الموت والرحيل وشتاء إدلب

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

لم تنفعنا مزاعم بوتين بالانسحاب من سوريا، فطائراته تلاحق أكثر من ثلاثمئة ألف من القرويين في ريف إدلب، وفي ريف حلب الجنوبي، وتهجرهم من قراهم ومن مساكنهم البائسة في هذا الشتاء القارس.

لم تسعفنا الآمال بتخفيف غلواء نظام الرهبنة الإيراني، بعد الاحتجاجات الشعبية في الداخل الايراني ضده، فآياته ورهبانه يقومون الليل، ويصلّون، ويتهجدون، وفي الصباح يشرعون بذبح السوريين وبتهجيرهم، حيث تقوم ميليشياتهم الطائفية بممارساتها الوحشية المنبثقة، من قلب هذا النظام الطائفي، ومن وجدانه العميق.

مناظر الناس الخائفين والفارين من بيوتهم ومن قراهم في هذا البرد والزمهرير تومض في موجات من الصور ومن الأخبار في وكالات الأنباء، ولكنها سرعان ما تختفي لتلاحق أخبارًا جديدة في المأساة السورية.

قوات النظام تمارس القصف العشوائي، وتمارس سياسة الأرض المحروقة في معاملتها مع السكان، أو مع من تبقى منهم في قراهم، حيث تطلق العنان للنهب والسلب، والاغتصاب، باسم الأمة العربية، وباسم الأخوة الأسدية- البوتينية، وبمباركة دينية من رهبان الخامنئي.

موجة النزوح هذه تعتبر من أكبر موجات النزوح في سوريا التي تحدث خلال زمن قياسي لا يتجاوز الأيام القليلة من بدء القصف على مناطق الريف الجنوبي لريف إدلب. وهذه الموجة قد تمتد لتهجير 2.6 مليون مقيم ونازح في إدلب، فكل اتفاقات النظام السابقة وكل الكفالات الروسية والإيرانية، كانت ترحّل السوريين من كل مكان إلى إدلب، وختمتها كفالة “أستانة” باعتبار هذه المنطقة آمنة، وأقسم الإيرانيون والروس على كفالتهم لقوات النظام وعدم الاعتداء عليها.

إيران مستاءة من الاحتجاجات الداخلية، وتريد نصرًا عاجلًا في إدلب لتبرر لشعبها المحتج، رفع أسعار الوقود، والبيض، وتحويل الفارق إلى نظام بشار الأسد، وكأنه أصبح هو المهدي المنتظر في عقيدة دولة ولاية الفقيه الداعشية.

روسيا مستاءة من طائرات الدرون التي قصفت مطار حميميم في بداية هذا العام، ودمرت سبع طائرات مختصة بقتل الشعب السوري، وموجودة لتأديب هذا الشعب، وإعادته الى بيت الطاعة الأسدية، خلال الخمسين سنة المقبلة، ولتضمن اتفاقات الوجود الروسي في سوريا.

فالنصر الكبير الذي أعلنه بوتين في سوريا، تحول إلى مأساة بسبب طائرات الدرون المتسللة، رغم وجود صواريخ “اس 400″، وجرّت روسيا إلى المزيد من التورط في سوريا، عبر تصعيد القصف والتهجير في إدلب.

وبوتين يفكر بانتخاباته المقبلة في آذار المقبل، بعد أن حذف من إنجازاته النصر الكبير في سوريا، متحاشيًا اعتباره كتورط كبير في سوريا، على الأقل ريثما تمرّ مسرحية انتخاباته المعروفة النتائج سلفًا.

الخامنئي مايزال يُعدّ للشعب السوري المزيد من الدمار والتهجير، وما مأساة هؤلاء القرويين وأطفالهم ونسائهم، إلا تقدمة بسيطة، وصدقة جارية، في ميزانيات الكراهية التي يتفنن بإعدادها.

هؤلاء القرويون البسطاء مزيج من بدو، ومن أنصاف الحضر، مهملين على حافة بادية الشام السورية، ويتلاشى ذكر مأساتهم، وتتبخر صور نزوحهم يومًا بعد يوم، ولم يتبق من صورهم إلا مناظر التركتورات، والتريلات والسيارات المحملة بالأطفال، وبالأثاث الفقير، وبالمواشي، وبأسقف التوتياء التي يأمل أصحابها بإعادة وضعها فوق عائلاتهم المنكوبة، إن تيسر لهم ما يرفعها، وما يثبتها أمام الأمطار والرياح العاصفة.

ومن الصور الباقية أيضًا صورة امرأة مغربية، كانت قد تورطت بالزواج من سوري من أبناء جنوب حلب، قبل أحد عشر عامًا، وهي ترفع عريضة لملك المغرب محمد السادس، أن يخرجها من جحيم المخيمات في إدلب، فالحياة هناك لا تطاق كما تقول، وليس فيها إلا الجوع والقهر والحاجة. هذه المواطنة المغربية وجدت من تستنجد به، وهو ملك بلادها البعيدة والصماء، التي ترفض سماع أصوات معاناة السوريين. أما الثلاثمئة ألف من النازحين الجدد، فلم يجدوا من يستنجدون به، لا ملك، ولا شيخ عشيرة، ولا شيخ دين، ولا ديكتاتور صغير أو كبير. وهم يرحلون من مكان إلى آخر، ملاحقين بأحقاد الشبيحة، وزبانيتهم، وبتحاليلهم التي تختصر كل هذا المأساة بالمؤامرة، وما علينا إلا أن ننتظر نهاية هذه المؤامرة، وليمت الناس، أو ليتحملوا قدرهم القاسي، مادام هؤلاء المحللون الأشاوس يتنعمون بالدفء، وبالطعام، ويرفعون صور الأسد، أو الخامنئي، أو الجولاني، أو البغدادي، أو ما تيسر من صور الزعامات، التي تزكم رائحتها الأنوف.

ماتزال صور النازحين، وتعابير وجوههم، تتلاشى من مواقع الرصد الإخبارية، ومن صفحات التواصل الاجتماعي، فهؤلاء مجرد ريفيين فقراء ومنسيين، منسيون في عصر الأسدين، وفي عصر البعث، ومنسيون في عصر الدولة الوطنية، ومنسيون في عصر الدولة العثمانية، منسيون عبر تاريخ قاسٍ لا يقدّر البشر، ولا يتلمس معاناتهم ومشاعرهم، بل يقدّر الثوابت التاريخية، والمقولات المكرورة حتى القرف.

تتقاتل الدول على مطار أبو الظهور، من أجل أن توفر على قواتها تكاليف قصف السوريين، وبدلًا من أن تأتي الطائرات من مطارات بعيدة، فيمكن لها أن تطير من مكان قريب لتقتل أكبر عدد منا نحن الخونة حسب إعلام النظام، وأكبر عدد من الكافرين والمرتدين حسب فتاوى مرتزقة الإرهاب.

وبدلًا من أن تأتي الأسلحة عبر الطرق البرية لتزود الميليشيات الطائفية، وتتكلف الكثير من الأموال، ومن القتلى لتصل القذائف إلى صدور ضحاياها، فإنها تأتي إلى مطار أبو الظهور، وتباشر عملها فورًا ودون عناء أو تلكؤ أبدًا. فقد اتفقت جميع الأطراف على توجيه كل أنواع البنادق والمدافع إلى صدور السوريين.

شتاء قاس آخر يمرّ على السوريين، وليس لهم إلا البرد، والجوع، والتهجير، فهل نغيث أنفسنا، ونجد مخرجًا، وخلاصًا من هذا الفجور الاستبدادي، ومن هذا العبث الإرهابي، ولنوقف هذا التلاعب الدولي ببلدنا؟




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة