حادثة الشعال.. وما يحتاجه السوريون اليوم

tag icon ع ع ع

إبراهيم خولاني

بعد طرد الشيخ محمد خير الشعّال من مسجدين في ريف دمشق في الأيام الماضية، شهد الوسط السوري جدلًا واسعًا، وتحوّل اسم الشيخ إلى أحد أبرز العناوين المتداولة بين السوريين.

ويمكن القول إن هذا التفاعل الحاد لم يأتِ بسبب الحادثة بحد ذاتها، بل جاء بسبب أن الشعّال شخصية دينية كان لها حضور في السنوات الأخيرة بين السوريين، ولا سيما بين الذين كانوا يقيمون في مناطق سيطرة النظام البائد، وفي المقابل ارتبط اسمه بين جزء واسع من السوريين، ولا سيما المحسوبين على الثورة منهم، بمواقف موالية لنظام الأسد خلال العقد الأخير؛ فقد كان الشيخ يقدّم خطابه الديني من داخل دمشق، في ذروة العنف الذي مارسه نظام الأسد بحق السوريين، وكان يتضمن الترحّم على جنود النظام السابق على الرغم من المجازر التي ارتكبوها على امتداد المساحة السورية، فضلًا عن المحاباة أو المديح لرموز سلطة النظام السابق، من الذين عرفوا بسوء أخلاقهم وفسادهم، فرأى كثير من الذين وقفوا ضد الشيخ بعد طرده من المسجد أن ما حدث معه طبيعي لأنه كان يشرعن عنف النظام ضد الشعب، كان يغطي جرائم النظام وإن بشكل غير مباشر، فضلًا عن عدم انحيازه إلى مظلومية السوريين وعن تحييد نفسه عن مناصرتها. وبالنسبة إلى هذا التيار الواسع من السوريين، لا يمكن فصل خطاب هذا الشيخ عن النتائج الكارثية التي خلفتها آلة قتل النظام البائد.

وعلى الرغم من أن الشيخ قدّم توضيحًا لاحقًا قال فيه إنه كان مكرهًا بفعل القبضة الأمنية للنظام السابق، فإن هذا التفسير لم يُقنع كثيرين، وذلك بسبب مرور أكثر من عشرة أشهر على سقوط النظام، ما جعل الاعتذار يبدو متأخرًا ومرتبطًا بالضغط الشعبي أكثر منه بمراجعة المبادئ والمواقف.

بعيدًا عن أن الخطاب الديني الذي يقدمه الشيخ ينطلق من خلفية تقليدية محافظة، تعيد إنتاج المنظومة الفقهية القديمة من دون انفتاح حقيقي على التجديد أو مراجعة التراث، فإن الخلاف مع الشعّال في نظر كثيرين ليس خلافًا فكريًا محضًا، على الرغم من وجوده، بل هو خلاف أخلاقي، فبعد سقوط النظام، ارتفع صوت الشيخ، وصار يخاطب الجمهور كما لو أنه كان صوتًا من أصوات الثورة، متجاهلًا أو متناسيًا مواقفه السابقة التي كان يؤيد فيها النظام البائد ورموزه على الرغم من هول المجازر التي ارتكبها بحق الشعب السوري. هذا التبدل المفاجئ بدا لكثيرين نوعًا من ركوب الموجة، وقد يكون الشيخ اتخذ تلك المواقف مكرهًا، لكن علاقته بجزء واسع من الناس أصبحت محكومة بالذاكرة، ذاكرة الدم، وذاكرة الموقف، وذاكرة الصمت. وقد زاد التوتر بعد أن وجّه في تصريحاته اللاحقة هجومًا على من انتقدوه أو طردوه، واصفًا إياهم بأنهم ليسوا من الأدب وليسوا من الأخلاق، وهو موقف عزّز الشعور بالاستعلاء والاستخفاف بالناس وآلامهم، وعمّق الجرح بدلًا من محاولة مداواته.

لا يمكن فهم ما جرى من دون إدراك حجم الشرخ بين السوريين الذي حدث في سنوات الثورة، شرخ بين من عاشوا في مناطق النظام تحت القمع والخوف وضنك العيش، وبين من كانوا في مناطق الثورة أو خارج سوريا، وقد نجوا من القصف أو الاعتقال، أو هجروا قسرًا من بيوتهم. وخلق هذا الواقع تباينًا في اللغة والذاكرة والخبرة والسردية؛ فمن بقي داخل مناطق النظام السابق رأى في الشعّال وجهًا مألوفًا، رافقه في ظروف قاسية، وربما وجد فيه حفاظًا على ما تبقى من الدين. أما من كان في الخارج أو في مناطق الثورة، فقد رأى فيه صوتًا منحازًا للقاتل ضد الضحايا. هكذا انقسم الشارع، فريق يرفضه مبدئيًا بسبب موقفه السابق، وفريق يدافع عنه لأنه يمثّل بالنسبة إليه مرجعية دينية في ظرف مضطرب، أو لأن البعض يشعر بوجود تعالٍ من “البيئة الثورية” على من بقي في الداخل. في الواقع، كلا الشعورين قابل للفهم في سياق اجتماعي مكلوم لم يُتح له التعافي بعد. لذلك، كان من المتوقع أن يكون موقف الشعّال في هذه اللحظة أكثر نضجًا، وأن يسعى لتهدئة النفوس ووأد الفتنة بدلًا من إطلاق أحكام قاسية تزيد الشرخ.

حاول بعض المدافعين عن الشعّال (وكذلك بعض منتقديه) تفسير ما حدث بأنه صراع بين السلفية والصوفية، أو بين خطين فكريين متعارضين في المجتمع السوري. غير أن هذا التفسير، على الرغم من حضوره في التداول العام، هو تفسير تبسيطي من جهة، ومضلّل من جهة أخرى؛ فقد خرج مشايخ كثر من التيار الصوفي أو الأشعري في السنوات الماضية ضد نظام الأسد، على الرغم من أن هذا التيار غالبًا ما صُوِّر على أنه أقرب إلى إطاعة السلطة أو التواطؤ التاريخي معها. ومع ذلك، فقد ساند بعض أعلامه الثورة السورية وحراكها الشعبي، ووقفوا بوضوح إلى جانب الضحايا، ودفع كثير منهم أثمانًا باهظة، من الاعتقال والقتل والنفي. لكن المفارقة هنا أن بعض هؤلاء عاد اليوم إلى دمشق بعد سقوط النظام، وتولى مواقع دينية من دون أن تُثار ضدهم الضجة التي أُثيرت حول الشيخ الشعّال، ما يدل بوضوح على أن الانتماء المذهبي لم يكن هو أساس الخلاف، وأن الرأي العام السوري لم ينفعل بسبب صراع فقهي أو عقدي، بل بسبب ما اعتُبر موقفًا أخلاقيًا غائبًا أو متأخرًا في لحظة كان فيها الدم السوري هو المعيار الأول للحكم.

إن ما جرى مع الشيخ الشعّال، بكل ما حمل من توتر وعنف لفظي واتهامات متبادلة، يكشف حجم الجرح الذي لم يُضمد بعد. فالشرخ الاجتماعي لا يزال موجودًا، والذاكرة لا تزال دامية، وهي ذاكرة من الصعب القفز فوقها أو تجاوزها بالوعظ أو الحديث الهادئ من وراء منابر مريحة. إن فكرة العفو من دون اعتذار صادق، ومن دون مراجعة نقدية شجاعة للمواقف السابقة، هي فكرة مرفوضة مجتمعيًا، لأنها تراكم الألم، وقد تعيد إنتاج المظلومية بدلًا من مداواتها، والاعتذار هنا ليس مجرد كلمة تقال، بل هو جهد أخلاقي في استعادة الثقة وإعادة ترتيب العلاقة بين المتكلم والجمهور الذي يخاطبه. قد يكون الشيخ الشعّال صادقًا في قوله إنه أُكره على مواقفه السابقة، وقد يكون مخلصًا برغبته في خدمة مجتمعه (وفق رؤيته التقليدية للدور الديني) وزيادة دوره بعد سقوط النظام، غير أن هذا الادعاء، لدى شريحة واسعة من السوريين، لا يكفي لوحده، فهو لا يمنح صاحبه براءة؛ فالمصداقية لا تُمنح بالتصريحات، بل تُبنى عبر اعتذار شجاع وصريح، لا عبر مراوغة أو تحت ضغط، عبر لغة تُطمئن القلوب ولا تستفزها، وتحترم ألم المجتمع بدلًا من أن تُلقي عليه دروسًا في الفقه أو الأخلاق.

لذلك، فإن الدور الذي ينتظره الناس اليوم من رجال الدين لا يقتصر على رواية القصص الدينية، أو إعادة تدوير الخطاب الوعظي التقليدي الذي طالما غلب على طيف واسع من رجال الدين. المجتمع السوري اليوم بحاجة إلى ما هو أبعد من ذلك، بحاجة إلى بناء أرضية جديدة للأخلاق العامة بين الناس تتجاوز الانغلاق والقشور؛ فالدين، في حقيقته، قبل أن يكون نصًا، هو سلوك ومكارم أخلاق وشعور صادق بجراح الناس وآلامهم، وحين يغيب هذا الشعور يغدو كل خطاب مفرغًا من روحه. إن المجتمع السوري اليوم أحوج ما يكون إلى من يردم الهوة بين أفراده، لا إلى من يكرّسها، يحتاج إلى من يمدّ اليد إلى المختلف، وإلى من يبني سردية مشتركة لا تنكر الماضي، بل تواجهه بشجاعة ومسؤولية. والشيخ الشعّال، مثل غيره من رجال الدين الذين عاشوا سنوات الثورة تحت سلطة النظام، أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل العلاقة مع الجمهور عبر الاعتراف الحقيقي بالخطأ، والتواضع أمام ألم المجتمع، والانخراط في خطاب يجمع ولا يفرّق.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة