استنقاع العالم

tag icon ع ع ع

محمد رشدي شربجي

من ناحية المبدأ، وبغض النظر عما يقال في الإعلام العالمي، ليس هنالك من فارق نوعي بين سياسة ترامب وأوباما الخارجية، الفارق أن ترامب يقول في العلن ما يقوله أوباما في السر، فكلا الرجلين يعتقدان أنه على حلفاء الولايات المتحدة أن يفعلوا المزيد لحماية أنفسهم، وأن الولايات المتحدة تنفق كثيرًا من الأموال التي لا داعي لها في سبيل ذلك. هي سياسة تلزيم المشاكل لأصحابها إذن والقيادة من الخلف بدل تصدر المشهد وتحمل الأعباء والتكاليف.

وتفسير ذلك قابع في الداخل الأمريكي أكثر من خارجه، فالولايات المتحدة تعوم على بحر من النفط الصخري، وتشير كثير من التوقعات أن الولايات المتحدة ستتخلص من الاعتماد الخارجي على النفط في العقود القليلة المقبلة، وهو ما يعني أن حماية خطوط نقل الطاقة التي شكلت إحدى أبرز دعائم سياسة الولايات المتحدة الخارجية لم تعد بأهميتها في القرن الماضي، كما أنها متقدمة عسكريًا واقتصاديًا على أقرب منافسيها بمراحل، وهي لا تخشى غزوًا من أي نوع وهي المحاطة بمحيطين من الشرق والغرب. عدا عن ذلك فقد دخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة ما بعد الطاقة، إن صحت التسمية، وهو أمر أتاحه التفوق التكنولوجي الأمريكي الهائل، فمواقع إلكترونية اليوم لا تعتمد مباشرة على الطاقة تحقق أرباحًا سنوية تعجز عنها دول نفطية عملاقة.

ومن وجهة نظري فإن الخلاف بين الرجلين (ترامب وأوباما) هو في طريقة ترجمة هذه المستجدات الداخلية إلى وقائع، فبينما يرى أوباما على سبيل المثال أنه يجب حث الدول الأعضاء في حلف الناتو تدريجيًا لدفع 2% من ناتجهم المحلي لموازنات الدفاع، يرى ترامب أن هذا يجب أن يحصل الآن وإن لم يحصل فالأفضل الخروج من هذا الحلف، ولكن النتيجة واحدة، من يتعرض للتهديد عليه أن يحمي نفسه بنفسه، بإمكانه شراء السلاح منا لو أراد.

وأمام إحجام الولايات المتحدة عن القيادة تبقى التحديات الدولية بلا رد، فمن التغير المناخي إلى قضية اللاجئين إلى مد اليمين المتطرف، وهي قضايا مرتبطة ببعضها بشكل كبير، تغيب عن المشهد فرصة لحل جماعي يضمن للأرض سلامتها وللبشر حريتهم وكرامتهم، بل استمرت دول العالم المتخمة بجشعها، وبدل محاولة إيجاد حل جذري لقضية اللاجئين على سبيل المثال بدعم مجتمعاتهم الأصلية أو تخليصهم من أسباب لجوئهم قررت هذه الدول بناء الجدران والحواجز وتسيير السفن والبوارج الحربية لاعتقال قوارب اللاجئين.

وتذكر هذه الأجواء بأجواء ثلاثينيات القرن الماضي حين فشلت عصبة الأمم بإيقاف التدخل النازي لدعم ديكتاتور إسبانيا فرانكو، واكتفت بمشاهدات الطائرات وهي تدك غرنيكا في مشهد يشبه ما فعلته روسيا في مدينة حلب السورية، وقتها رفضت بريطانيا، وقد كانت حينها القوة الأولى عالميًا، التدخل، واكتفت بإدانة هتلر الذي شجعه السكوت على احتلال تشيكوسلوفاكيا بعدها بسنتين، ثم دخل إلى بولندا التي أشعلت رسميًا شرارة الحرب العالمية الثانية.

ليس بالضرورة أن يكون العالم اليوم على طريق الحرب الثالثة، فلا حتميات في التاريخ، وأعتقد أنه من المبالغة القول بذلك، فتطور الدفاعات الحربية يشكل عامل ردع أمام الدول العظمى للاشتراك في حرب، كما أن المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وأشباهها لم تكن موجودة اليوم بشكلها ورسوخها الحالي.

ولكن بالرغم من ذلك فإن الخطر مازال قائمًا، وبكل تأكيد فإن سلوك الدول العظمى وسعيها لتغيير الحدود القائمة كما فعلت روسيا في أوكرانيا، أو اعترافها بحدود أُخذت بالقوة كما فعل ترامب في القدس سيشجع الدول الأخرى للمضي في هذا المجال، وحين يصبح هذا سلوكًا جمعيًا يكون العالم قد عاد لعهد الاستعمار والإمبراطوريات والحروب الشاملة.

النظام الدولي الحالي مختل منذ نشأته، وبات يضيق ذرعًا به الكبير والصغير، وهو نظام غير عادل ولا ديمقراطي بطبيعة الحال، وقائم على تركيز القوة بيد نخبة انتصرت في حرب قبل سبعين عامًا وترك بقية العالم في العراء، وهو نظام مسؤول مباشرة عن تدمير دولنا العربية بدءًا من فلسطين وحتى سوريا، التي لن تكون نهاية المطاف، سوريا هي نموذج استشرافي  للعالم كما يقول المفكر ياسين الحاج صالح، وبكل الأحوال فمازال العالم يعاني وسيعاني لسنوات مقبلة لا يعلم عددها إلا الله من السياسة الكارثية التي انتهجها أوباما، فالرجل الذي أحجم عن التدخل في سوريا مخافة الدخول في “المستنقع”، لم يكن يعلم أن عدم التدخل سـ “يستنقع” العالم بأسره.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة