اتفاقية سلام دائم.. خير وأبقى من اتفاق أمني محدود

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

تعتبر الصراعات المزمنة في منطقة الشرق الأوسط من أعقد النزاعات الدولية، نظرًا إلى تداخل الأبعاد السياسية والدينية والجيوستراتيجية فيها، ومن بين هذه الصراعات يبقى النزاع السوري- الإسرائيلي أحد أكثرها تعقيدًا، خاصة في ظل استمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية منذ العام 1967، وتوسعها بعد 8 من كانون الأول 2024، في محاولة لفرض واقع جديد وترتيبات أمنية تشمل الجنوب السوري كاملًا.

في ظل هذا المشهد، تبرز دعوة ملحة لإعادة النظر في الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام سوريا، إذ يغدو خيار اتفاقية سلام دائم مع إسرائيل، وفق قواعد القانون الدولي والقرارات الأممية ذات الصلة والترتيبات الأمنية الشاملة لدى الطرفين، الخيار الأفضل والأكثر استقرارًا مقارنة بأي اتفاق أمني محدود يكرّس حالة اللاحرب واللاسلام، وربما يمنح إسرائيل مكاسب أكبر في ظل عدم وجود مرجعية دولية لاتفاق من هذا النوع.

في هذا السياق، يمثل القانون الدولي، الذي يعد الإطار الناظم للعلاقات بين الدول، المرجعية الراسخة لسلام دائم، إذ تؤكد قرارات مجلس الأمن الدولي، وخاصة القرار “242” (1967) والقرار “338” (1973) ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها خلال حرب حزيران، بما في ذلك الجولان السوري مقابل اعتراف الدول العربية، ومنها سوريا، بحق إسرائيل في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها. وتعزز الشرعية الدولية هذا التوجه من خلال القرار رقم “497” لعام 1981 الذي صدر عن مجلس الأمن بالإجماع، واعتبر قرار إسرائيل بضم الجولان “ملغى وباطلًا وليس له أي أثر قانوني دولي”. وبالتالي فإن أي تسوية دائمة يجب أن تنطلق من مبدأ الأرض مقابل السلام بما يضمن استعادة السيادة السورية على الجولان ضمن صفقة سلام شامل.

إن الاتفاقات الأمنية، وإن بدت مغرية في بعض السياقات باعتبارها تحدّ من التصعيد والتوتر، فإنها تبقى جزئية ومؤقتة، وهي ترتكز على فرض ترتيبات ميدانية عسكرية في مناطق محددة غالبًا تكون داخل الأراضي السورية نفسها، ولا تلزم إسرائيل بانسحاب من الأراضي المحتلة، ولا بتطبيع حقيقي للعلاقات، ولا بوقف دائم للاعتداءات الجوية أو التوغلات المتكررة بذريعة “التهديدات الأمنية”، بل على العكس، فإن مثل هذه الاتفاقات قد تستخدم كذريعة لشرعنة تدخلات إسرائيلية مستقبلية بحجة “خرق التفاهمات الأمنية”، مما يجعل من الجنوب السوري منطقة عازلة تتحكم بها إسرائيل بحكم الأمر الواقع، كما أنها لا تحظى بشرعية دولية واسعة، ولا تشكل أساسًا لإنهاء النزاع بشكل نهائي، مما يبقي حالة عدم الاستقرار قائمة.

في ظل الواقع القائم اليوم، فإن اتفاقية سلام دائمة تقوم على إنهاء حالة الحرب، واستعادة الأراضي المحتلة والاتفاق على ترتيبات أمنية وعسكرية شاملة في تلك المناطق، وتبادل الاعتراف الدبلوماسي، تفتح آفاقًا مغايرة وغير مسبوقة في المنطقة على عدة مستويات أمنية وسياسية واقتصادية وتنموية، وتضمن لسوريا أن تحقق هدفها الوطني باستعادة أراضيها المحتلة عبر مفاوضات مدعومة دوليًا وتحت إشراف أممي، ما يعيد لها سيادتها القانونية والسياسية على كامل ترابها ويلغي مبررات التعدي الإسرائيلي وينهي الذرائع الأمنية التي تتذرع بها إسرائيل لتبرير هجماتها على الداخل السوري، لأن ترتيبات ما بعد السلام تكون واضحة ومعلنة وملزمة للطرفين، فضلًا عما تتضمنه ترتيبات السلام من مشاريع اقتصادية مشتركة في الطاقة، والربط الكهربائي، والبنية التحتية، وربما إعادة إعمار مناطق مدمرة، مما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد السوري المنهك، فخيار السلام الشامل سيكسب سوريا شرعية دبلوماسية واسعة، ويعيدها فاعلًا في المعادلات الإقليمية، ويسهم في تخفيف الضغوط والعقوبات الغربية والدولية عنها.

إن التوجه إلى اتفاق أمني محدود يكرس سوريا كـ”حديقة خلفية” للهيمنة الإسرائيلية، ويبقي الجنوب السوري مساحة للعربدة والاستباحة، مما يعمق الانقسام الداخلي، ويفتح الباب لصراعات جديدة، بينما السلام الدائم، وإن كان يتطلب تنازلات وتضحيات سياسية، إلا أنه يرسخ السيادة والاستقرار، وينهي نصف قرن من الصراع المفتوح، وأعتقد أنه في ضوء التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وتبدّل أولويات القوى الكبرى، فإن الفرصة سانحة أمام دمشق لتبني مقاربة جديدة تنقل الملف من المسارات العسكرية والأمنية إلى الحلول السياسية والدبلوماسية المستندة إلى الشرعية الدولية.

لقد آن الأوان لتغيير قواعد اللعبة، فالسلام الدائم اليوم ربما صار خيارًا استراتيجيًا لانتزاع شروط أفضل في استرداد الحقوق وطي صفحة الصراع المزمن الذي أنهك الدولة والمجتمع السوري، وهو بالمقارنة مع الاتفاق الأمني المحدود الذي يضعف السيادة ويعمق التبعية، فإن اتفاق السلام الدائم يبقى الطريق الأنجع لتحقيق الأمن الحقيقي والدائم لسوريا وشعبها.

لكن قبل كل ذلك وبعده، فإن سلامًا داخليًا وطنيًا بين جميع أطياف الشعب السوري يبدو خيارًا إلزاميًا وقرارًا صائبًا لأي سلطة تريد خوض معاركها الدبلوماسية الخارجية، فتصليب قوة وتماسك المجتمع السوري شرط لا بد منه لفعل ذلك، وهذا لن يتم طبعًا بالإصرار على نهج التفرد ومنهج الإقصاء ورفض الشراكة الوطنية، ولن يتم بسلطة تصر على الإمساك بخناق المجتمع وتستبيح حقه في الحياة والحرية والكرامة، ولن يتم بسلطة تتوهم أن مجرد الإمساك بدمشق العاصمة يكفي لإكسابها مشروعية الحكم والتحكم، ولن يتم بسلطة تستسهل استباحة حيوات الناس لمجرد اختلافهم عنها دينيًا أو طائفيًا، وهذا ما يوجب علينا جميعًا طرح مقاربة وطنية جديدة تبلسم الجراح وتستجيب لمطالب الناس الذين هم أصل ومصدر أي شرعية أو مشروعية.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة