الكوميديا السورية بوصفها فعلًا “إجراميًا”

camera iconرشيد عساف في كواليس مسلسل الواق واق (انترنت)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – علي بهلول

“أنا متأكد أنه هو سبب أزمة الكيماوي بالبلد”، تقول شخصية جهاد التي يمثلها رشيد عساف في مسلسل أزمة عائلية، بعد خروج طفل من الحمام وقد امتلأ البيت برائحة كريهة.

“يمزح” عساف ضاربًا بإسفلت التهريج آلام 1420 إنسانًا خاضوا أسوأ تجارب الموت خنقًا، خلال 207 هجمات كيماوية نفذها النظام السوري منذ آذار 2011، بحسب ما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

تكثّف هذه الجملة الوجيزة نزوعًا مرعبًا للتلذذ بآلام البشر، عبر استخدام المجزرة بشكل مفاجئ في سياق “كوميدي” يجعلها أكثر بروزًا، إنها دعوة مبطنة للانتباه لما حدث، بل للتأكيد على حدوثه وتبنيه ومحاولة إكسابه صفة “العادي”، حتى إننا بتنا “نسخر” منه.

يتبادر إلى الذهن مباشرةً توصيف الفيلسوفة حنّة آرندت للأنظمة الديكتاتورية، إذ تشير إلى أنها تخلق من العنف الذي تمارسه مساحة يعيش فيها المواطنون، ويمارسون فيها أنشطتهم “الطبيعية” بعد تآلفهم معه، حتى تدفعهم إلى التمسك بهذا العنف الذي يضمن لهم “حرية” الحركة، والتعبير عن أنفسهم كما اكتشفوها في ظل هذه الأنظمة، كعبيد لآلة الحكم.

ربما يساعدنا التفسير السابق لنفهم لماذا لم يجد رشيد عساف، ومخرج العمل هشام شربتجي الموصوف بـ “شيخ كار الكوميديا”، إلا المجازر الكيماوية لاستخدامها كـ “دعابة” لإضحاك المشاهدين، فهم يتمسكون بهذه المساحة من العنف التي يعرفون جميع تفاصيلها، ويجيدون التحرك في دروبها الوعرة، وكأنهم جزء منها ومن ممارستها، ويتقبلونها وكأنها وجبة إفطار روتينية.

وإننا إذ نتذكر ما قاله عسّاف في “أزمة عائلية”، نضع أيدينا على قلوبنا حين نسمع بأنه يشارك في عمل كوميدي مرة أخرى تحت اسم “الواق واق”، وهي جزيرة يصل إليها خطأً مجموعة من السوريين الفارين من الحرب السورية إلى أوروبا.

يرتبط اسم الجزيرة في المخيلة السورية بمكان خرافي مجهول، غالبًا ما يوجد فيه المعتقلون، في حال لم يكونوا في جزيرة قبرص التي تمثل في الخيال السوري أيضًا مكانًا شديد البعد، يُساق إليه المعتقلون، كدلالة على استحالة عودتهم.

وتأكيدًا على هذا الادعاء نعود إلى وثيقة درامية أيضًا لما قبل الثورة، إذ يتكرر ذكر جزيرة قبرص على لسان ضابط الشرطة المشهور بعبارة “يا همّا لالي” من مسلسل ضيعة ضايعة، العمل الذي يُصنف كأفضل ما أنتجته الشاشة السورية ويجمع على محبته المعارضون والموالون.

يتوعّد “يا همّا لالي” كل من يعصي أوامر أجهزة الدولة بأن يصل “عواه” (صوت عوائه) إلى جزيرة قبرص، في إشارة إلى عنف التعذيب الذي سيتعرض له.

لا أدعي أن القائمين على الدراما السورية يتعمدون بث هذه الرسائل بكل ما تحمله من بعد رمزي وتكثيف لحضور الأجهزة الأمنية وسلطتها حتى على “إضحاكنا”، لكنني أقول إن هذه المفردات عناصر مؤسسة مشتركة لعقلية النظام القمعية، عناصر لا واعية تجعل من أي ممارسة صادرة عنها ولو كانت “نكتة” فعلًا إجراميًا.

ومن هنا تأتي خطورة ما قد تضطلع به الدراما السورية في “تطبيع” ممارسات النظام السوري “وشرعنة” ما يفعله، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى الدولي مع ترجمة العديد من المسلسلات إلى لغات أجنبية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة