ترحيل الأنقاض على نفقة تجار مهدّدين بخسارة محلاتهم

من سيعيد “إعمار حلب”؟

مقاتلون في قوات الأسد في مسجد أمية الكبير بحلب - كانون الاول 2016 (AFP)

camera iconمقاتلون في قوات الأسد في مسجد أمية الكبير بحلب - كانون الاول 2016 (AFP)

tag icon ع ع ع

“إجراءات إعادة إعمار حلب القديمة معقدة وصعبة جدًا، فالبلدية تطلب إعادة بنائها وفقًا للمخططات القديمة واستخدام الحجارة القديمة ونصب الأقواس، وكلها على تكلفتنا الخاصة، الأمر مكلف جدًا ويفوق التصوّر”، هكذا قال أحد التجار الحلبيين من السوق القديم (المدينة) لعنب بلدي.

عنب بلدي – سما نعناعة

تعرضت حلب إبان المعارك التي دارت بين المعارضة وقوات الأسد، منذ منتصف عام 2012، وعلى مدار أربع سنوات لقصفٍ متواصلٍ أحال عددًا كبيرًا من أبنيتها خرابًا.

وبحسب التقييم الأولي لمنظمة “يونسكو” التابعة للأمم المتحدة، أواخر 2016، فإن المعارك أدت إلى تخريب 60% من معالم المدينة، 30% منها دُمّر كليًا، لا سيما في أحيائها الشرقية، والشمالية والجنوبية، في ظل غياب إحصائيات دقيقة.

وكانت حصة حلب من الدمار هي الأكبر مقارنة مع بقية المحافظات الست التي ركز عليها البنك الدولي عبر فريق البحث التخصصي لإحصاء مدى الدمار الذي حل بها بالاستعانة بصور الأقمار الصناعية، إذ بلغت الأضرار في حلب نحو 58,1% من الدمار الكلي.

لكن معاناة الحلبيين لم تنته بسيطرة النظام السوري على هذه الأحياء، فعدا عن تهجير عددٍ كبيرٍ من سكان المدينة قسريًا، تتجه الأنظار إلى لعبة “إعادة الإعمار” ومن هي الجهة المخوّلة بتأهيل ما دمرته المعارك لعودة السكان والتجار إلى أسواقهم.

عنب بلدي تواصلت مع تجار مطّلعين على ملف إعادة الإعمار بعدما هدمت محلاتهم في السوق القديم (المدينة)، وهو أقدم وأطول سوق مسقوف في العالم بحسب موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، وناقشت معهم مخططات إعادة إعمار السوق، والمدة المتوقعة والطريقة وعلى من تقع مسؤولية هذه العملية، والإجراءات المتبعة لعودة التجار.

“أبو عمار” (73 عامًا)، الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، هو أحد تجار المنطقة منذ صغره، وورث محله في دخلة سوق النحاسين أمام الجامع الأموي الكبير، عن أبيه الذي ورثه بدوره عن أجداده، كما هو الحال بالنسبة لمعظم تجار “المدينة”، أو كما يقال لهم بالعامية “تاجر أبًا عن جد”.

بدأ تجار حلب القديمة بعملية إعادة الإعمار منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، وهي المناطق والأسواق الممتدة من قلعة حلب مرورًا بسوق الزرب والسقطية وحتى بابا أنطاكية، وغيرها من المناطق في محيط القلعة والجامع الكبير.

على نفقة التجار

تكمن المشكلة بالنسبة للتجار الذين تواصلت معهم عنب بلدي، في مدة العملية وكلفتها، في ظل غياب خطة عمليّة على أرض الواقع، فوفقًا لشهاداتهم لم تحدّد حكومة النظام خطة لإعادة الإعمار بعد، بل “تجبرهم” بشكل غير مباشر على التكفل بمصاريفها على حسابهم الشخصي.

فهم مضطرون للبدء بعملية إعادة الإعمار، وإن كانت على نفقتهم الخاصة، للاستعجال بفتح محلاتهم واستعادة أرزاقهم، وتخفيف الضرر الذي لحق بهم على مدى سنوات بعد إغلاقها.

وكان رئيس حكومة النظام السوري، عماد خميس، زار حلب بداية شباط 2017، برفقة 15 وزيرًا، وتكلّم عن الجهود التي تسعى إليها حكومته في سبيل الارتقاء بالواقع الخدمي والاقتصادي، فضلًا عن عملية إعادة الإعمار، والتي حدّد لها ميزانية مبدئية في إطار 14 مشروعًا، بلغت نحو مليار و100 مليون ليرة سورية.

لكن مسؤولًا مطّلعًا في الحكومة، طلب عدم ذكر اسمه، أكّد غياب خطة حقيقية للبدء بعملية إعادة الإعمار، وبالتالي لا توجد موازنة محددة.

وتقبل حكومة النظام طلبات المواطنين التي تهدمت عقاراتهم من أجل الحصول على التعويضات، ولكن وفقًا لجداول خاصة موجودة لدى اللجان المختصة، والتي تقدر قيمة الضرر، ويتطلب الأمر دراسة ووقتًا من أجل الموافقة النهائية، ولكن دون تحديد الحد الأدنى للمدة المخصصة لذلك، وفق إفادة المسؤول.

وستكون عملية إعادة إعمار حلب وفقًا للمخططات القديمة الموجودة لدى البلدية، ابتداءً من نوعية الحجارة وشكل الأقواس والارتفاع ومساحة البناء، أيام وضعتها “اليونسكو” على لائحة التراث العالمي للبشرية منذ عام 1986.

وفي هذا الإطار المجهول، توجد مشكلات أخرى يواجهها التجار، تنقسم إلى شقين: الأول والذي يتعلق بعملية ترحيل الأنقاض، والتي يجب البدء بها قبل أي خطوة، ولكن على نفقة التجار، والثاني هو مرحلة الحصول على الرخصة المطلوبة لإعادة الإعمار.

الحكومة تطلب ورقة تنازل

رغم التكلفة غير المعروفة لترحيل الأنقاض، تبعًا لمقدار الضرر الذي حل بكل بناء على حدة، ترفض حكومة النظام ترحيلها بمفردها، إذ ستعمل على فصل الحجارة والأتربة بنفسها، على كلفة التجار أيضًا.

والملفت، بحسب مصادر متقاطعة من التجار، أن الحكومة تطالبهم بالتوقيع على ورقة تنازل لعدم المطالبة بالنفقات لاحقًا، وتبرئة الذمة من ضرائب العقار، والتي يطلقون عليها اسم “ملاكية”، وفواتير المياه والكهرباء والهاتف، وإنْ لم تستخدم طيلة هذه المدة، بالإضافة للفوائد المتراكمة عليها.

وأثار ذلك حفيظة التجار، خاصة أن محافظة حلب، التابعة للنظام السوري، أعلنت أواخر شباط الماضي عن توقيع عشرة عقود بقيمة 975 مليون ليرة، لترحيل الأنقاض، وفتح الشوارع الرئيسية والفرعية، وتنفيذ المشاريع الخدمية في أحياء المدينة، وترحيل السيارات المدمرة من الشوارع وتجميعها في ساحات خاصة.

الشوارع الرئيسية أولًا

من جهته نفى المسؤول تباطؤ الحكومة بترحيل الأنقاض، مشيرًا إلى أن معظم الشوارع الرئيسية في المناطق المخربة من المدينة فتحت وأصبحت مهيأة لمرور السيارات والآليات والبشر، ومؤكدًا أن “للدولة أولويات في التعامل مع ملف الترحيل، بحسب أهمية المنطقة وكثافة سكانها، ومقدار الدمار الذي حل بها، وأنها تركز مبدئيًا على الشوارع الرئيسية”.

وأشار المسؤول إلى أن مؤسستي الإسكان العسكري والإنشاءات وبقية الشركات المختصة، تعمل بشكل متواصل على مدار 24 ساعة، دون توقف، ويضاف إليهم متعهدون خاصون أيضًا.

وعند الاستفسار عن السبب وراء مطالبة التجار بالتكفل ماديًا بعملية الترحيل، اعتبر المسؤول أن “المدينة” قديمة جدًا، وشوارعها وأزقتها ضيقة للغاية، وأنه من الصعب دخول الآليات الكبيرة إليها.

وأبدى بعض التجار رغبتهم بالمبادرة بترحيل الأنقاض، للمسارعة بفتح محلاتهم التي أغلقت لسنوات، واستعدادهم للتكفل بالنفقات، فعرضت عليهم الحكومة أن يفصلوا الحجارة (التي سيعاد استخدامها لاحقًا كونها أثرية بالمجمل، وتوافق المخططات القديمة أيضًا)، وعزلها عن الأتربة، لتأتي “تركسات” البلدية وتنقلها لاحقًا، وفق ما أورده المسؤول.

وعلى فرض أن التجار تمكّنوا من ترحيل الأنقاض أمام محلاتهم، أو أنقاض محلاتهم نفسها، ينبغي عليهم الحصول على الرخصة قبل البدء بالإعمار، وهذه معاناة أخرى.

حالتان معقدتان للحصول على الرخصة

ومن خلال المعلومات التي جمعتها عنب بلدي من التجار، توجد حالتان من الرخص “المعقدة”، لم يحصل أصحابها عليها بسبب إجراءات خاصة بالسوق القديم وخصوصيته بالمقام الأول.

الحالة الأولى، وفق ما قاله التاجر “أبو عمار”، هي أن الحصول على رخصة لإعادة الإعمار أمر صعب للغاية، فهو يتطلب الكثير من الوقت، والجهد والمال، مشيرًا إلى ضرورة الحصول على موافقة “لجنة إعادة إعمار حلب القديمة”، المكلفة حاليًا بالتخطيط لهذه الأمور، ومن ثم رفع الموافقة للمجلس النيابي، الذي سيصدر قرارًا يصادق عليه رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عبر مرسومٍ يبتّ بعملية إعادة الإعمار.

قد تصل مدة هذه الإجراءات إلى عامين تقريبًا، لارتباط العقارات ببعضها، كما قد تصل كلفة استصدار الرخصة إلى مليون ليرة، على حساب التاجر، وفق ما أوضح المهندس المشرف على عقار “أبو عمار”، والذي استفسرت منه عنب بلدي عن بعض الإجراءات.

لكن المسؤول في الحكومة ردّ أن هذا الكلام “غير منطقي”، موضحًا أن عملية الرخصة ليست بهذا التعقيد، وتتطلب مجموعة إجراءات منطقية، تختلف مدتها وتكلفتها بحسب البناء وتبعًا لخصوصيته، وفي حال كان يوجد عليه إعاقات قانونية، كمسألة الورثة، أو كان بناؤه مخالفًا، أو غير مطابق للمخططات القديمة.

ويحتاج الحصول على رخصة بناء في حلب القديمة، أو حتى مجرد الرغبة بإجراء تعديلات عليها، لموافقة البلدية، بشرط أن توافق المخططات القديمة في السجلات وألا يستخدم مواد مخالفة للمنظر العام لبقية الأبنية، وهذا ليس أمرًا جديدًا.

وتحدث المسؤول عن حالة واجهته، إذ تمكن من الحصول على رخصة بناء لأحد محلات السوق القديم، لم يحدد مكانه، خلال أسبوعين، وكانت كلفتها نحو 150 ألف ليرة، بمعدل 1500 ليرة للمتر المربع.

ما هي إجراءات الرخصة؟

يجب أن يُحضر الشخص المعني سند ملكية، أو وثيقة تثبت أنه مالك أو مستأجر أو مسترهن للعقار المطلوب ترميمه.

وبعد ذلك يظهر مخطط العقار القديم، المسجل لدى البلدية، كي لا يتجاوز حدود العقارات الأخرى المجاورة له.

ثم يعرض على لجنة “إعادة الإعمار”، التي تدرس الطلب بدورها وتحضر مهندسًا مختصًا ليتفحص مكان العقار ويقدم مخططًا ورؤيةً كاملة عنه، ويحصي كمية الأضرار التي تعرض لها.

ثم يعرض المهندس المتخصص النتيجة على اللجنة، التي تصدر الرخصة وفقًا للقوانين.

مصير مجهول بين الأوقاف والبلدية

والحالة الثانية من الرخص “المعقدة”، هي حالة “أبو ليث “ و”أبو محمد”، وهما اسمان مستعاران لرجلين يملكان محلات في بداية سوق المدينة بين شارع السبع بحرات والجامع الكبير، وهي محلات تابعة لمديرية الأوقاف أجّرتها للتجار الحلبيين منذ سنوات طويلة، وهؤلاء التجار يخشون فقدان المحلات أيضًا.

وتمكن “أبو ليث” من الحصول على الرخصة المطلوبة من مديرية الأوقاف للبدء بترميم محله، إلا أنه واجه مشكلة لم تكن بالحسبان، إذ رفضت البلدية منحه الرخصة بحجة أن هذه العقارات “في حال تهدمت لأي سبب من الأسباب، تعود ملكيتها لها”.

ويوجد في “المدينة”، ابتداءً من سوق النحاسين أمام الجامع الكبير، مجموعة محلات تعود ملكيتها للأوقاف، ويدفع التاجر لقاء إيجارها مبلغًا سنويًا رمزيًا، وتنتقل ملكيتها من تاجر لآخر بموجب عقد “فروغ”، قد تبلغ قيمته الملايين، نظرًا لأهمية هذه المحلات وموقعها الاستراتيجي، مقابل الجامع الأموي أوّل السوق، على الخط الواصل بين القلعة والسوق المغطى، ومكان وقوف حافلات السياح من الأجانب سابقًا.

وتعسّر على عنب بلدي الحصول على نسخة من قانون البلدية، في ظل غياب مرجعية قانونية أو نصوص متاحة رسميًا، وعند التواصل مع محافظة حلب للحصول على الرخصة، رفضت التعليق طالبةً مراجعة القصر البلدي.

ولكن التاجر “أبو عمار” أكد صحة الادعاء، فهو تاجر قديم وعلى اطلاع على قوانين البلدية المتعلقة بمنطقته وخصوصيتها، مشيرًا إلى أن البلدية قد تعرض هذه المحلات لاحقًا بموجب مزاد علني ليستأجرها شخص آخر.

 

“المدينة” اسم من ذهب خُطّ على حجارة بيضاء

“المدينة” كما يطلق عليها الحلبيون، اسم ارتبط بتاريخ وحضارة وإرث وجمال عمراني، يعود لآلاف السنين، وامتزجت في طياته رائحة التوابل والعطورات، واللحمة وأصوات الباعة و”البسطاطية” (الباعة المتجولون)، والزوار، ودق النحاس، وصور ملونة ومزركشة لأمتار من الحرير والعباءات.

حجارة بيضاء مستخدمة في بناء “المدينة” وسوقها المغطى، أقدم وأطول أسواق العالم، الممتد من باب أنطاكية حاليًا عبورًا بالسبع بحرات حيث النافورة الكبيرة التي تتوسط الدوار، والتي ترتبط لدى الزائر مع أولى المعالم الدالة على دخول السوق القديم.

يليها الجامع الأموي “الكبير”، أحد أقدم جوامع المدينة ويبلغ عمره نحو 1290 عامًا، حيث كانت ساحته الخارجية مسرحًا لتجمع الأطفال لمشاهدة قرابين العيد الكبير (الأضحى)، لا سيما الجِمال منها، وترتبط صورهم وهم يتراكضون في ساحاته الخارجية والداخلية بذاكرة معظم أطفال حلب سابقًا.

انقطع عن مئذنة الأموي صوت الأذان مع ضربة موجعة من قبل قوات الأسد، أصابت قلب السوق، وقطعت نبض حياته لأول مرة منتصف عام 2013، وصولًا إلى قلعة حلب أقدم قلاع العالم.

تتفرع “المدينة” إلى 38 سوقًا، ومجموعة خانات وقيسريات (مبانٍ مفتوحة نحو الداخل كان رجال الدولة والموظفون والجباة يستقرون فيها)، وحمامات عثمانية، تدل على حضارة وعراقة حلب، التي يعود تاريخها لأكثر من خمسة آلاف عام.

وقال الباحث التاريخي، ورئيس جمعية العاديات الأثرية في حلب سابقًا، محمد قجة، إن تاريخ تأسيس سوق “المدينة” يعود إلى عام 312 قبل الميلاد، وأسسه سلوقس نيكاتور، وهو أحد قادة الاسكندر المقدوني.

أرشيفية لسوق المدينة في حلب (المصدر: موقع sonocarina)

ويتميز سوق “المدينة” المغطى، بأنه بارد صيفًا ودافئٌ شتاءً، وذلك بفضل المعمارية العبقرية والحجارة المستخدمة في بنائه، ويشكل أقدم نموذج على ما نعرفه في يومنا بالمجمع التجاري (المول)، وتتفرع عنه آلاف المحلات في سلسلة أسواق متشابكة، يصل عددها لخمسة آلاف محل.

يصل طول “المدينة” إلى 14 كيلومترًا، تبلغ مساحتها الكلية نحو 16 هكتارًا، وأهم أسواقها: الزرب، أو الضرب قديمًا، حيث كانت تسك العملة فيها، وسوق الخيش، وسوق السقطية والصابون، والقطن، واسطنبول، والجمرك.

ولا يمكن المرور دون ذكر اسم سوق الصاغة، إذ اشتهر تجار حلب بالذهب وصياغته، وحصل صاغتها على جوائز عالمية في هذا المجال، وما إن قيل في حلب ذهب وعرس و”جهاز” (تحضيرات العروس)، فإن “المدينة” أول ما قد يخطر في البال، ولا بد من زيارته للتحضير لمراسم الزواج وترتيباته، ابتداءً من الذهب إلى القماش والعباءات وما لا يعد ولا يحصى من بضائع جمعها السوق عبر سنواته الطويلة.

تعرضت “المدينة” للخراب في أكثر من مرة، لكنها بنيت مجددًا بعدها ما جعل بناءها متفاوتًا تبعًا للعصر الذي بنيت فيه، فالسوق بحلته المعروفة يختلف كثيرًا عن شكله القديم، لا سيما بعد إحراقه على يد تيمورلنك، أيام الغزو “المغولي”.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة