النظام والاحتفاظ بحق التعذيب!

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

حق التعذيب هو نقطة التفاوض الأساسية في عقل النظام وأجهزته التي لا يمكن أن تتنازل عنه أمام السوريين، فالتعذيب هو أبرز مكتسبات النظام وأنصاره خلال نصف القرن السابق، وما الدفاع المستميت عن بشار الأسد إلا دفاع عن رمز يتجسد فيه استمرارية حق التنكيل والتعذيب، فشعار “الأسد أو نحرق البلد” تعبير عن تراكم القناعات الراسخة بالاحتفاظ بحق التعذيب، وبدون هذا الحق فقد تنفرط لحمة أنصار النظام.

الدول الغربية والمنظمات الدولية تفهمت ذلك، وتنازلت للنظام بمنع محاكمات رموزه المتورطة بالتعذيب، ومنعت إحالة ملف التعذيب في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية بحجج واهية، من أجل الاحتفاظ بمنظومة التعذيب التي ماتزال توحّد أنصار النظام، وتمنع انفراط مؤسساته القمعية، التي يشكل استمرارها الخيار الدولي الواضح والأكيد.

في سجن تدمر روى أحد المعتقلين خطأ وقع فيه سجّانه أثناء حفلة تعذيب، وقال إنه رأى كاميرات احترافية كانت تسجل. وكأنما أعدت تلك الحفلات من أجل متعة القادة الأمنيين، وربما يكون حافظ الأسد نفسه الذي كان قليل الظهور هو أحد المدمنين على مشاهد التعذيب، خاصة وأن شخصيته كانت تتسم بالحقد الدفين كما روى صلاح جديد رفيقه ومنافسه في الاستبداد، والذي راح فريسة لهذا القمع الذي ساهم بتوطيد أركانه ومستلزماته.

لقد استثمرت الدول في الصناعة، وفي الزراعة، وفي الإلكترونيات، وفي البرمجيات، أما النظام السوري فقد كان استثماره الحقيقي هو التعذيب، حيث سخّر كل مقدرات البلاد، وعبر عقود طويلة من أجل تعزيز هذا الحق الذي يدمر السوريين جميعًا بمن فيهم أنصاره المهووسون بمكتسباته النفسية والمادية.

روى معتقل آخر قصة اعتقاله على حاجز قرب قرية مؤيدة، إذ وجد الحاجز لديه خمسين ربطة خبز وخمس أسطوانات غاز، في سيارته المتجهة إلى حلب في عام 2013، وقال بأن عناصر الحاجز كلهم بدأوا بضربنا، وحتى فلاح عابر من أقارب أحد عناصر الحاجز هبّ بمجرفة وضربه ليكسر رجليه وليهشم صدره، فهو حتمًا كان يدافع عن مكتسبات قريبه من الحاجز التي لا تقل عن مكتسبات دكان خاص، يكسب منه المال ويرفع مكانته ومكانة قريته، بإظهار السطوة والجبروت المترسخ عبر لاشعور قمعي يمتزج مع الوحشية الرعوية.

ويضيف الرجل: في المعتقل كان الضرب ينهال عليّ وعلى من معي، حتى من قبل السجناء الجنائيين من أبناء المنطقة، وكانوا يشعرون بلذة ممارسة التعذيب، إلى درجة أن أحد الضباط صاح عليهم لمنع القضاء علينا، فقد يكون لدينا معلومات كما برر الضابط ذلك للسجناء المنتشين بضربنا.

وقصة الممرضة الطرطوسية الشهيرة التي تداولتها أوساط المعارضة الإعلامية في بداية الثورة، التي نزعت جهاز التنفس عن بعض الجرحى المعارضين، الذين تم إسعافهم إلى أحد المستشفيات في طرطوس، ليست قصة طائفية صافية -برأيي- بقدر ما هي قصة مخابراتية راكمت القناعة لدى أنصار النظام من كل الأطياف، بحق التفوق المتمثل بسلاح التعذيب والتنكيل، الذي يضمن بشكل أكيد خضوع الآخر والتكسب من هذا الخضوع ماديًا ومعنويًا.

حق التعذيب أثبت فعاليته في السيطرة على المجتمع السوري اعتبارًا من الثمانينيات، وبعد الأحداث الدموية في حلب وحماة وإدلب خاصة، فمن أهم منجزات الهيمنة التي كسبها النظام ورسخها هو هذا الحق، الذي فاقت إنجازاته ومكتسباته مكتسبات الوحدات الخاصة، وسرايا الدفاع، وهذا ما جعل الأمن العسكري الجهاز الأكثر قوة وسيطرة على الشعب السوري من كل قوى السيطرة الأخرى، بما فيها اتحاد الشبيبة، وحزب البعث، ومنظمة الطلائع، واتحاد الطلبة، والعمال، والفلاحين، التي تحولت تدريجيًا إلى توابع للأمن العسكري ومشتقاته اعتبارًا من الثمانينيات.

وتدرب عناصر النظام وأنصاره على التعذيب في لبنان بعد منتصف السبعينيات، حيث كان التدخل العسكري السوري المدعوم عربيًا وغربيًا، أداة للتنكيل باللبنانيين بمختلف مكوناتهم، من أصغر موظف أو جندي لبناني إلى أكبر الرتب العسكرية والمدنية، ومهما كانت طائفتهم أو انتماءاتهم، ومعظم الشخصيات والفعاليات اللبنانية صارت تأخذ شرعيتها من فرع المخابرات السورية في (عنجر) الذي يشبه الدخول إليه الدخول إلى الصراط المستقيم، لما يثير من هلع في نفوس اللبنانيين، وما رُكام المحللين الاستراتيجيين، كالأخوين قنديل ووئام وهاب وغيرهما، إلا بعض من منتجات ذلك الفرع الجهنمي، الذي تألق بإنتاج شخصية حسن نصر الله بالتعاون مع إيران. ولم ينس نصر الله هذا الجميل أبدًا، وقد أهدى بندقية “المقاومة” لرئيس المخابرات السورية في لبنان رستم غزالي، (والذي ابتلعته آلة التعذيب لاحقًا).

وحق التعذيب هذا لاقى دعمًا من طهران التي كانت مخابراتها ذات تاريخ في ممارسته في إيران نفسها، ولقد تم كشف أكثر من 500 اسم من معارضي النظام الإيراني إبان الثورة الخضراء التي هبت ضد أحمدي نجاد، ممن تمت ممارسة “اللواط” بحقهم كأداة تعذيب وإذلال جنسي، جعل صناعة التعذيب الإيرانية لا تقل شهرة عن صناعة السجاد العجمي.

وليست جاذبية سوريا بالنسبة لروسيا مقتصرة على قاعدة طرطوس البحرية، ولا على بعض المشاريع الروسية الصغيرة والمتوسطة، بل تتضمن رائحة الشواء البشري الشهية في أنف ضابط المخابرات الروسي السابق والرئيس الحالي (بوتين) الذي تجتذبه منتجات النظام السوفياتي السابق في التعذيب والتهجير، والبراعة في أساليب التنكيل التي أتقنها النظام السوري وأنصاره ونفّذوها ببرود وإتقان وتفوّق، خاصة مع صدور الألوف من صور التعذيب التي فضحها الضابط السوري السابق في سجون التعذيب، المكنى بسيزر أو القيصر، والتي يعتبرها الروس وسامًا على صدر النظام.

وخارج النظام كانت داعش هي الوحيدة التي تشبثت بحق التعذيب والتنكيل ضد الشعب السوري، وكانت تمتلك أجهزة مخابرات مكتملة النضج والفعالية في أداء التعذيب، فهي سليلة ضباط المخابرات العراقيين الذين طالما تنافسوا مع المخابرات السورية في أساليب التعذيب، بالإضافة إلى قيام بعض المعتقلين السابقين لدى نظام الأسد بنقل تقنيات التعذيب التي مورست ضدهم في المعتقلات، ومارسوها ضد مواطنيهم السوريين، خاصة من المعارضة ومن الجيش الحر، بهوس التلذذ الذي يكاد يتوازى مع هوس مؤيدي الأسد الذين انتزعوا الكثير من اللذات الشخصية، ومن الثروات، بفضل حق التعذيب الذي كان مصونًا، وحقًا راسخًا لهم منذ الثمانينيات حتى اليوم.

إن مفتاح التفاوض الرئيسي بالنسبة للنظام هو الاحتفاظ بحق التعذيب، ولا يهمه أي حق آخر، ولا أي مادة دستورية، إذ طالما جعل التعذيب المواد في الدساتير السورية مجرد كلام بلا معنى، ولا ينفع أحدًا وهو ينتظر دوره للدخول إلى غرف التحقيق المظلمة، التي ابتلعت نصف قرن من تاريخ سوريا، وها هي تدمر اليوم نصف القرن المقبل من مستقبل السوريين ومن مقدراتهم وأرزاقهم وكرامتهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة