“ينادينا بأسمائنا الحقيقية ولا يقول ماما وبابا"

جيل الحرب.. صعوباتٌ تربويّة تتحدى الأهل

أطفال يعملون في محل صيانة سيارات في إدلب - 13 تشرين الأول 2016 - (عنب بلدي)

camera iconأطفال يعملون في محل صيانة سيارات في إدلب - 13 تشرين الأول 2016 - (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

حنين النقري – عنب بلدي

كثيرة هي الآراء والمواقف المتباينة من الثورة السورية، التي يختلف الجميع على كل تفصيل فيها، الأسماء والرايات والانتماء والإحصائيات. إلا أن ما يكاد يكون إجماعًا من كل الأطراف، هو أن الأطفال السوريين الخاسر الأكبر من الحرب، تحت أيّ حكم وفي ظل أيّ سلطة. لا نتحدث هنا عن خسائر الأطفال الماديّة فحسب، بل عن أمور أعمق أثرًا وأكثر تأثيرًا، وهو ما يدركه كل من يتعامل معهم ويحاورهم، وعلى وجه الخصوص: الآباء والأمهات، فما هي ملاحظاتهم ومخاوفهم حول جيل الحرب؟ وما الصعوبات التي تواجههم أثناء التربية؟

“ربيت قبله ثلاثة، إلا أن أحدًا منهم لم يكن مثله”، تقول السيدة أم حسام، من سكان ريف دمشق، عن ابنها عبادة، وتضيف “خلافًا لما يبدو عليه خارج المنزل من خجل شديد، عبادة في المنزل متمرّد جدًا، لا يعجبه شيء، ويستخدم كلمات أكبر من عمره”.

تندهش أم حسام من كل كلمة غير متوقعة يستخدمها صغيرها في أحاديثه، لكن دهشتها تتحول لغضب عندما تطالها وزوجها كلماته دون إحساس بالاحترام أو بفارق العمر “أحيانًا يُنادينا بأسمائنا الحقيقيّة، دون استخدام ماما أو بابا، عند غضبه من عدم تلبية مطالبه يتصرف بشكل غير مؤدّب معنا ويستخدم كلماتٍ لا يمكن أن تُستخدم مع الآباء، عدا عن عدم إطاعته لكلامنا في معظم الأحيان”.

بالإضافة إلى كل ما ذكرت، تشتكي أم حسام من سرعة غضب عبادة غير المتناسبة مع طفولته، وهي لا تتردد في تحميل نفسها جزءًا من مسؤولية ذلك كله، وتقول “كنتُ أكثر حزمًا مع إخوته، هذا الأمر أكيد، لكن ذلك بسبب الحرب بشكل أساسي، إذ يحنّ قلبي عليه في الظروف التي يعيشها، ولا أستطيع أن أعاقبه مثلهم، ظروف تربيته أصعب بكثير وهو محروم من معظم ما أمّناه لإخوته في عمره”.

جيلٌ لا يخاف من شيء

توافق الآنسة رنا، معلّمة للمرحلة الابتدائية في الغوطة المحاصرة، السيدة أم حسام في ملاحظاتها على طلابها، وتعزو الأمر إلى انعدام الخوف من أي عقوبة، تقول “أعمل كمعلّمة منذ عشر سنوات تقريبًا، ضبط الطلاب في الصف صار صعبًا للغاية اليوم، تشعرين أن روحًا من التمرّد سرت في كل الأطفال، إذ شهدوا تكسّر أصنام وخروجًا عن النظام رغم قمعه وعنفه، لهذا صاروا أكثر جرأة على قول ما يريدون دون مواربة”.

وترى رنا أن جزءًا من انضباط التلاميذ سابقًا كان مدفوعًا بخوفهم من العقوبة على أنواعها، وهو ما لا يمكن أن يؤثر بهم اليوم “أمام القصف والصواريخ التي يعيشونها يوميًا، مات خوف الكثير من الأطفال من العقوبات التي تبدو بسيطة بالمقارنة مع ذلك، علاوة على العنف الملحوظ بكثرة فيما بينهم”.

الحرمان والتفاوت الماديّ

من الأمور التي تتألم رنا لرؤيتها بين الأطفال هو التفاوت الماديّ ونظرات الحرمان الموجهة للأطفال الأكثر حظًا من البقية، تشرح قولها “تخيليّ أننا صرنا ننبّه الأهالي على ضرورة عدم إرسال طعام مع أطفالهم للمدرسة، فنتائج ذلك تفرّق بين الطلاب بشكل كبير، بل تحدث مشاجرات بسبب ذلك”.

تروي رنا حادثة جرت معها في المدرسة العام الماضي، عندما جاءها طفلٌ يبكي في الاستراحة بين الدروس ويشكو صديقه، تتابع “عندما سألته عن سبب بكائه أشار لتلميذ آخر، وقال إنه خطف منه السندويشة التي كان يأكلها والتهمها دفعة واحدة، طلبتُ من صديقه تقديم تفسير لذلك، شلّتني إجابته تمامًا عندما قال (لأني جوعان)”.

وسواس الخوف

بشكل معاكسٍ تمامًا لملاحظات الآنسة رنا حول انعدام الخوف لدى الأطفال، نجد بعضهم مكبّلين تمامًا بالخوف، لدرجة تمنعهم من الاعتماد على أنفسهم في أبسط أمور حياتهم، ومن بينهم أروى (14 عامًا) من حماة، وتقول أختها ماريا (25 عامًا) “ليس خوف أروى ما يجعلها حبيسة المنزل بهذا الشكل، بل خوف والدتي من الحواجز والأوضاع الأمنية، ومن كل شيء، تخاف عليها حتى من الهواء”.

بعد أن خسرت الأم اثنين من أبنائها في السنوات الست الأخيرة، صارت خشية الخسارة لديها أكثر حسب تعبير ماريا، تتابع “انصبّ هذا الخوف كله  على أصغر إخوتي أروى، لا تسمح لها أمي بالذهاب إلى أيّ مكان بمفردها حتى إلى مدرستها القريبة وتصرّ على مرافقتها في الذهاب والعودة”.

لا ينحصر خوف والدة أروى على ذهابها إلى المدرسة، إذ تحذّرها على الدوام من الآخرين، تضيف ماريا  “ممنوع أن تدخل أروى دُكانًا أو مكتبة لوحدها، ممنوع أن تزور صديقاتها في بيوتهنّ، رغم أنها صارت في عمرٍ يسمح لها بالاعتماد على ذاتها”. تضيف بعد لحظات من الصمت “يمكنك القول إن خوف أمي  صار وسواسًا وهو ما يجعل أروى تبدو في سنّ صغيرة بالفعل، ولا تستطيع فعل أيّ شيء بمفردها”.

الغربة والتعرض للعنصرية

لا ينحصر تأثير الحرب بالأطفال داخل سوريا فحسب، بل يشمل المهجّرين والنازحين منهم، حيث تزداد الأمور تعقيدًا مع الانتقال لبيئة جديدة تمامًا. تقول السيدة سميّة والدة الطفلة براءة “خرجنا من سوريا إلى لبنان، لكنّ ذكريات الحرب والخوف مازالت متمسّكة بلسان براءة وتأتأتها في الكلام، وهو ما تخجل منه أمام صديقاتها في المدرسة”.

يُضاعف مشكلة براءة عدم وجود أقارب وأصدقاء لها في محيطها، وبعض الكلمات العنصرية التي تتردد عليها من حين لآخر من التلاميذ اللبنانيين، تقول والدتها “تعود أحيانًا للبيت باكيةً بسبب المواقف التي تتعرض لها، أيّ طفل في سنّها لا يمكن أن يتحمل مناداته بـ (السوري) كانتقاص من قيمته، عندما كنا أطفالًا لم نكن نعرف معنى سنّي وشيعي، لكن هذه المصطلحات اليوم صارت جزءًا من قاموس زملائها في المدرسة”.

تطفّل مبكّر على عالم الكبار

“في العاشرة من عمره، لكن تشعرين أنه في الثامنة عشرة”، بهذه الكلمات وصف وليد (طالب طب بشري من حمص)، أخاه الأصغر زهير، ويوضح “خرج من عالم طفولته بسرعة ليدخل عالم الكبار في هذه السن، أبسط مثال على ذلك أنه لا يحبّ مشاهدة أفلام الكرتون وقنوات الأطفال، ويفضّل المسلسلات عليها”.

يضيف وليد أن أخاه يسأله الكثير من الأسئلة “المحرجة”، متابعًا “بل ويسأل بابا في بعض الأحيان، يأتي ليهمس في أذني نُكتة بذيئة سمعها في المدرسة بإدراكٍ كاملٍ لمفرداتها ومعانيها، للأسف مع تردّي وضع التعليم صارت المدارس مكانًا لتبادل هذا النوع من المعرفة بين الأطفال”.

رغم محاولاته لاحتواء أخيه وخلق عالمٍ طفوليّ له، إلا أن وليد يرى أن ما يمرّ به زهير نتيجة طبيعيّة للظروف غير الطبيعية التي يعيشها “لا مدن ملاهي، ولا لعب في الحارة، لا حدائق ومراجيح، هذا الانحسار التامّ في عالم الطفولة، فرض على الأطفال التطفل على عالم الكبار مبكّرًا جدًا”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة