلات، وباتت بعض أجزائه تستخدم كمكون عمراني داخل نسيج المدينة.

سور دمشق ليس مجرد جدار حجري، بل مرآة تعكس مراحل تطور دمشق من مدينة محصنة إلى مدينة مفتوحة، ومن مركز حضري مغلق إلى نسيج ممتد خارج الأسوار.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة