tag icon ع ع ع

عنب بلدي- فريق التحقيقات

من الصعوبة لمراكز التوثيق والإحصاء أو الجهات الحقوقية التعامل بدقة مع أرقام الحرب في سوريا، في ظل سياسة النظام الرافضة لنشر أي بيانات إحصائية سكانية بعد عام 2011، وتقاسم السيطرة والنفوذ بين قوى مختلفة على امتداد الجغرافيا السورية، وهو ما ينطبق على محافظة حمص ذات النصيب الأكبر من التهجير.

يتزامن إعداد هذا التقرير، وما رافقه من صعوبات في جرد أرقام مهجري حمص وريفها، واستسلامنا أخيرًا لإحصاءات تقريبية من مصادر حقوقية وإعلامية مختلفة، مع تجهيزات تقضي بخروج آخر دفعة من مهجّري حي الوعر، آخر أحياء المعارضة في مدينة حمص.

ويرصد فريق عنب بلدي خمس مناطق محددة في المحافظة، عصفت بها عمليات التهجير القسري أو النزوح الصريح خلال السنوات الخمس الفائتة، وبلغ عدد سكان هذه المناطق قبل الحرب 1.261.242 نسمة من أصل 2.134.092 نسمة، هم عدد سكان كامل المحافظة، وفقًا للقرار”1378” الصادر عن وزارة الإدارة المحلية لتاريخ 2011، والذي نطلق عليه اختصارًا مسمى “إحصاء 2011”.

ودوني لحمص ودوني

بتركيز كامل، وحنين ينعكس في ملامح وجهه، يتأمل محمد شاشة حاسوبه، من فترة لأخرى، يفتح خرائط “جوجل”، يزور حمص من صور الأقمار الصناعية، يتجوّل بين أحيائها، يقف مطولًا متأملًا حارته، منزله، علّ ذلك يطفئ بعض شوقه.

محمد (اسم غير حقيقي)، مهندس كهرباء حمصيّ من حيّ الإنشاءات، ورغم إصراره على البقاء في منزله وعدم مفارقة حيّه في أشدّ أيام حيّي الإنشاءات وبابا عمرو صعوبة ودموية، إلا أنّه اضطرّ لذلك بعدها بعامين، كغيره من مئات الآلاف من الحماصنة.

“رغم الخطورة الشديدة لم أرغب وعائلتي بالخروج، كل بيوت بنائنا كانت خاوية من سكانها ولم تبقَ عائلة سوانا، شاهدنا من الشرفة العائلات تخرج مع التصعيد العسكريّ على حمص، كل مشهد جديد لنزوح عائلة نعرفها كان بمثابة سؤال يطرح علينا، متى سيحين دورنا؟ لم يبق لي سوى صديق واحد في حمص، والبقية سافروا جميعًا خارج سوريا، معظم أبنية حارتنا خلت من السكان، وعوضًا عن السيارات كانت شوارع الإنشاءات للدبابات والآليات العسكرية، كان هذا في بداية 2012، مع الحملة العسكرية على بابا عمرو”، يقول محمد.

بحذر شديد، وملازمة تامّة للمنزل إلا للتبضع بأساسيات الحياة، عاشت عائلة محمد أيام الحرب، يقول “القناص على برج هنادي لم يكن يرحم هدفًا يتحرك، وكثيرًا ما شهدتُ حالات إصابة أو استشهاد أمام عيني من رصاصه، لذا كان البقاء في المنزل مرادفًا للبقاء على قيد الحياة، لا نتكلم هنا عن احتمالات القذائف والصواريخ والرصاص الداخل للمنزل، فهو أمر لا يمكننا تفاديه وبشكل خاص في منزلنا بالطابق الرابع، أحيانًا، وبعد أن تصمّ أذنيّ من أصوات الصواريخ والطائرات كنتُ أبيت عند جار لنا في بناء مجاور، لأن منزله أرضيّ”.

مع نهاية عام 2012 وخلال عام 2013 اتجهت الأحوال للتهدئة في حمص، وبدأت بعض العائلات بالعودة، وفي عام 2014 قرر محمد إكمال دراسته الجامعية، يتابع “بعد عامين من ملازمة المنزل، قررتُ متابعة دراستي الجامعية، وبالفعل رفّعتُ المواد التي بقيت لي من السنة الرابعة، أملًا بالتخرج في العام التالي، لكنّ ذلك كله تبدد في لحظة واحدة”.

في تشرين الأول من عام 2014، وأثناء محاولته التسجيل في السنة الأخيرة لهندسة الكهرباء، أخبرت موظفة التسجيل في جامعة “البعث” قسم هندسة الميكانيك والكهرباء محمد أنه لا يحق له التسجيل، لأنه استنفد سنوات الرسوب.

يوضّح حالته “أخبرتني الموظفة أنه لم يكن يحق لي التقدم لامتحانات السنة الرابعة لأنني مستنفد، ورغم تقدمي للامتحانات بناء على إدراج اسمي في اللوائح الرسمية ونجاحي يعتبر ترفيعي لها لاغيًا، وهكذا وبلمحة عين جُردت من المواد التي نجحت فيها، ومن كوني في السنة الخامسة، والأسوأ أنهم راسلوا شعبة التجنيد لإلغاء التأجيل العسكري الدراسي الذي استخرجته بناء على كوني في السنة الخامسة”.

استشار محمد محاميًا أملًا في إيجاد مخرج لحالته، “أخبرني المحامي أن الجامعة باتت تدقق بشكل كبير في الآونة الأخيرة نظرًا لكثرة التزوير، وأن أي خطأ للموظف قانونيًا يعاقب عليه الموظف لكن لا يستفيد منه الطالب”.

أخبر المحامي محمد أن سحبه للعسكرية مسألة وقت، وهكذا، دون أي مقدمات، وجد نفسه مضطرًا للتواصل مع سائق يخرج به إلى لبنان، ليسافر منها إلى تركيا.

من تركيا، بعد عامين ونصف من تهجيره القسريّ من أحيائها، يتأمل محمد مدينة حمص على الخريطة، وفي الصور التي ترسلها له العائلة من حين لآخر، ويضيف بحسرة “الخسارة الحقيقية في البعد عن العائلة، لا أمل لي في العودة، ولا أرغب بأن يعيش أهلي تجربة اللجوء والغربة، تضييق تركيا على الزيارة ومشاكل الفيزا زادت الأمور تعقيدًا، وقللت من فرص اللقاء”.

مدينة حمص.. أول ظهور للباصات الخضراء

الحديث عن الأحياء التي شهدت نزوحًا كاملًا للمدنيين في مدينة حمص يشمل كلًا من أحياء المدينة القديمة (14 حيًا داخل السور)، إلى جانب أحياء: الخالدية، باباعمرو، دير بعلبة، البياضة، عشيرة، كرم الزيتون، وجب الجندلي في الجزء الشرقي من المدينة القديمة.

حي بابا عمرو كان السيناريو الأول لـ “النزوح القسري” مطلع الثورة، فهو أول الأحياء الحمصية التي شهدت صدامًا مسلحًا في عام 2012، حوصر إثرها لأكثر من 25 يومًا، لتسيطر عليه قوات الأسد عليه بشكل كامل بعد خروج جميع المدنيين منه إلى الأحياء الحمصية المجاورة في شباط 2012، وذلك ضمن اتفاق سمح لهم بالخروج مقابل تسليم جثث لضباط في “الجيش السوري” قتلوا أثناء المواجهات العسكرية.

بحسب إحصائيات حصلت عليها عنب بلدي من أحد سكان الحي، بلغ عدد قاطنيه قبل أحداث الثورة السورية 50 ألف نسمة، ولم يعد إليه سوى 10% من ساكنيه في السنوات التي تبعت السيطرة عليه.

أما باقي الأحياء الحمصية في المدينة، كانت منطقة باب السباع، التي تتضمن أحياء عشيرة والنازحين وكرم الزيتون، ومنطقتي المريجة والعدوية، مسرحًا لأول عملية نزوح في مدينة حمص، عقب مجزرة كرم الزيتون (آذار 2012)، والتي راح ضحيتها عشرات النساء والأطفال.

باب السباع كانت بداية “الهجرة الحمصية”، فقد طال النزوح بعدها كلًا من دير بعلبة والبياضة وجب الجندلي، في خطوة من قوات الأسد فرضت من خلالها الحصار على الأحياء القديمة من المدينة كالخالدية وباب تدمر وباب هود والقصور وغيرها من الأحياء المعروفة في الوسط الحمصي “داخل السور”، التي أخليت بشكل كامل في أيار 2014 إلى الريف الشمالي من المدينة، ضمن اتفاق بين المعارضة والنظام، برعاية من ضباط إيرانيين. وكان استخدام الباصات الخضراء فيه الأول من نوعه في عمليات التهجير.

بلغ عدد سكان مدينة حمص 761.850 نسمة، وفق “إحصاء 2011”، بينما وفي مطلع 2016 أجرت عنب بلدي إحصاءً تقريبيًا اعتمادًا على أرقام مخاتير أحياء المدينة، أوضح انخفاضًا في أعداد السكان إلى نحو 629 ألف نسمة، بفارق 132.700 نسمة.

وفي حي الوعر أغلق النظام السوري وداعموه الروس ملف التهجير في مدينة حمص بعد أربعة أعوام من الحصار استخدمت فيه قوات الأسد والميليشيات المساندة له الأسلحة المتوسطة والثقيلة، كنوع من أساليب الضغط التي اتبعها في المدن الحمصية الأخرى، انتهت بإخلاء الحي بشكل كامل وفق اتفاقية بين الطرفين، برعاية روسية.

وفي إحصائية حصلت عليها عنب بلدي من ناشطين في حي الوعر، بلغ عدد سكان الحي في مطلع الثورة السورية عام 2011، حوالي 100 ألف نسمة، ليرتفع عدد السكان في عامي 2013 و2014 بعد نزوح المدنيين إليه من أحياء حمص القديمة إلى 280 ألف نسمة.

مطلع عام 2014 وبعد الحملة العسكرية الأولى لقوات الأسد على الحي، التي تخللها اتفاق خرج من خلالها عدد من المدنيين إلى الريف الشمالي من المدينة، تراجع عدد المدنيين ليعود إلى 100 ألف نسمة، وتدرّج بالانخفاض وصولًا إلى 40 ألف نسمة في الأشهر الأولى من العام الجاري، ليخرج منهم في الاتفاق الأخير ما يقارب 25 ألف نسمة ما عدا الدفعات الأخيرة.

وبحسب الإحصائية، من المتوقع أن يبقى في الحي أقل من ثمانية آلاف موزعين على الطلاب وكبار السن والموظفين، ويمثلون حوالي 19% من سكان الحي بشكل عام، إلى جانب 23% من المدنيين خرجوا إلى الأحياء المجاورة، و58% إلى الشمال السوري، لينخفض عدد قاطنيه من 280 ألف عام 2013 إلى ثمانية آلاف مع نهاية أيار 2017.

ووفقًا لما سبق فإن مدينة حمص تكون قد خسرت 404 آلاف و700 نسمة من جميع أحيائها بواقع نحو 50% من سكان المدينة.

ضواحي حمص الجنوبية، ونقصد هنا: النقيرة، المباركية، تل الشور، جوبر، كفرعايا، السلطانية، وعين الزرقاء، التي بلغ عدد سكانها 35.664 نسمة وفق “إحصاء 2011”، طالتها أيضًا عمليات تهجير واسعة، أفضت إلى إخلائها بشكل كامل لصالح قوات الأسد، نظرًا لقربها من مناطق الصدام العسكري الأكبر في المدينة، واستقبالها للنازحين من القصير في تلك الفترة، عدا عن كونها مركزًا لعدد من مقاتلي فصائل “الجيش الحر”.

تحدثت عنب بلدي مع أحد سكان المنطقة النازحين (طلب عدم ذكر اسمه)، وأوضح أن المباركية لم يبق فيها سوى ثلاثة بيوت لم يطالها الدمار من أصل 2500 منزل، دون وجود سكاني فيها، وأكد أن كلًا من كفرعايا وجوبر والنقيرة، وضواحي حمص القديمة، لم تشهد عودة لساكنيها بعد خروجهم مطلع أحداث الثورة.

تلكلخ.. تهجير بنزعة طائفية

تقع منطقة تلكلخ في ريف حمص الغربي، على مقربة من الحدود السورية اللبنانية، وتضم مدينة تلكلخ إلى جانب بلدات وقرى أبرزها: الزارة، عكاري، الحصن، الحواش، وغيرها، وتعتبر من المناطق ذات التنوع الطائفي والديني، إذ كان يقطنها أغلبية سنية مع وجود ملحوظ للمسيحيين وأبناء الطائفة العلوية في الريف، وبلغ عدد سكانها نحو 149 ألف نسمة، وفق “إحصاء 2011”.

دخلت هذه المنطقة دائرة الصراع في سوريا مع بداية الثورة ضد النظام السوري، وشهدت حركات احتجاجية متصاعدة قوبلت بأعمال عنف وانتهاكات من قبل قوات الأسد وميليشياته، والتي اتسمت بالنزعة الطائفية، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وبلغ الصراع ذروته عام 2013 عقب استعادة النظام سيطرته على مدينة القصير ومحيطها (جنوب غرب حمص)، مع دخول “حزب الله” اللبناني رسميًا إلى جانب قوات الأسد. وسيطر النظام على تلكلخ في حزيران 2013، ثم استعاد سيطرته على بلدة الحصن في آذار 2014، في معارك رافقها نزوح واسع للمدنيين.

وتحدثت عنب بلدي إلى معاوية دندشي، وهو طبيب وناشط حقوقي من مدينة تلكلخ يقيم حاليًا في السعودية، وأطلعنا بدوره على إحصائية محلية غير رسمية لأعداد السكان في المنطقة، موضحًا أن التهجير في تلكلخ استهدف حصرًا المكون السني، والذي يبلغ 58 ألف نسمة، معظمهم في المدينة والزارة والحصن.

وأوضح دندشي، بناء على إحصاءات محلية أنجزتها شخصيات حقوقية في تلكلخ، أن التهجير طال نحو 65% من المكون السني في المنطقة، بعدد تقريبي يصل إلى 38 ألف نسمة، لجأ قسم كبير منهم إلى لبنان، وآخرون إلى تركيا وأوروبا، كما نزح عدد منهم إلى مناطق سورية أكثر هدوءًا.

تواصلت عنب بلدي مع مصدر في مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان، فأوضح لها أن 12 ألف شخص، مسجلين في دائرة نفوس تلكلخ، هم لاجئون اليوم في لبنان.

التهجير مشيًا على الأقدام من القصير

غُيّب الحديث عن مدينة القصير جنوب غرب حمص، في السنوات الماضية في زحمة اتفاقيات تهجير المدن السورية، رغم أنها أولى المدن التي افتتحت فيها قوافل تهجير المدنيين من قبل النظام السوري وداعميه، و”الشرعنة” التي مازال النظام السوري سائرًا وفقها في المدن المراد السيطرة عليها بشكل كامل.

مطلع 2013، شنت قوات الأسد بمؤازرة “حزب الله” اللبناني هجومًا من ثلاثة محاور على المدينة، بعد قضمها لبلدات ومدن محيطة بها ذات غالبية سنية كتل النبي مندو، الضبعة، وادي صالح، ديبة، عرجون، جوسيه، وأراد الأسد حينها كسر شوكة فصائل المعارضة السورية داخلها، توازيًا مع إرادة من “حزب الله” لـ “تطهير” الحدود السورية المتاخمة للبنان، وضم المنطقة إلى نفوذه.

هجوم كبير على المدينة ومحيطها، استخدمت فيه قوات الأسد وميليشيا “حزب الله” كافة أنواع الأسلحة، إلى جانب قصفٍ جوي مركز، دفع المدنيين إلى النزوح بشكل متقطع في بادئ الأمر بسبب القصف المرتبط بالهجوم العسكري في الأشهر الأولى لـ 2013.

وتبعه نزوح “قسري” كان الأكبر أثناء الحملة العسكرية الثانية في أيار العام ذاته، التي أفضت إلى سيطرة كاملة لقوات الأسد، وغياب المدينة عن خريطة السيطرة لفصائل المعارضة.

تعتبر القصير من المدن الكبيرة في محافظة حمص، ويتبع لها أكثر من ثمانين قرية أغلبها من الطائفة السنية، إلى جانب قرىً من طوائف مسيحية وشيعية وعلوية، وبلغ عدد سكان المنطقة 111969 نسمة، وفق “إحصاء 2011”.

أما الإحصائية بعد خروج المدنيين منها بعد الاجتياح العسكري فهي غير دقيقة، وبحسب الناشط الإعلامي، هادي العبد الله، ابن المدينة، فالتهجير تركز بشكل أساسي على القرى السنية، وعلى 90% من أهالي مدينة القصير، مضيفًا أن “عدد المهجرين من مدينة القصير وريفها الذين تهجروا بفعل دخول حزب الله بلغ 100 ألف نسمة بشكل تقريبي”.

لم توجد الباصات الخضراء حينها وفق العبد الله، حيث خرج الأهالي من المدينة سيرًا على الأقدام مسافة 35 كيلو مترًا، باتجاه القلمون في البداية، وتوزعوا فيما بعد على مخيمات اللجوء اللبنانية، وقسم آخر خرج إلى الشمال في أرياف حلب وإدلب.

وعزا الناشط الإعلامي تغاضي الحديث حاليًا عن مدينة القصير ضمن مناطق تهجير المدن السورية، كونها “كانت الأولى في عمليات التهجير، ولم يكن تهجيرها بشكل رسمي كالمدن الحالية، بل اعتبرت سيطرة خرج على إثرها المدنيون إلى مناطق آمنة، وسط غياب تام للباصات الخضراء حينها”.

المدنيّون ضحايا نزاع “داعش- الأسد” في ريف حمص الجنوبي

تقع مدينة القريتين وبلدتا مهين وصدد في ريف حمص الجنوبي، على مقربة من الحدود الإدارية لمنطقة القلمون في ريف دمشق الشمالي، وشهدت المناطق الثلاث المتجاورة صراعًا ومعارك تسببت بنزوح للأهالي، بعدما بلغ عدد سكانها 76500، بحسب “إحصاء 2011”.

نزح من منطقة مهين وحدها نحو 20 ألف نسمة، جراء المعارك بين النظام وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وفق تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في تشرين الثاني 2015، وتشير مصادر متطابقة إلى أن أحدًا لم يعد إليها جراء الدمار وخوفًا من القبضة الأمنية للنظام، المسيطر عليها حاليًا.

النزوح شمل أيضًا مدينة القريتين وريفها، ذات الـ 40 ألف نسمة (إحصاء 2011)، التي عادت لسيطرة النظام السوري في نيسان 2016، وتشير مصادر إعلامية محلية إلى أن نحو 50% من أهالي المدينة نزحوا منها ولم يعودوا حتى الآن.

وهو ما ينسحب على بلدة صدد المسيحية ذات الـ 16500 نسمة (إحصاء 2011)، التي تعرضت لتهديدات بالاقتحام من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية” أواخر عام 2015، فشهدت نزوح نحو عشرة آلاف نسمة، معظمهم أطفال ونساء وعجائز، إلى قرى مسيحية مجاورة مثل فيروزة وزيدل، وآخرون إلى دمشق، وفق تصريحات سابقة لرئيس بلديتها، سليمان خليل.

عروس الصحراء بلا سكان

تعد مدينة تدمر حاضرة الريف الشرقي لمحافظة حمص، وتخضع لها عدة قرى وبلدات أبرزها مدينة السخنة من المحور الشرقي، وبلغ عدد سكان المنطقة 126187 نسمة، وفقًا لـ “إحصاء 2011”.

شهدت تدمر تناوبًا في السيطرة بين قوات الأسد وتنظيم “الدولة الإسلامية” خلال العامين الفائتين، وكانت مسرحًا لعمليات عسكرية واسعة شاركت بها ميليشيات أجنبية ومحلية وقوات برية وجوية روسية، ما تسبب بموجات نزوح لسكانها، إلى أن أصبحت خاوية بشكل كامل، فيما لا تزال مئات العوائل تقطن مدينة السخنة، الخاضعة حتى الآن لسيطرة التنظيم.

وتواصلت عنب بلدي مع مركز “الدراسات والتوثيق” في مدينة تدمر، وأوضح أن 110400 شخص نزحوا من مدينة تدمر وريفها على دفعات، ابتداء من سيطرة التنظيم على المدينة في أيار 2015، واعتمد المركز على إحصاء تقريبي أنجزه في تموز 2016.

لم تشهد المدينة حتى اليوم أي عودة لنازحيها، الذين توزعوا على مناطق ذات سيطرة مختلفة في سوريا، إلى جانب المخيمات الحدودية مع الأردن وتركيا. ويعلّق ناصر عبد العزيز مدير مركز “الدراسات والتوثيق” بالقول “عاد إلى المدينة حتى اليوم 50 شخصًا فقط من مناطق النظام”.

استطلاع رأي

أجرت عنب بلدي استطلاع رأي عبر موقعها الإلكتروني، في 18 أيار الجاري، شارك فيه 411 شخصًا، حتى تمام الساعة الواحدة من ظهر السبت 20 أيار، طرح سؤالًا مفاده: من المسؤول عن تهجير السكان في حمص وريفها؟

وأظهر الاستطلاع أن 37% من المشاركين حمّلوا النظام السوري والميليشيات الرديفة مسؤولية التهجير، بينما حمّل 19% منهم المعارضة السياسية والعسكرية المسؤولية، في حين ذهب 6% إلى أن للأمم المتحدة والمجتمع الدولي الدور الأكبر في التهجير.

لكن شريحة تقدّر بـ 33% من المشاركين، اعتبرت أن النظام السوري والمعارضة السياسية والعسكرية والأمم المتحدة والمجتمع الدولي يتشاركون جميعًا في المسؤولية عن التهجير في محافظة حمص.

وأخيرًا فإن 5% اعتبروا أن خروج المدنيين من المحافظة كان اختيارًا.

 

التهجير القسري.. نزيف للموارد البشرية

وليد فارس- ناشط سياسي من مدينة حمص

في سوريا، يجري الحديث كثيرًا عن التغير الديموغرافي الذي يحصل في مختلف المناطق السورية، إذ يقلق الجميع من اختلاف التوازنات الإثنية المحلية، والتي تؤثر بدورها على التوازن الإقليمي، والمسألة محقة من وجهة النظر هذه، إلا أن ما لا يتم الحديث حوله هو النزيف المستمر للشعب السوري على مستوى الأفراد والمؤسسات.

إن الطاقات البشرية التي تم إعدادها علميًا وعمليًا في سوريا في مختلف المجالات، كانت محط أنظار الدول المستقبلة للاجئين منذ الأشهر الأولى للثورة السورية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تشير إحصائيات نقابة أطباء سوريا إلى أنه كان في حمص وحدها ثلاثة آلاف طبيب بداية 2011، واليوم يوجد أقل من ثلاثمئة، والأمر ينسحب على المعلمين والمحامين والمهندسين والاقتصاديين والإداريين، وحتى على مستوى أصحاب المهن الحرة.

بلغ عدد سكان حمص مطلع العام 2011، بحسب إحصاءات المكتب المركزي للإحصاء في سوريا، حوالي مليوني شخص، وبعد ست سنوات فقط هناك أقل من خمسمئة ألف في المحافظة كلها.

عمليات القنص والقصف والحصار، بالإضافة إلى المجازر المروعة التي ارتكبها نظام بشار الأسد وميليشياته، أدت إلى نزوح إجباري لأكثر من مليون ونصف من سكان محافظة حمص، والأمر لا يقتصر على حمص وحدها.

بعد قصف حيي بابا عمرو وجورة العرايس لأكثر من 27 يومًا بمختلف أنواع السلاح، اقتحمت القوات البرية التابعة للنظام المنطقة، ونفذت حملة اعتقالات ومذابح بحق العدد القليل المتبقي من سكانها، ثم اقتحمت ميليشيات الشبيحة كرم الزيتون ونفذت مذبحة الأطفال الشهيرة، وقضى ما يزيد عن خمسة وعشرين طفلًا ذبحًا بالسكاكين.

وفي ذات الوقت، مطلع 2012، نفذت مجازر ذبح في حي السبيل والبياضة وشارع الرفاعي والعدوية والحولة، بالإضافة لخطف أشخاص من مختلف المناطق من قبل ميليشيات الأسد أو تصفيتهم في السجون على يد قوات الأفرع الأمنية.

إنها خيارات صعبة أمام السكان، الموت قصفًا في حال البقاء في منطقة يسيطر عليها الثوار، الموت ذبحًا أو تصفية في السجون على يد قوات النظام في حال بقائهم بعد اقتحام النظام للمنطقة، أو الخروج مكرهين من بيوتهم إلى أماكن أقل توترًا أو إلى خارج سوريا.

مع نهاية أيار الجاري تسيطر قوات النظام على حي الوعر في حمص، بعد حصاره وقصفه وتجويع الناس لثلاث سنوات تقريبًا، ليتبقى في الحي أقل من خمسة آلاف شخص (أقل من 2% من عدد سكان الحي قبل الحصار)، ومع هذا نستطيع أن نقول إن حي الوعر يعتبر نموذجًا مطورًا عن بقية المناطق التي أصبحت خاوية تمامًا من السكان.

في العام 2013 سيطر نظام الأسد على القصير وقرى حمص الجنوبية، ليغادر بذلك معظم أهالي المنطقة، ورغم مرور ما يقارب أربعة أعوام إلا أن تلك القرى بقيت مهجورة وخاوية على عروشها، ولم يعد من سكانها سوى بضعة آلاف، وفي الريف الشرقي لحمص فقد تشارك تنظيم “داعش” مع النظام بتهجير ما يزيد عن 90% من سكان تدمر والقريتين ومهين وقرى أخرى، فيما غادر ما يزيد عن 70% من قرى ريف حمص الغربي التي كانت تحت سيطرة النظام كالزارة وقلعة الحصن.

وتنحصر التجمعات السكنية في حمص اليوم في منطقتين رئيسيتين: هما أحياء محيطة بالمدينة القديمة كالغوطة والملعب وكرم الشامي والإنشاءات وسواها، مع سهولة ملاحظة تناقص أعداد السكان يوميًا بالخروج نحو بلدان الجوار، وخاصة على مستوى فئة الشباب، التي تفر من الخدمة الإجبارية والاعتقالات التعسفية التي يمارسها النظام بحق الشباب السوري عمومًا، والمنطقة الأخرى هي منطقة الريف الشمالي لحمص التي تتعرض يوميًا ومنذ أربع سنوات لغارات جوية وقصف مدفعي، ما يدفع السكان المتبقين لمحاولة البحث عن أماكن أكثر أمنًا.

الأمر لا يقتصر على مناطق المعارضة فقط، فالأحياء الموالية في حمص غادرها آلاف الشباب نحو المهجر، هربًا من التوظيف العسكري لهم في معركة ليست معركتهم، ليستمر بذلك النزيف البشري للطاقات، والموارد السورية، على شكل هجرة قسرية، قصفًا، واعتقالًا تعسفيًا، أو توظيفًا في معركة الدفاع عن الأسد.

مقالات متعلقة