تغير المناخ وعدالة تحولية ممكنة (1)

tag icon ع ع ع

لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي

تتطلب التحديات البيئية والمناخية والاقتصادية الراهنة، ومستويات انعدام الأمن المائي والغذائي في سوريا، فهمًا عميقًا للأسباب السياسية التي أدت إلى ظاهرة تغير المناخ، وتحتاج إلى أطر تفكير وعمل اقتصادية- سياسية غير تلك التقليدية، والنيوليبرالية، التي أوصلت كوكب الأرض إلى أزمته المناخية الحالية.

تغير المناخ.. ظاهرة سياسية- اقتصادية

أثبتت فروع عدة من العلوم، كعلم الغلاف الجوي وعلم المناخ القديم وعلم الظواهر الطبيعية وعلم المحيطات، أن النشاط البشري إبان الثورة الصناعية، أي مع صعود الرأسمالية الحديثة، هو المسؤول الأساسي عن ظاهرة تغير المناخ وموجة الانقراض الجماعي السادسة، التي يصنفها بعض علماء الأحياء بالموجة الأشد تسارعًا في تاريخ الأرض.

أما قطاعات أكاديمية أخرى، مثل الدراسات البيئية السياسية والنسوية البيئية، وهما مجالان يبحثان في العلاقات بين النظم السياسية الاقتصادية وآثارها على البيئة والكائنات الحية والمجتمعات، فتوضح أن العقلية الرأسمالية والاستعمارية، وما تطور عنهما من نظم،  تتعامل مع الطبيعة وكائناتها، ومع الأرض والإنسان، على أنهم جميعًا سلع تدر الأرباح على أصحاب رؤوس الأموال، أو أشياء لا قيمة لها، يمكن التخلص منها (disposable)، من أجل إقامة مشروع هيمنة أو “استثمار” لتوسيع النفوذ، وتعزير السلطة، ومراكمة القوة والثروة في قمة الهرم.

وعليه، فإن المنظومة الاقتصادية السياسية العالمية الحديثة، أي النيوليبرالية العالمية، هي نموذج سياسي- اقتصادي غير مستدام، يستنزف إمكانيات الأرض المحدودة من معادن وطاقة ومياه وغابات وتُرب، ويلوثها، ويدمرها، ويستغل هياكل الهيمنة السياسية العالمية والمحلية، بحسب السياق، ويُشعل الحروب والنزاعات على الموارد، ويراكم المزيد من المظالم الهيكلية والأزمات الطبيعية والإنسانية. لذلك، وجب تغير إطار التفكير والعمل، وإعادة صياغة الاقتصاد ليكون علمًا اجتماعيًا يدعم أطر العدالة الاجتماعية والبيئية والمناخية.

تجليات تغير المناخ والدمار البيئي في سوريا

ظهرت تجليات تغير المناخ في منطقتنا بشكل واضح في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، حيث تشير إحدى الدراسات إلى أن مناخ المنطقة بين 1998 و2012 كان أكثر جفافًا بنسبة 50% مقارنة مع الفترة الأكثر جفافًا في الـ500 عام الماضية، الأمر الذي انعكس على مناسيب المسطحات المائية، فجفت أجزاء منها، كنهر بردى على سبيل المثال، وظهر أثر موجات الجفاف والتصحر على حيوات مئات الآلاف من السوريين، من النساء والرجال، الذين يعملون في الرعي والزراعة، فنزح مليون ونصف المليون شخص داخليًا في عام 2006، وهي ظاهرة تتوافق مع بيانات من سياقات أخرى في الجنوب العالمي، إذ يعد تغير المناخ واحدًا من أهم أسباب النزوح والهجرة.

تواجه سوريا اليوم أزمة غذاء محتملة، بعد جفاف يعد الأسوأ منذ 36 عامًا، أدى إلى خفض إنتاج القمح بنحو 40%، وتوقعت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة أن تواجه سوريا عجزًا بإنتاج القمح بمقدار 2.73 مليون طن متري هذا العام، وهو ما يكفي لإطعام 16 مليون شخص لمدة عام، وتعاني منطقة الجزيرة واحدًا من أكثر مواسم القطن سوءًا في تاريخها، إذ تراجعت مساحات زراعته من حوالي 52 ألف هكتار في عام 2011 إلى أقل من سبعة هكتارات في العام الحالي.

وحاليًا، يعاني أكثر من نصف السكان من انعدام الأمن الغذائي، ونصف السكان أيضًا مهددون بالمعاناة من الجفاف، وتعد سوريا ثالث أكثر البلدان المعرضة لخطر الجفاف، من بين تسع دول صُنفت على أنها “عالية المخاطر” بفعل تغير المناخ، وشهد هذا العام أدنى مستوى لهطول الأمطار منذ عام 1956، فمثلًا، تشهد “عين الفيجة” أدنى مستوى مياه منذ 33 عامًا، ويتراجع مستوى مياه نهر العاصي بشكل حاد، إذ انخفضت الهطولات المطرية و انعدم تساقط الثلوج في منطقة نبع العاصي بالهرمل في لبنان، وبلغت كمية الأمطار التي هطلت في حمص 141 ملمترًا من أصل 400 ملمتر، المعدل السنوي المعتاد، ما انعكس سلبًا على جميع المصادر المائية، ومنها نهر العاصي.

إضافة إلى ما ورد، فقد امتدت الحرائق، في تموز الماضي، إلى أكثر من 14 ألف هكتار، وتضمنت المساحات المحترقة غابات وحراجًا بنسبة 82.55%، وأراضي زراعية بنسبة 15.21%، وقد أسهم في صعوبة إخماد تلك الحرائق موجة حر شديدة بفعل تغير المناخ، وألغام غير منفجرة من مخلفات الحرب، ووعورة التضاريس، وضعف الموارد، وكذلك كانت حرائق 2020، التي طالت ما يقارب 10-14 ألف هكتار، دمرت غابات وأراضي زراعية، ونحو 75% من الكتلة الحيوية فوق الأرض في المناطق الأشد ضررًا، وتسببت في تدهور التربة والمياه، وزيادة في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون قُدّرت بحوالي 210 آلاف طن، وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية في 2022 استمرار ضعف تجدد الغطاء النباتي حتى بعد عامين من الحرائق.

منذ السبعينيات، تحول اقتصاد سوريا من رأسمالية الدولة وسياسات الدعم الحكومي للمواد الأولية، إلى اقتصاد نيوليبرالي يعتمد على “رأسمالية المحسوبية”، مصحوب بإجراءات تقشف وسياسة التقنين لاستهلاك المياه والطاقة، واليوم، تعمّق السلطة الجديدة من السياسات النيوليبرالية، أما عن منهجية مواجهة الجفاف والأزمات البيئية والمناخية الحالية والمقبلة، فكانت، ولا تزال، تتسم السياسة العامة بالحلول المؤقتة الترقيعية، والصيانات الإسعافية المحدودة، بسبب غياب منهجية سياسية بيئية، وأطر عدالة بيئية ومناخية، وبسبب واقع النزاع، وما بعده، والتهجير، والعقوبات، وقلة الموارد.

سيتناول الجزء الثاني من المقال في العدد المقبل مسارات التحول الممكنة وتبيئتها في السياق السوري.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة