إصرار “الإدارة الذاتية” على المضي بالمشروع الأمريكي ينذر بنتائج كارثية

tag icon ع ع ع

أيهم الطه

لابد أن نتفق بداية على أن بعض المشاهد التي نراها اليوم تتنفي مع الفطرة الإنسانية السليمة والأخلاق التي أمر بها الإسلام، وحثت عليها الديانات السماوية جميعها، كما تنافي حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، وأنه ينقصنا الوعي الكافي بالذات والمحيط والإقليم، وهذا الوضع ربما يمتد ليشمل معظم شعوب دول العالم الثالث، التي لا تزال تنقصها الخبرة السياسية والمرونة الكافية لإدارة المجموعات والدول، كما تفتقر إلى الكثير من آليات العمل السياسي، وقد نختلف في أسباب هذا الحال الذي نعيشه، وأغلب الظن يمكن الإجماع على أن نتائجه هي الحال المأساوي الذي نعيشه اليوم.

كما لابد أن نشير إلى أن هناك خللًا في المنطقة، التي درجت دولها على إهمال مطالب شعوبها في الداخل وحاجاتهم، بل والضغط عليهم وربما العمل ضد مصالحهم، مقابل تقوية علاقاتها مع الخارج والتفكير الطبيعي والمنطقي، أن قيادات الدول وإداراتها تكون ممثلة لشعوبها وقوتها تكون من الداخل، ومن شرعية تمثيلها لمواطنيها والخلل الذي حدث في هذا المعيار، أدى إلى ضعف قيادات دول المنطقة واضطرارها إلى الخضوع للدول الأخرى طوعًا أو كرهًا، وربما الكثير من السياسيين الشرق أوسطين وفي دول العالم الثالث، يكادون يجهلون أو يتجاهلون أن العالم المتقدم والدول تحترم قيادات الدول الاخرى لا لذاتها فقط بل بما تمثله في أوطانها.

إدارة العلاقات

هناك خلل في إدارة المنطقة، وهذا الخلل يكاد ينعكس على كل شيء فيها اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، كما ينعكس على العلاقات الدولية، وهذا ما تتجاهله معظم قيادات المنطقة، وما ينعكس كحالة من عدم الاستقرار الحالي والمستقبلي الداخلي والخارجي على حد سواء.

وربطًا مع أحداث المنطقة فقد كان يفترض بمن يتولى رسم سياسة الدول في المنطقة، وينصب نفسه كسياسي وممثل لمجموعة بشرية، وهنا أتحدث عن الإدارة الذاتية الكردية، أقول كان يفترض بها دراسة واقعها وإمكاناتها ومحيطها الجغرافي قبل أي تحرك أو تحالف أو الانخراط في مشاريع غير محسوبة النتائج.

وقد أخطأ الأكراد في سوريا والعراق في علاقاتهم مع واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، عندما عولوا عليها لدعمهم في مواجهة محيطهم الجغرافي.

وهذا حالهم منذ بداية القرن الماضي معلقين حيوان شعبهم على الوعود والآمال وتجاهل الواقع، ما سبب لهم الخذلان أكثر من مرة، وربما يكون سبب هذا التصرف هو شعورهم بالظلم في اتفاقيات تقسيم المنطقة قبل حوالي مئة عام، حيث  وعدوا بالحصول على رقعة جغرافية خاصة بهم، إلا أن ذلك لا يبرر عدم استفادتهم حتى اليوم من التجارب السابقة، فمكونات المنطقة ستجبر في النهاية على التعامل مع بعضها بحكم الجغرافية على الأقل.

وجود عدد من الأعراق والقوميات والمذاهب والطوائف في بقعة جغرافية متصلة، كان يمكن أن يؤدي إلى الازدهار والغنى المعرفي وينتج تنوعًا خلاقًا، كما كان في عصور سابقة إلا أن التناحر بين هذه المكونات، جعل المنطقة تعيش على فوهة بركان يثور متى أتيح المناخ المناسب، وجعلها تعاني من صراعات مستمرة بعضها ظاهر وأخرى مخفية، وقد جاء التعامل الدولي مع مكونات المنطقة  ليؤجج هذه الصرعات المحلية ويدعمها.

تجاهل الوقائع

مراقبة تصرفات الإدارة الذاتية وما نسجته من شبكة علاقات محلية ودولية، يؤكد أنها تجاهلت جميع المعطيات على الأرض والوقائع الجغرافية والتاريخية وقدراتها البشرية والمادية، وانخرطت في المشروع الأمريكي مدفوعة بأحلام الاستقلال وبناء كيان خاص بها، رغم نفي الإدارة لهذا إلا أن هذا النفي، يذكرنا بالمثل المصري المشهور “أسمع كلامك أصدقك وأرى أفعالك فأستغرب منها، ومعناه أن أففعال الشخص تنافي أقواله والعبرة هنا للفعل لا للقول.

ورغم أنها حاولت أن توزع بيضها في أكثر من سلة، حيث تواصلت مع الروس والأوروبيين وشرق آسيا، إلا أن بيضة القبان والكلمة الفصل كانت دائمًا في العاصمة الامريكية.

ومع كل ما مرت به الإدارة من مشكلات وما تكبدته من خسائر، إلا أنها تصر على السير في ذات النهج، ومع أن تصرفات الإدارة الأمريكية لا تزال توحي باستمرار دعمهم لقوات الإدارة الذاتية، وتصريحات الأخيرة تبين أن هذه الإدارة لا تزال تعول على المشروع الأمريكي وتثق فيه وهي بذلك “تزيد الطين بلة”، كما يقول المثل العربي، وتعمق الشرخ بين الأكراد ومحيطهم.

على صعيد متصل فوعود واشنطن مستمرة مطمئنة الأكراد إلى استمرار تدفق المساعدات المالية والحربية، وزيادة الضخ المالي والفني لإصلاح البنية التحتية، وتطوير مؤسسات المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا، أي استمرار العمل على إنشاء كيان مستقل.

فيما المساعدات الحقيقية التي تصل إلى الأرض غير كافية لإقامة مثل هذا الكيان.

ولا جديد هنا حول هذه العلاقة، التي بقدر ما تبدي بحسب رأيي تضحية الإدارة الذاتية بمكاسبها السابقة السياسية والاقتصادية والإدارية، وتخليها عن التوافق مع محيطها المحلي والإقليمي مقابل وعود واشنطن، التي غالبًا ماتهب أدراج الرياح، هي سياسة أمريكية درجت الإدارات المختلفة في البيت الابيض، فمن يجلس خلف المكتب البيضاوي يهتم بمصالح بلاده وتعزيز نفوذها بأقل الأثمان، أكثر من حقوق الشعوب المظلومة.

والأكراد لم يتعلموا من تاريخهم الطويل في الجري وراء السراب والوعود الزائفة، فرغم دعم الغرب والولايات المتحدة لتطلعات الأكراد وحقوقهم -وكثير منها هي مطالب مشروعة- إلا أن القيادات الدولية درجت دوما على أتباع مصالحها  في النهاية.

وكان يجب على السياسيين في الإدارة الذاتية إدراك أن الدعم الدولي لها، محدود بحاجات مرحلية وليس طويل الأمد، وهذا واضح من حجم المساعدات المادية ونوعية الأسلحة التي يسمح للأكراد بالحصول عليها، ودائمًا تحت رقابة وإشراف الدول الداعمة، وهذا بحسب مصادر القوات الكردية، التي أكدت وجود مقاتلين أجانب في صفوفها واستمرار توافدهم للقتال معها.

ورغم تأكيد وزارة الدفاع الأمريكية أن هناك جنود أمريكيين من القوات الخاصة يقاتلون إلى جانب الأكراد، إلا أن واشنطن  لا تزال تصر على أن  أغلب المقاتلين الأمريكين  في سوريا، هم مستشارون وخبراء فنيون للمساعدة على قتال التنظيمات الإرهابية، وهو المصطلح الذي تستخدمه واشنطن للدلالة على الفصائل الجهادية، ما يعني أن استمرار القوات الأمريكية وخدماتها، لن يقتصر على قتال تنظيم “الدولة الاسلامية” وحده، وإن بقائها قد يطول بحسب المخطط الأمريكي.

لكن هذا الوجود بحد ذاته لا يكفي لضمان سلامة الكيان الكردي، ولا يدلل على صدق الموقف الأمريكي خاصة والغربي عامة مع الإدارة الذاتية، وهذا ما  بدا واضحًا في مسارعة أغلب دول العالم، وبينها أوروبا وأمريكا، إلى دعم الجيش التركي في عملية غصن الزيتون الأخيرة وعدم اعتراضهم عليها، وتراجعهم عن حماية خلفائهم الكرد  حيث تركوا يواجهون مصيرهم.

كارثة مستقبلية

ولكن المرحلة المقبلة هي الأكثر خطورة، ويعول الكرد على تغيرات هامة في خارطة المنطقة بدعم أمريكي، فهل ستفي واشنطن بوعودها هذه المرة وهل سنشهد  تكثيفًا للوجود الأمريكي العسكري في المنطقة، وهل سيتطابق حساب الحقل مع حساب البيدر؟

هذا متروك للأيام ورهين بتطورات الأوضاع  الميدانية، لكن التجارب السابقة لمثل هذه المشاريع في عدة دول، وآخرها العراق، تنفي ذلك وتنذر بنتائج قاسية وقد تكون كارثية على الإدارة الذاتية.

التجارب السابقة لسياسة واشنطن في المنطقة تنفي إمكانية التعويل على الدعم الأمريكي والوعود الغربية، وهذا ما ورد على لسان أشهر حلفائهم في المنطقة، وهو الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي قال “المتغطي بالأمريكي عريان” كما أن تراكم الأخطاء  في المنطقة من قبل الإدارة الذاتية وبعض الفصائل الأخرى، لن يوقف الصراع في هذه البقعة الجغرافية بل سيدفع إلى حروب محلية مقبلة، يكون وقودها الكرد أنفسهم  قياسًا بالقوميات الأخرى في المنطقة، والتي تعد أكثر عددًا وقدرة على تحمل الخسائر البشرية والمادية.

يشار إلى أن واشنطن التي تمتلك اليوم سبع قواعد عسكرية وحوالي ألفي مقاتل في سوريا، تنتشر في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وبحسب مصادر خاصة فإن تلك القواعد لا تزال تستقبل العتاد والأدوات اللوجستية، كما أن العمل جارٍ على قدم وساق لتحسينها وتطوير محتوياها، ورفع إمكاناتها وجهوزيتها، فيما هُمّشت قواعد الفصائل العربية المستقلة عن الأكراد وتقلص الدعم الأمريكي والأوروبي عنهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة