تفاصيل دقيقة من زنازين “الأمن العسكري” في درعا

camera iconعنصر من الجيش الحر في أحياء درعا البلد - كانون الأول 2017 (نبأ)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – درعا

أن تجد نفسك فجأة معتقلًا في زنزانة دون تهمة، ويصبح أقصى ما تتمناه رغيف خبز أو حمامًا دافئًا، هذا ما حصل مع محمد أبو حسين، الذي قضى أشهرًا في فرع الأمن العسكري في درعا.

محمد لم يكن وحيدًا، فعشرات المعتقلين يحتفظ بهم الفرع الأبرز في الجنوب السوري، وتتباين تهم المعتقلين في سجونه، في وقت أصبح فيه ملف المعتقلين والمختفين السوريين مجرد أوراق تحملها المعارضة إلى مفاوضاتها “أستانة” و”جنيف” وربما إلى “سوتشي”، والتي لم تستطع من خلالها إيجاد حل لهم، أو على الأقل الكشف عن مصير عشرات الآلاف منهم.

وماتزال سجون الأفرع الأمنية مكتظة بالمعتقلين، وتستمر عمليات التعذيب التي تطالهم فيها، وسط إحصائيات تتكرر كل شهر عن عشرات الضحايا توثق أسماءهم منظمات حقوقية.

تفاصيل دقيقة في أربعة أمتار

عنب بلدي التقت أبو حسين الذي اعتقل في آذار 2017 على حاجز بلدة خربة غزالة أثناء توجهه إلى العاصمة دمشق في زيارة عمل معتادة، للحديث عن خفايا الفرع العسكري، وبدأ حديثه بتفاصيل اللحظات الأولى من الاعتقال، وقال “كُبلت يداي ووضعت عصبة على عيني، وتم اقتيادي في سيارة حتى دون توجيه أي اتهام، وبعد السير لأكثر من نصف ساعة تم إنزالي من السيارة ونزلت أكثر من 30 درجة تحت الأرض”.

طوال هذه الفترة لم يكن محمد يعلم الوجهة التي يقاد إليها ولا طبيعة التهمة، وأضاف “عند وصولنا تم إدخالي إلى غرفة يجلس فيها شخص خلف مكتب، وبدأ يخبرني بالممتلكات التي بحوزتي لتسجيلها، ثم جعلني أبصم على ورقة دون قراءتها، وطلب مني خلع كامل ملابسي قبل أن يجردني من الحزام ورباط الحذاء، ويقتادني إلى زنزانة مجاورة تمامًا لتلك الغرفة”.

ويُقدر أبو حسين الوقت الذي استغرقه من لحظة الاعتقال حتى إدخاله للزنزانة بساعة كاملة، لم يكن يعلم حينها أنه أصبح داخل فرع الأمن العسكري في مدينة درعا، وأنه بدأ للتو قصة من تعذيب ستستمر لأكثر من ثمانية أشهر.

“كان الرعب هو الشعور المسيطر عليّ فور إدخالي للزنزانة، قبل أن يتحول إلى صدمة بعد مشاهدتي العشرات من السجناء في الداخل، ملتصقين ببعضهم لتدفئة أنفسهم بسبب البرودة القارصة جدًا”.

ووصف محمد زنزانة فرع الأمن العسكري، التي وجد داخلها أكثر من 60 معتقلًا، بأنها عبارة عن غرفة طولها ستة أمتار وعرضها أربعة أمتار، وبجانبها سرداب طوله ستة أمتار وعرضه متر ونصف تقريبًا، فضلًا عن حمامين فقط، ومنفذ هواء واحد في أعلى الحائط لا يتجاوز ارتفاعه 30 سنتمترًا.

ويتقاسم كل ثلاثة أشخاص بطانية واحدة، يضعونها على الأرض لتفادي برودتها ويحاولون تدفئة أنفسهم بملابسهم فقط، بحسب المعتقل، الذي قال إنه في لحظة دخوله التف حوله عدد كبير من السجناء وبدأوا بتوجيه الكثير من الأسئلة، كان معظمها حول معركة حي المنشية في درعا، وكان يشهد حينها معركة “الموت ولا المذلة”، التي انطلقت في شباط 2017 وانتهت بسيطرة المعارضة على الحي.

وحول وجود مفاوضات لتبادل الأسرى أو إطلاق سراح المعتقلين، ووسط الأسئلة والأجوبة التي كان يعيشها محمد في تلك اللحظة، تفاجأ بصوت انفجار عنيف اهتزت له الزنزانة بالكامل، قبل أن يعاجله أحد السجناء بالقول “هناك مدفعية بجانب الفرع وطوال الليل والنهار تستمر بالقصف”، في إشارة إلى “اللواء 132” الواقع في حي السحاري بجانب فرع الأمن العسكري.

التهمة واحدة لجميع المعتقلين

بعد مرور ساعات في المعتقل، جاء أحد السجانين ونادى اسم محمد، ثم وضع غطاء على عينيه واقتاده إلى غرفة مجاورة.

ونقل المعتقل السابق تفاصيل التحقيق الأولي، “سألني شخص عن اسمي وبياناتي الشخصية، ثم اتهمني بأنني كنت قادمًا لمدينة درعا لرصد إحداثيات للإرهابيين، فأجبته بأنني كنت مسافرًا إلى دمشق أساسًا، قبل أن يركلني أحدهم على ظهري ويبدأ بضربي ويطلب مني الاعتراف حول الأشخاص الذين أتعامل معهم”.

رغم ذلك استمر محمد بإنكار الاتهامات الموجهة له، ليعاد من جديد إلى الزنزانة، وأشار إلى أنه علم لاحقًا أن معظم السجناء لديهم نفس التهمة، إذ زادت قوات الأسد حينها من الاعتقالات العشوائية بين المدنيين في ظل الاشتباكات العنيفة التي تشهدها أحياء مدينة درعا، وكان فرع الأمن العسكري هو المكان الذي يتم تجميع المعتقلين بداخله.

في اليوم الثاني للاعتقال، تحول أبو حسين من حالة الصدمة والخوف من الاعتقال، إلى التأقلم مع الواقع الجديد والاستسلام له.

وتابع الحديث عن تفاصيل الحياة اليومية في الفرع الأمني، إذ يتم إحضار كمية من الخبز في صباح كل يوم، بحيث يكون لكل معتقل رغيفان هما حصته من الطعام لكامل اليوم، إلى جانب إدخال وعاءين كبيرين يُفترض أن يكون فيهما معكرونة أو أرز، لكن يتم سرقة ما فيهما من قبل ضباط الفرع والإبقاء على المياه “شديدة الملوحة” التي تم طبخ المعكرونة بها.

وأوضح المعتقل أنه طوال الأشهر التي قضاها في المعتقل لم يقدم لهم أي نوع من الخضراوات ولم يحدث أي تغيير على نوعية الطعام، ليخسر بذلك أكثر من 35 كيلوغرامًا من وزنه خلال ثمانية أشهر.

واستذكر محمد معاناة المعتقلين مع الطعام خلال شهر رمضان، الذي مر عليه في السجن، “لم يتغير الطعام أبدًا، ولا حتى مواعيده، فكان الخبز والوعاءان يأتيان صباحًا وننتظر حتى موعد الإفطار، الذي كنا ننظر من النافذة المتاحة حتى حلول الليل للتأكد من دخول موعده، ونتيجة للحرارة المرتفعة خلال رمضان وساعات النهار الطويلة، تصبح رائحة الخبز والوعاءين سيئة جدًا، ورغم ذلك لا يوجد لدينا أي بديل آخر إلا تناول هذا الطعام”.

الاستحمام لم يكن أفضل حالًا من الطعام، وبحسب أبو حسين فإنه “تعذيب اختياري”، إذ لا يملك المعتقلون أي ملابس إلا التي كانوا يرتدونها لحظة الاعتقال.

وقال “عندما تقرر الاستحمام عليك غسل هذه الملابس للتخلص من القمل وأي حشرات صغيرة، والاستحمام طبعًا بالماء البارد، وإن كنت تريد البقاء على قيد الحياة والتخفيف قدر الإمكان من الأمراض، فأنت مضطر لفعل ذلك كلما استطعت”.

قصص دون خاتمة

تحولت حياة أبو حسين مع مرور الأيام إلى “روتين واستسلام”، لا يتغير فيها إلا القصص الجديدة التي تأتي مع المعتقلين الوافدين بعده.

وأضاف “عندما دخلت المعتقل، استغربت من التفاف الكثير من المعتقلين حولي وتوجيه العشرات من الأسئلة لي وأحيانًا عدم ترك أي فرصة للإجابة، وكنت أظن أن ذلك فيه عدم مراعاة للمعتقل الذي يكون تحت تأثير الصدمة، لكن مع مرور الأيام أصبحت أقوم بهذه التصرفات مع أي معتقل جديد، لعلك تسمع منه أي خبر يعطيك بعض الأمل لأيام أخرى”.

وبعد فترة من الزمن يتحول كل معتقل إلى كتاب فيه قصص الكثيرين وفيه أرقام هواتفهم أيضًا “كل معتقل يحاول أن يخبر زملاءه برقم هاتف ذويه ليتصل بهم في حال خروجه قبلهم، وأكثر من يتحمس لهذا الأمر هم المعتقلون الجدد، وبعد أسبوع أو اثنين لا يعود هذا الأمر من الأولويات”.

اختتم محمد قصته بأن “المعتقل يعيش في معركة مع ذاته كل يوم، ويحاول البحث عن أي أمل للبقاء على قيد الحياة (…) المعركة الأكبر هي ضد نفسك في انتظار اليوم الذي سيُطلق فيه سراحك، وتنحصر فرحة المعتقل في الداخل بحصوله على رغيف خبز طري أو مياه ساخنة، أو سماعه لأي خبر جيد من أحد المعتقلين الجدد أو توديعه لصديق يتم الإفراج عنه”.

وبحسب المعتقل “لن يستطيع أي معتقل أن يصف لك فرحته عند الإفراج عنه، لأن تلك الفرحة سيشوبها الكثير من الألم بعد أن تدرك أن السجون مازالت ممتلئة بالمعتقلين، وأن هذه القصة سترافقك مدى الحياة”.

تم الإفراج عن محمد في تشرين الثاني 2017، بعد ثمانية أشهر لا يعلم لماذا ألقي القبض عليه أو احتفظ به، ولا يعلم لماذا تم الإفراج عنه، على عكس كثير من المعتقلين الذين مازالت قصتهم دون خاتمة، وعلى عكس آلاف المعتقلين الذين كانت خاتمة قصتهم خبرًا يحمل عبارة “استشهد تحت التعذيب”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة