زهران ممداني.. بعض الدروس من ذاك الحلم
أحمد عسيلي
عندما أعلن الأسبوع الماضي فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، شرعت كأي مراقب مهتم بالبحث عنه، وما أسرع ما خطف انتباهي اسم والدته، ميرا ناير، ذلك الاسم المحفور في ذاكرتي منذ سنوات طويلة، مخرجة هندية شهيرة رفضت حضور مهرجان سينمائي في إسرائيل تضامنًا مع القضية الفلسطينية. كنت معجبًا جدًا بهذا الموقف، وأحكي عنه دائمًا في محيطي، عاد اسمها الآن إلى وعيي، لكن هذه المرة مع ابن حوّل فوزه إلى حدث سياسي أمريكي يمكن قراءته كمرآة لما نفتقده في سوريا، أولًا فكرة أن لا شيء مستحيل، سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع، وثانيًا أن الإنسان أكثر تركيبًا مما يعتقده بعضهم.
هذا الشاب، أصغر عمدة لنيويورك، وأول عمدة مسلم، والأول من أصول هندية- إفريقية يصل إلى المنصب، لم يأتِ فوزه نتيجة لحظة تقدمية عابرة في مدينة متعددة الثقافات فحسب، بل جسّد فكرة بسيطة وخطيرة في آن واحد: الحلم ليس كذبة، حتى لو ولد على هامش المجتمع. أعادت هذه الفكرة إلى ذاكرتي صوت الساروت، ذلك الطفل القائد الذي حمل الثورة على كتفيه وقال ذات يوم: “لو بقي متر واحد بالمحرر، رح نرجع نحرر البلد كله”.
الساروت، مثل ممداني، مثل ملايين السوريين، لم يحسب الأمور بالمقاييس العسكرية أو الواقعية، لم نكن نملك دولة أو طائرات ببراميل، ولا حلفاء حقيقيين، ومع ذلك كنا نؤمن بأن الأمل لا يقاس بما نملك، بل بما نؤمن أنه ممكن، من حائط مدرسة في درعا، إلى زقاق في حمص، إلى نيويورك، تعددت الأماكن، لكن ظلت المعادلة نفسها: المستحيل اختراع سياسي يُستخدم لقمع الخيال قبل القمع المباشر. حتى مدن مثل دبي، دول صغيرة مثل سنغافورة، أو بلدان أكبر مثل تركيا وماليزيا، حققت أحلامًا كانت تبدو يومًا خارج المنطق.
النقطة الثانية المستحقة للتأمل إثر فوز ممداني وردود فعل بعض السوريين، هي ميلنا إلى الوقوع في ثنائية خاطئة: نريد بطلًا يشبهنا تمامًا، داعمًا كاملًا لكل ما نؤمن به، متطابقًا دون أي تفصيل مختلف. هنا يتجلى بُعد آخر في فوزه، وهو تعقيد الهوية الإنسانية. ممداني مسلم، من أم هندوسية، مؤيد للفقراء، ومعادٍ للعنصرية، مواقفه تقدمية في الحريات الجنسية وحق الإجهاض، وعلاقاته وثيقة مع رؤساء الجالية اليهودية في مدينته رغم نقده لإسرائيل، حار كثيرون: هل نفرح بإنجاز ابن مهاجرين ومعادٍ للاستعمار أم نرفضه لأنه لا يشبهنا بالكامل؟
المشكلة ليست مع الرجل، بل مع بعض من يصر على قراءة الإنسان كحزمة واحدة مغلقة، التنوع الداخلي ليس انحرافًا، بل شهادة على إنسانية ترفض التصنيف المسبق، وربما أهم معلم لهذا الفهم هو الأم، مخرجة فنية وأخلاقية رفضت التطبيع رغم العلاقات القوية التي تربط دولتها بالكيان، لكنها لم تضع حدودًا للإنسان بصفته إنسانًا. من هنا رسالة أكبر: نعم نتصدى للظلم، لكن لا نقطع علاقتنا بالناس بسبب هوياتهم. يمكن أن أقف مع فلسطين من دون أن أُقصي اليهود، يمكن لجذور في الهند أن تُثمر في نيويورك، وهذا تمامًا ما نحتاج إليه نحن السوريين اليوم، لكن فيما بيننا أولًا، أن نفتح نوافذنا على الآخر. يمكن لسنّي أن يتبنى قضية الدروز، لعربي أن يدافع عن حقوق الكرد، أن نحلم من جديد ولو بمتر واحد أو بانكسار صغير، أن نقر بأن البدء معًا ممكن حتى إذا اختلفنا أحيانًا.
من استقبل الخبر ببرود لم يفهم صورة الإنسان المركب، فاختزل الآخر بتفصيلة واحدة وحكم على كل وجوده بها، هذا قصور ليس سياسيًا فحسب، بل قصور فكري أولًا وأخيرًا، لأنه يقتل كل بداية ممكنة قبل أن تولد، وهنا يبرز السؤال الأهم: هل ننتظر السلطة لنبدأ بوحدة اجتماعية؟ أم على المجتمع بتياراته وطبقاته وفنه ورموزه أن يصنع مساحة التقاء قبل الدولة؟ إذا بقينا نعتبر الإنسان كتلة متجانسة فلن نرى في المختلف فرصة، بل تهديدًا، وإذا قتلنا الخيال قبل تنظيم العمل، سننسى أن الثورة بدأت من حائط مدرسة في مدينة صغيرة، وأن الأمل، كما جسّده ممداني والساروت وغيرهما من السوريين، أكبر دائمًا من السلطة.
ولكي يخرج الكلام من دائرة الغزل النظري، علينا أن نؤسس مساحات عملية تبدأ بخطوات صغيرة، منابر ثقافية تجمع المختلفين، ومنتديات مدنية تُمارس الحوار، ومبادرات محلية كفرق تطوعية وندوات وورشات، الفنانون والمبدعون، كما فعلت ميرا نائر، قادرون على إذكاء الخيال العام وابتكار سرديات بديلة تعيد تأويل الانتماء، كما أن تجربة الشتات تعلمنا أن الهوية المركبة ليست عقبة، بل رصيد لبناء جسور جديدة.
هنا يظهر عنصران أساسيان: العمل الثقافي السياسي الذي يضم ولا يستبعد، والتعليم المدني الذي يحول المواطنة إلى التزام متبادل وحقوق مشتركة.
درس ممداني ليس مجرد انتصار انتخابي، بل تذكير بأن التغيير يتكوّن من تراكم جهود المجتمع المدني والأفراد الذين آمنوا بالممكن، لننتبه إلى أن الأمل لا يُهدَر ولا يُؤخذ هدية، نزرع يوميًا، ونبني بالحوار والعمل، فتصبح أحلامنا مشاريع قابلة للتحقيق، بأيدينا المشتركة وبطموح متواضع ومثابرة يومية حقيقية، هذا ليس كلامًا أدبيًا يسرح في الخيال، بل هو واقعي ونعيشه اليوم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :





