الشيخوخة صارت تحلّ مبكرًا

عائلات كبيرةٌ في سوريا لكنها “مقطوعة من الشجرة”

لاجئة سورية حال وصولها إلى الشواطئ اليونانية حاملة ابنها (EPA)

camera iconلاجئة سورية حال وصولها إلى الشواطئ اليونانية حاملة ابنها (EPA)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حنين النقري

كبرت خمسين سنة بهالسبع سنين، سمعنا جميعنا هذه العبارة على ألسنة معظم من صادفناهم من السوريين، ورغم أن قائل هذه العبارة غالبًا ما يكون على غير دراية بتصنيفات علماء النفس للعمر حسب الزمن والحالة الاجتماعية والسيكولوجيّة، إلا أنه يشعر بذلك بدقّة، وتكون هذه الصيغة هي ما يعبّر من خلالها عن شعوره تجاه عمره الاجتماعي والسيكولوجيّ الهرِم نتيجة للحرب وظروفها.

حتى بتنا نرى بين أشخاص في الثلاثين والأربعين من عمرهم أعراضًا كانت تُصنّف على أنها من سمات الشيخوخة، ليس أولّها الأمراض البيولوجية المعقّدة، وليس آخرها الوحدة في سنوات تصنّف عادةً على أنها ربيع العمر.

“عم ملّ” بهذه الكلمة مصحوبة بتنهيدة خفيفة حاولت السيدة أم عبد (45 عامًا)، ربة منزل من حمص، التعبير عن وحدتها بأسلوب مخفف تحاول ألا تجعله متشكّيًا، وتضيف “أمضي معظم نهاري وحدي، يأتي زوجي في المساء لنتناول العشاء معًا، ويكاد لا يوجد حديث بيننا سوى أخبار أبنائنا الموزعين بين أستراليا وتركيا، وانتظار هواتفهم بأوقات مختلفة بسبب فارق التوقيت”.

ماذا أفعل؟

“في الماضي كان لدينا أقرباء نزورهم ويزوروننا، اليوم لم يبق لنا إلا خالة أمي الكبيرة في العمر، والتي تعيش لوحدها أيضًا، وهكذا حتى طقس الزيارات العائلية ملغى من حياتنا”.

تشير السيدة أم عبد إلى أن دور الحرب فيما تشعر به من ملل لا يقتصر على تهجير الناس فحسب، وإنما تلعب الظروف المعيشية والبنى التحتية دورًا كبيرًا في هذا، وتوضح بالقول “أجلس لوحدي في المنزل طيلة النهار، في الماضي كنتُ أستمع للتلفاز أثناء الطهو، اليوم لا تلفاز بسبب عدم وجود كهرباء (تقريبًا)، وأطهو كل ثلاثة أيام مرة بسبب غلاء المواد، كما أن انقطاع الكهرباء يعني عدم وجود إنترنت أتواصل بها مع أقربائي المُبعدين، وهكذا، لا يبقى إلا الهاتف الأرضيّ متاحًا، لكن (على الفاضي) لعدم وجود أحد يمكن الاتصال به”.

تحاول أم عبد أن تبتكر حلولًا للتخفيف من وحدتها، مثل العناية بالنباتات المنزلية، أو الانشغال بتنظيف المنزل، لكنها تستدرك “تنظيف المنزل لا يحتاج أكثر من ساعتين مهما حاولت أن (أنكش) الشغل، فلا يوجد أطفال يخربون أو يلوثون، في الحقيقة أمضي وقتي في حياكة الصوف والمنسوجات اليدوية لأبنائي رغم بعدهم، وأرسلها لهم كلما سنحت الفرصة، شو بدي أعمل؟”.

وحدة.. غربة.. وشيخوخة

كملايين السوريين، اضطر الحاج أبو محمد للخروج من سوريا وهو في منتصف الستينيات من عمره،  وكان سفره إلى تركيا غربة مضافة إلى غربة حسب تعبيره، يقول “كنتُ فيما مضى أشعر بالغربة إذا أمضيت يومًا أو يومين خارج مدينتي أو حارتي في الغوطة الشرقية، فكيف الحال بالعيش وسط أناس لا يتحدثون لغتك، بمفردك، وأنت في أواخر العمر لا ترجو إلا حسن الختام”.

رغم خروج “أبو محمد” مع زوجته واثنين من أبنائه من سوريا، إلا أن التحاق أبنائه بجامعات تركية في مدينتين مختلفتين فيها جعله وزوجته يعيشان بمفردهما مجددًا، يقول “عندما أذهب للمسجد تبقى زوجتي بمفردها، أخاف عليها من الجلوس وحيدة، الوحدة بحد ذاتها بشعة، ولهذا قررنا السفر للمدينة التي يدرس فيها ابني رغم عدم وجود سوريين فيها، لنبقى مع بعضنا البعض ونلملم بقايا عائلتنا”.

هدوء قاتل

إلا أن الانتقال إلى المدينة الجديدة، والذي حسبه الحاج أبو محمد سببًا في كسر وحدته، كان معززًا لها حسبما اكتشف بعد شهر واحد، يتابع “كنا نعيش في اسكندرون حيث يوجد بعض الأتراك المتقنين للغة العربية، كما يوجد سوريون كثر، لكن هنا في طرابزون من النادر أن تسمع اللفظ العربي إلا من السياح الخليجيين، المعيشة أغلى بأضعاف نظرًا لكونها مدينة سياحية، كما أن ابني يقضي معظم وقته في جامعته”.

يُمضي الحاج أبو محمد وزوجته معظم أوقاتهما في المنزل، وتكون الذكريات هي الركن الوحيد الذي يرغبان بالحديث عنه في معظم الأوقات، “نهرب إلى ماضينا الذي لم نكن نعلم أنه حلو لهذه الدرجة، نتذكر الأيام التي كانت تجمعنا بأبنائنا التسعة على مائدة واحدة، أفكر معظم وقتي بالموت والحصار والغربة التي فرقتنا وحرمتني من أبنائي، لا أصدق أنني أنجبتُ تسعة أبناء لأمضي شيخوختي لوحدي”، يُطرق الحاج أبو محمد، يسمح للعَبرة أن تطفر من عينيه، يقول “الهدوء قاتل هنا، أشتاق لصخبهم، عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا”.

مقطوعة من الشجرة

“كنا نعبّر عن الشخص الوحيد الذي لا أقارب له بأنه مقطوع من شجرة، لكن في حالتي، أنا مقطوعة من الشجرة، لدي عائلة كبيرة وشجرة أنتمي لها لكنني مقطوعة عنها”، تختصر السيدة هويدة (33 عامًا) قصتها كاملة بهذه العبارة، تقول “الحمد لله لديّ زوج وثلاثة أبناء، هم دائرة معارفي الوحيدة هنا، لكننا (أنا وهم) مقطوعون من الشجرة على حد سواء”.

يعيش أهل زوج هويدة في السعودية منذ ما يزيد عن عشر سنوات، فيما سافر أهلها إلى مصر عقب اعتقال والدها في بداية الثورة، وهو الخيار الذي رفضت هي وزوجها اللجوء إليه، تقول “كنا مؤمنين أن إرادة الشعب ستنتصر ولم نرغب بالخروج، وهكذا فضلنا النزوح عقب اشتداد القصف وتأزم الأحوال في مدينتنا في ريف دمشق إلى دمشق، انتظارًا لسقوط النظام، ومازلنا ننتظر”.

خيارات قليلة وسيئة

اليوم، لا تخفي هويدة حسرتها وندمها لعدم سفرها، تقول “توفّي والد زوجي، وتوفّيت والدتي، كل هذا ونحن بعيدون عنهم، لم نتمكن من وداعهم ولا المشاركة في عزائهم، منذ خمس سنوات لم أر أحدًا من أهلي، ابني الصغير لا يعرف جدّه ولا جدّته، أغبط من سافروا منذ البداية ووفروا على أنفسهم الشقاء الذي نعيشه، اليوم الخيارات أمامنا قليلة وسيئة، وكلها لن تجمعني بأهلي أو بأهل زوجي”.

سألنا هويدة عن تكوين علاقات جديدة في محيطها الذي لم يعد جديدًا بعد خمس سنوات من الإقامة فيه، تقول “لا أجرؤ على تعميق العلاقات مع أحد، الخوف من بطش النظام يجعلك تؤثرين السلامة ولو عبر كتم الكلام وهو سبب إضافيّ وأساسيّ للوحدة، الأمر ينطبق بالطبع على خوف الآخرين أيضًا، في حالتي يخافون مني أيضًا لأصولي من ريف دمشق وبسبب اعتقال والدي سابقًا لمشاركته في الثورة، وهكذا تبقى العلاقات سطحية لا تُسمن ولا تغني”.

تقارن هويدة حالها بحال جدها للبرهنة على أنها هرمت رغم أنها ثلاثينية، تقول “توفي جدي وهو في الثمانينيات من عمره، وأبناؤه حوله، وإخوته وأخواته محيطون بسرير موته، انظري حالي، في الثلاثين لكنني وحيدة، إذا مرضت لا يوجد من يعتني بي، فمَن بيننا الهرم؟”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة