“مشروع دستور” المجلس الوطني الكردي.. مسودة كُتبت على عجالة

tag icon ع ع ع

رياض علي – دبلوم في القانون الدولي

يُعرَّف الدستور بأنه القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة)، ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري)، وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية). وينظم السلطات العامة فيها، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.

وبالتالي يتمتع الدستور بصفة السمو، أي يسمو على غيره من القوانين الداخلية سواء كانت سابقة أم لاحقة له، وقد درج العرف في الأغلبية الساحقة من دول العالم على أن الدساتير تنشأ بإحدى الأساليب التالية:

1- أسلوب الجمعية التأسيسية أو الجمعية النيابية التأسيسية:

ويصدر الدستور وفقًا لهذا الأسلوب من مجلس أو جمعية تنتخب بصفة خاصة من الشعب ونيابة عنه، يعهد إليها بمهام وضع وإصدار دستور جديد يصبح واجب النفاذ. وهذا الأسلوب في وضع الدساتير هو الذي تم اتباعه في وضع معظم الدساتير التي ظهرت بُعيدَ الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.

وكأمثلة تاريخية على أسلوب الجمعية التأسيسية، نذكر دساتير الولايات المتحدة الأمريكية عقب استقلالها عن إنكلترا عام 1776، وتعد نشأة الدستور في هذه الحالة مرتكزة على مبدأ السيادة الشعبية وأن الشعب هو مصدر السلطات، ويعد من الأساليب الديمقراطية لخلق الدساتير.

2- أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري:

في هذه الحالة تسند مهمة وضع مشروع الدستور إلى جمعية منتخبة من الشعب، أو إلى لجنة معينة من قبل الحكومة أو البرلمان إن وجد، وبعد أن يتم تحضير مشروع الدستور يعرض على الشعب للاستفتاء عليه، ولا ينال هذا المشروع القوة القانونية إلا بعد حصوله على رضا الشعب وموافقته.

والفارق بين الأسلوبين أنه في الحالة الأولى يصبح المشروع دستورًا ملزمًا بمجرد صدوره عن الجمعية التأسيسية، أما في الثانية فإنه يستلزم الحصول على موافقة الشعب عبر الاستفتاء.

ولو قمنا بإسقاط ما ذكر على ما يسمى “مشروع الدستور” الذي تم الإعلان عنه من قبل المجلس الوطني الكردي، نجد أنه وضع دون التقيد بأي من الأسلوبين المذكورين، إذ قامت مجموعة من الساسة في المجلس بعقد عدة اجتماعات توصلوا من خلالها إلى المسودة المذكورة، وإن كان هناك من يقول بأنه من الممكن اعتبار المجلس الوطني بمثابة الجمعية التأسيسية (الأسلوب الأول) فهذا الكلام يجانب الصواب بأميال، كونه لم يتم انتخابهم من قبل الشعب، فالمجلس هو عبارة عن مجموعة محدودة من الأحزاب الكردية لا كلها، إذ إنه من المعلوم أن المجلس الوطني لا يضم تحت عباءته كل الأحزاب الكردية.

كما أن القائمين على صياغة المسودة، موضوع الورقة، لم يتَّبِعوا الأسلوب الثاني أيضًا، إذ إنه لم تتم تسمية لجنة متخصصة، لا من قبل البرلمان ولا من قبل الحكومة، لعدم توفر أي منهما في الوقت الحالي، وبالتالي فإن حجة المجلس بأن المشروع سيعرض على الاستفتاء الشعبي لا يحقق الغاية المرجوة منه، وهو كلام سابق لأوانه، لأنه من المفترض أن يقوم البرلمان أو الحكومة بتسمية اللجنة المختصة بكتابة مشروع الدستور، لا أن ينصِّب المجلس الوطني نفسه مكان الشعب والبرلمان والحكومة.

وبغض النظر عن عدم تقيد المجلس بأحد الأساليب الديمقراطية لصياغة الدساتير المذكورة أعلاه، وعلى فرض أن المجلس الوطني يمثل الكرد جميعًا -مع أنه كما ذكرنا سابقًا توجد الكثير من الأحزاب الكردية ليست أعضاء في المجلس، كما ويوجد الكثير من المستقلين الكرد غير المتحزبين، وثمة شريحة من الكرد ينظرون إلى المجلس نظرة الخصم السياسي- فما هو مصير باقي المكونات الأخرى من عرب وسريان وآشور وكلدان… ممن يعيشون في المناطق التي يفترض أن يحكمها مشروع الدستور المذكور؟ أليس من المفترض أن تشارك هذه المكونات في رسم سياسة المنطقة وتقرير الأسس التي ينبغي أن تبنى عليها التشاركية والمواطنة، أم أن المجلس الوطني هو الذي يقرر مصير جميع القوميات والأديان والثقافات التي تعيش في المنطقة؟

وإذا كان المجلس الوطني يجد في نفسه ممثلًا لجميع الكرد وأن الكرد هم الغالبية في المنطقة، وبالتالي يمنح لنفسه الحق في تقرير مصير المكونات الأخرى، فالأجدى بنا نحن الكرد أن نقبل بما سيتفق عليه الشعب السوري مستقبلًا، وبالتالي القبول بأي دستور يتفق عليه أغلبية السوريين، حتى ولو كان هاضمًا لحقوق الشعب الكردي!

نعم إن مظلوميتنا ككرد سوريين حقيقة، ولا تستند على الأساطير والسرديات الخرافية، وهي نتاج الزمن البعثي وناتجة عن أفعال قمعية سلطوية وضعتنا في موقع استلاب قومي وثقافي وقهر سياسي، لكن هذه المظلومية لا تعطينا الحق في قمع وتهميش المكونات الأخرى، التي تقاسمنا العيش على هذه الأرض منذ زمن، بذات الحجة التي ظُلمنا بسببها.

الدستور هو كتابة لعقد اجتماعي بين الحاكم والشعب، الذي يتكون من مختلف الأعراق والأديان والثقافات، وبالتالي يفترض به أن ينظم العلاقة المجتمعية لعقود من الزمن، قد يشمل ورود أجيال جديدة كثيرة، على أساس تعزيز ثقافة التعايش السلمي بين جميع المكونات وإزالة الضغائن والأحقاد التي خلفتها فترة الحكم الشمولي التسلطي، لا أن يكون مصدرًا لزعزعة الثقة وزرع الأحقاد بينها، وبدل أن يكون الدستور سببًا في الاندماج الوطني سيكون في حالتنا هذه ووفق الرؤية التي طرحها المجلس سببًا في إغراق تلك المكونات في الصراع والاحتراب والغوص في مستنقع سياسات الهوية، إذ إنه وعلى فرض قبول الدستور المذكور في المنطقة وفقًا لمنطق الأغلبية، فإن المكونات الأخرى التي لم تشارك في كتابته سيبقى الشعور بالغبن والتهميش مرافقًا لها، وهذا ما يمكن أن يشعل النار التي ستنتظر تحت الرماد، لأنه لا يمكن اعتبار الديمقراطية مرادفًا أوتوماتيكيًا لمفهوم الأغلبية، وإلا فعلينا نحن الكرد القبول بأي دستور جديد يكون نتاجًا لتصويت الأغلبية السورية، كما ذكرنا سابقًا، وهذا بالطبع ليس في صالحنا.

إن ما يتحجج به واضعو هذا الدستور، بأنه مجرد مسودة يحتاج إلى استفتاء شعبي، لا يغير في الأمر شيئًا، لأن أي دستور يكون في بدايته عبارة عن مسودة ثم يصبح دستورًا كما هو الحال بالنسبة لدستور سوريا لعام 2012، سيئ الصيت، إذ تمت صياغته من قبل لجنة مختصة ثم عُرِضَ على الشعب السوري وحصل على الأغلبية المطلوبة واصبح نافذًا في البلاد.

ثم أليس الأفضل لنا أن تتم صياغة الدستور الدائم بعد انتهاء الصراع في سوريا عمومًا وفي المنطقة خصوصًا، فالدساتير لا توضع في مرحلة الصراع والأزمات، بل في أوقات الهدوء والسكينة، كي تكون انعكاسًا للإرادة الحرة لشعوب المنطقة. وإذا كانت الدساتير التي توضع في المراحل الانتقالية تسمى بالإعلان الدستوري أو الدستور المؤقت، فكيف لنا وضع مسودة دستور دائم في المرحلة التي تسبق الانتقالية؟

ولا تكون الدساتير قوالب جامدة تقتبس من هذا الدستور أو ذاك، بل تكون نتاجًا لعصارة فكر وثقافات وحضارات تعاقبت على المنطقة التي سيحكمها الدستور، نتاجًا لمراحل ومحطات من التناقضات والخلافات والاختلافات التي عاشتها المنطقة، لتكون الدواء الذي يضمد الجراح التي أوجعت جسدها لحقبة من الزمن، وبالتالي فإن مبررات البعض بأنه تم اللجوء إلى خبراء أجانب لصياغة تلك المسودة تعتبر حجة عليهم لا لهم، لأن الخبير الأجنبي لا يمكن أن يتحسس أوجاع المنطقة وآلامها كما يتحسسها ابن المنطقة، ناهيك عن أن اللجنة التي تسند إليها مهمة صياغة مسودة الدستور يجب ان تُشكل استنادًا لمؤهلات أعضائها وخبراتهم، وليس استنادًا لتمثيلهم السياسي للتيارات الموجودة في المجتمع.

ودون المرور على الزلات والهفوات الكثيرة الموجودة في متن مسودة الدستور موضوع المقال، سواء ما تعلق منها بالصياغة أو الغموض الذي يعتري الكثير من مواده، مع أنه من المفترض بالدستور، كونه القانون الأسمى، أن يتميز بالدقة والوضوح وأن لا تقبل نصوصه التفسير والتأويل، وسواء ما تعلق منها بالخلط بين اختصاصات المحكمة الدستورية واختصاصات القضاء الإداري، وسواء ما تعلق منها بإسقاط منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية من متن مسودة الدستور وغيرها الكثير. سنكتفي بالقول إن هذه المسودة كتبت لغاية الكتابة ليس إلا، ولا يمكن أن تكون حتى نواة لمسودة دستور قد يكتب مستقبلًا، لأن واضعيه قد تجاوزوا كل القواعد القانونية المدونة والعرفية المرعية في كتابة الدساتير، ولا يمكن لهذه المسودة أن تساعد في طي حقبة من الظلم والصراع والاقصاء، بل على العكس ستكون عاملًا مساعدًا في إذكاء روح العداء والضغينة بين مكونات المنطقة، لأنه وضع من قبل جهة سياسية لا تمثل إلا البعض من مكون واحد فقط.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة