سوريّو المؤتمرات

tag icon ع ع ع

عمر قدور – المدن

قبل نحو ثلاث سنوات تواصل معي شخص عبر صفحتي على فايسبوك، معرّفاً بنفسه أنه يعمل مع مجموعة لإنقاذ الوضع السوري، وهذه المجموعة تتواصل مع مكتب المبعوث الدولي. ملخص تصور المجموعة هو أنه قد حان الوقت كي يتحرك العقلاء لإنقاذ البلد، وهذا التحرك تنبغي قيادته من قبل التكنوقراط بعد أن خربت السياسة البلد، وفي كعكة التسوية التي يقودها المبعوث الدولي يجب الحصول على قسم مؤثر منها فلا تُقتسم بين الأسد والمعارضة فحسب. وقبل سنتين تواصل معي سوري آخر ليستكشف ما إذا كنت موافقاً على حضور ورشة عمل ترعاها دولة أوروبية، ويحضرها سوريون معارضون وموالون لتنظيم الأسد، ولم تكن لديه إجابة عن غاية الورشة وفوائدها سوى أنه يجب علينا الخروج من هذه التصنيفات، وأننا في النهاية جميعاً سوريون.

مع الاعتذار عن الاستهلال الشخصي؛ أغلب الظن أن دعوات مماثلة قد وُجهت إلى كثر، وكانت المؤتمرات تُعقد طوال سنوات، حالها حال ورشات العمل البعيدة عن الإعلام أو الورشات التابعة لمؤسسات الإن جي أوز. وإذا تقصّينا العدد الضخم من المؤتمرات والورشات فسنحصل ضمن روادها على عالم سوري موازٍ نكاد لا نعلم عنه الكثير، بما أن أغلب الرواد تنحصر فعاليتهم في حضور تلك اللقاءات، وينتظرون موسم فعاليتهم المنشود بعد إبرام تسوية يكونون جزءاً منها، أو على الأقل قاعدتها التقنية المحايدة سياسياً والتي تحظى برعاية دول غربية.

في مناسبات أخرى، مدروسة على الأرجح، نُقلت إلينا عبر الإعلام صورُ لقاءات من هذا النوع، وشاهدنا مثلاً كيف تبكي أم ثكلى موالية وأم ثكلى لابن معارض، وكيف يمكن لهما أن تتعانقا وتبكي كل منهما ابنها على كتف الأخرى! ما يؤدي بمخيلتنا إلى سيناريو آخر، لو كانت النوايا صافية، سيناريو يُظهر بشار الأسد من جهة ومندوب عن المعارضة من جهة أخرى، يتجهان إلى العناق على نحو ما نرى في نهايات الأفلام المصرية القديمة إذ يصرخ كلٌّ من البطلين باسم الآخر، بعد أن أمضيا الفيلم في عداوة سببها كيد العذّال. وفي نهاية، تليق أكثر من سابقتها بعصرنا الحالي، قد نشهد الاثنين بعد أشهر يعيدان مشهد العناق وهما يستلمان جائزة نوبل للسلام.

إلى جانب عالم المؤتمرات والورش هناك عالم التنظيمات والمنظمات السورية التي لا نسمع بها، إلا أنها تشارك مشاركة حثيثة في هذه اللقاءات، أو ثمة أشخاص محددون دائمو المشاركة باسمها. هناك أيضاً تنظيمات أو منظمات يجري تشكيلها على عجل، فقط من أجل مشاركة في مؤتمر ما، وبالطبع لن يُكلف منظمو المؤتمر أنفسهم تحري واقع تلك التنظيمات، أو حتى عدد الأسماء الوهمية الموجودة في كشوفاتها، وبالطبع ليس من مهمة أية جهة تنظم مؤتمراً تقصي الحقائق على نحو بوليسي.

وللحق يملك بعض المنتسبين إلى عالم المؤتمرات خبرات سابقة، ومنهم من اكتسبها من المنظمات التي دأبت أسماء الأسد على إنشائها لتمنح حكم زوجها ملمحاً حداثياً، ولا يندر أن يشارك الزملاء السابقون وقد انقسموا بين موالاة و”معارضة” في الورشات ذاتها فيسترجعوا معاً ذكرى الأيام الخوالي، ثم يقررون أنه يجب استعادتها بعيداً عن السياسة التي عكّرت صفوها. وبصرف النظر عن مصدر امتلاك الخبرات يتفق أصحابها على تحييد أنفسهم عما يجري، واعتبار المقتلة السورية نوعاً من القضاء والقدر، أو جريمة يُفضّل تقييدها ضد مجهول، أو نوعاً من عراك بين صبيان في الشارع يمكن فضّه عندما يجتمع العقلاء من الأهالي.

قسم صغير فقط من سوريّي المؤتمرات يعلو صوته لانتقاد المعارضة بشدة، ويتجاهل النظام بذريعة أنه لا يمكن إطلاقاً أن يكون موالياً. لكن الغالبية منهم تميل إلى لغة بعيدة عن السجال، وحضورها هادئ وخفيف على العكس من نشاطها المؤتمراتي. وإذا اقتضى الأمر إظهار موقف ما فالأرجح أن هؤلاء ستغلب على مواقفهم مسحة إنسانية محايدة أيضاً، بمعنى الحرص على إظهار التعاطف مع الضحايا من دون توجيه إدانة إلى المجرم. الإدانات عموماً ليست موجودة في عُرف هذه الفئة، وحتى إذا اقتضى الموقف إدانة الطرفين ستأتي الإدانة تلميحاً مع الاستدراك السريع بأن لا وجود لحل سوى العفو عما مضى وفتح صفحة جديدة.

البعض منهم تدرب فيما يعرف بمؤسسات اليوم التالي، وأصبح اليوم التالي وفق تعريفه هو اليوم الذي تنتهي فيه “الأزمة”، وعلى أي نحو كان. الحديث في نوعية النهاية ينتمي إلى السياسة التي لا يخوض فيها أولئك المتأهبون لليوم التالي، أما ما بدأوا به من ورشات تتعلق بالعدالة الانتقالية فقد طُوي منذ أعلنت الأمم المتحدة نفسها التوقف عن احتساب عدد القتلى في سوريا. وطُوي أيضاً بموجب التوجه الدولي لقبول بقاء بشار، وما عاد اليوم التالي هو اليوم التالي لسقوطه أو تنحيه بل اليوم الذي تُستهل فيه مرحلة التشارك معه تحت شعارات من قبيل أولوية السلم الأهلي، أو أولوية إعادة الإعمار.

ولأن هؤلاء بعيدون عموماً عن المشاكسة فهذه الخصلة أيضاً سمة وجودهم على وسائل التواصل الاجتماعي، هم لا ينخرطون في النقاشات الحادة أو الاصطفافات في هذه المواقع، وعلى الأرجح تربطهم صداقات افتراضية واسعة مع المتخالفين. إلا أنهم على رغم شبكة صداقاتهم الافتراضية الواسعة يبقون بعيدين عن بؤرة الأحداث، ويراهنون باستمرار على قبول عام يتأتى من كتابات لا تستثير حفيظة أحد، ولأنهم كذلك فهم يثيرون الاستغراب حقاً عندما يكتشف أصدقاؤهم الافتراضيون أو الواقعيون أن ذلك الهدوء يخبّئ وراءه دأباً من نوع آخر. النقطة التي يمكن وصفها بالمركزية بالنسبة لهؤلاء هي “الحرب”، فلا توقف عند المقدمات التي أدت إليها، ولا عند ما يعقبها. وعطفاً على النأي عن السياسة يظهر الإصلاح المطلوب متمثلاً باللامركزية الإدارية مع مشاريع التمكين الاقتصادي الصغيرة كأنه الحل السحري، وبمحض المصادفة كان هذا هو الاقتراح الإيراني منذ انخراط الحرس الثوري في المقتلة السورية، وهو إلى حد كبير ما تريده موسكو عبر مؤتمر سوتشي الذي يحضره الآن بعض من سوريّي المؤتمرات، بينما اعتذر البعض الآخر مُحرجاً بحكم الضجة التي رافقت نشر قائمة المدعوين إليه.

ولعل من حسن حظ من ذهبوا إلى سوتشي أن الأنظار ستكون متجهة إلى طرائف وفد الأسد، أي أنهم “كما يرغبون دائماً” لن يثيروا انتباهاً عاماً يُذكر، ثم سيعودون لينتظروا مؤتمراً آخر من المؤتمرات التي لا حصر لها عن سوريا وهم على يقين من تلقي الدعوات، وعلى يقين من كونهم النوع المفضّل لدى منظمي المؤتمرات.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة