tag icon ع ع ع

فريق التحقيقات في عنب بلدي

من مدينة لـ “الحب والشعراء”، إلى “عاصمة للخلافة الإسلامية”، ثم ميدان لتعظيم “رموز قومية” بعيدة عن هوية المدينة، تبدلت أحوال مدينة الرقة خلال الأعوام الأربعة الماضية مع تبدل ألوان الرايات التي رفعت فوقها، وخسرت الآلاف من أبنائها، وأكثر من ثلثي بنيتها التحتية، حتى بدا من الصعب اليوم التعرف على الملامح الأصلية للمدينة.

ولعل مرحلة سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على الرقة بين عامي 2014 و2017، هي المرحلة الأقسى في تاريخ المدينة، فبعد أن أعلنها التنظيم عاصمة له، بدت الوجهة المفضلة للمتطرفين حول العالم، وبالتالي هدفًا مشروعًا لعشرات الدول الراغبة بـ “مكافحة الإرهاب” المجمع في واحدة من أصغر المدن السورية.

اليوم، وبعد أن غادر التنظيم المدينة تاركًا خلفه “حقل ألغام كبير”، وتبدلت راياتها من الأسود إلى الأصفر، ماتزال الرقة ساحة لتصفية بعض الحسابات الدولية، وما يزال أبناؤها يدفعون الفاتورة الأكبر، كضحايا لمخلفات تنظيم “الدولة”، وفارق عملة في تجارة تديرها “الولايات المتحدة الأمريكية” بأيدي مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية”.

الفاتورة العسكرية الأكبر في سوريا

على مدار ثلاث سنوات وسمت الرقة بأنها وكر لـ “الإرهاب” خلافًا لما تمتعت به سابقًا بمكانة تاريخية كبيرة فرضها الموقع الذي تشغله، وما احتوته من معالم أثرية.

وجاء توصيف “الإرهاب” على المدينة نتاج سنوات متناقضة تعاقبت عليها قوى عسكرية أبرزها تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2014، وسبقه نفوذ فصائل إسلامية استولت عليها مطلع الثورة السورية بعد انسحاب قوات الأسد منها.

عام 2013 كان نقطة التحول الجذري في تاريخ المحافظة، إذ خرجت فيه عن سيطرة النظام السوري بالكامل، بعد إعلان كل من: “جبهة النصرة” و”الجبهة الإسلامية” و”لواء أحرار الشام”، “لواء ثوار الرقة”، “لواء أويس القرني”، “كتائب الفاروق” السيطرة عليها، وأسرت حينها كلًا من محافظ الرقة وأمين حزب البعث، كما حطمت أكبر تمثال لحافظ الأسد، وحررت كافة السجناء في سجن الرقة المركزي.

تقع محافظة الرقة على نهر الفرات، وتعتبر من أثرى المناطق الزراعية في سوريا سابقًا، وتبعد عن حلب قرابة 160 كيلومترًا إلى الشرق، وعن العراق حوالي 200 كيلومتر.

يوجد فيها ثلاثة سدود على الفرات، أهمها سد الفرات الذي تعرض لأضرار جراء قصف التحالف الدولي المرافق لمعارك “قسد”، بالإضافة إلى سد الطبقة الذي كان يغذي سابقًا الرقة ومدينة حلب بالماء والكهرباء، وأخيرًا سد البعث (المنصورة).

تتميز بموقع استراتيجي بالنسبة لـ “قسد”، من حيث ربطها للمناطق التي تسيطر عليها في أقصى شمال شرقي سوريا، والمناطق التي سيطرت عليها مؤخرًا كمدينة منبج والقرى المحيطة بها.

لكن لم يمض عام على السيطرة وترسيخ النفوذ، حتى دخل إليها تنظيم “الدولة الإسلامية” في كانون الثاني 2014 من بوابة مدينة الطبقة ليكون الطرف العسكري الثالث المسيطر، ويعلنها عاصمته.

وتزامن ذلك في المراحل الأولى لانتشاره في العراق وسوريا، لتدخل المدينة في الفترة الأصعب، إذ مثل دخول التنظيم ضربة “صادمة” لفصائل المعارضة التي اتهمت بتسليم المدينة دون قتال، كما بدأت أنظار الدول الإقليمية تتجه إليها.

وأعلن المتحدث باسم التنظيم، أبو محمد العدناني، عقب السيطرة قيام ما اعتبره “الخلافة الإسلامية”، وتم تنصيب أبو بكر البغدادي “خليفة للمسلمين”، وتبع التطورات حينها فتح الحدود العراقية- السورية تحت مسمى “الدولة الإسلامية”.

بعد أيام من تحول السيطرة إلى التنظيم، انسحبت قوات الأسد من “الفرقة 17″، و”اللواء 93” شمالي الرقة، وصولًا إلى مطار الطبقة العسكري في الريف الغربي، لتترسخ السيطرة المحكمة من قبل تنظيم “الدولة”، والذي بدأ بشكل فوري بتطبيق سياسته العسكرية والدينية والاقتصادية لـ “أرض الخلافة الجديدة”.

استمر حكم التنظيم قرابة ثلاث سنوات ونصف اعتمد فيها على نشر أفكاره واستقطاب العشرات من المقاتلين من دول أخرى، وأدت سيطرته إلى انقطاع طرق التواصل مع المناطق الأخرى، ونزوح آلاف المدنيين.

وتكررت في هذه الفترة صور الإعدامات التي نفذها التنظيم بحق معارضيه من الأهالي أو الذين يخالفون الأحكام المفروضة من قبله لتسيير المنطقة، وقابلها جمود عسكري على أطراف المحافظة، خاصةً على جبهات قوات الأسد من الجهة الجنوبية والغربية وصولًا إلى ريف حلب الشمالي والشرقي.

هذه الصورة بدأت بالاهتزاز مع إعلان القوات الكردية عملية عسكرية باتجاه المحافظة بدعم عسكري (جوي، بري) من الولايات المتحدة الأمريكية، في حزيران 2017، واستطاعت السيطرة على مدن ومساحات واسعة في محيطها وصولًا إلى السيطرة الكاملة على الرقة في 10 تشرين الأول 2017.

يرى مراقبون أن الرقة انتقلت من طرف عسكري متشدد إلى آخر، خاصة مع محاولة “قسد” نشر مفاهيمها والعقيدة التي تؤمن بها، المتعلقة بحزب العمال الكردستاني التركي، وهو ما أكدته الإجراءات التي قامت بها عقب إعلان السيطرة بطلي جدران المدينة باللون الأصفر بدلًا عن الأسود، وما رافقه من نشر للحواجز الأمنية في معظم أحيائها كخطوة لعرقلة عودة المدنيين إليها القاطنين في المخيمات المحيطة بالمدينة، بحسب تقارير حقوقية.

مدينة أشباح

جهود “كسولة” لترحيل الأنقاض.. و”إعادة الإعمار” بعيدة

بعد مرور نحو أربعة أشهر على سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” على الرقة، لم يختلف شكل المدينة كثيرًا عن ساعة خروج التنظيم منها، إذ لم تبرح أنقاض الأبنية مكانها، ولم يستعد مركز المدينة شيئًا بسيطًا من حيويته السابقة.

يشير الصحفي أحمد المحمود، وهو من أبناء مدينة الرقة، إلى أن عدد المدنيين الذين عادوا إلى المدينة لا يتجاوز 10% من إجمالي عدد سكان الرقة الأصليين.

وقد تبدو هذه النسبة جيدة إذا قورنت مع التحركات “الكسولة” فيما يخص جهود ترحيل الأنقاض وترميم الأبنية المتضررة جزئيًا، وإزالة الألغام.

ووفق المحمود فإن أغلب العائدين استقروا في أحياء أطراف المدينة كـ “المشلب” و”الرميلة” و”الفرات”، إذ لا تتجاوز نسبة الدمار فيها 30%، بالمقارنة مع نسب دمار وصلت 90% وسط المدينة، وينوّه المحمود إلى أن عمليات نزع الألغام في هذه الأحياء تجري بشكل أسرع بالمقارنة مع بقية المناطق.

منطقة “الكسرات” غربي المدينة أيضًا شهدت انتعاشًا نسبيًا، بالنظر إلى أنها لم تتعرض لدمار واسع نتيجة انسحاب التنظيم منها دون قتال، إضافة إلى كونها منطقة زراعية ووفيرة بالمياه، وهو ما سمح بزيادة حركة تجارة الخضراوات والفاكهة فيها.

أما عن وسط الرقة فهي “مدينة أشباح”، حسب تعبير المحمود، الذي أكد أن الحركة تنشط جزئيًا في المدينة خلال النهار، فيما يتحرك الأهالي نحو الأطراف مع حلول المساء.

ويضيف المحمود “هناك الكثير من المحال التي فتحت أبوابها ويصورها الإعلام على أنها نشطة ومليئة بالألوان، إلا أنها فارغة فعليًا، وكل ما يحيط بها مدمر”، لافتًا إلى أن الأمر يأتي في سياق عمليات “الترويج” التي تقودها “قسد” للإشارة إلى أن الحياة عادت من جديد إلى الرقة.

أما الذين عادوا إلى هذه الأحياء فهم “مضطرون لذلك” من وجهة نظر المحمود، وأغلبهم ممن نزحوا سابقًا إلى أطراف الرقة وعاشوا في الخيام، ففضلوا العودة إلى منازلهم المدمرة جزئيًا، على الرغم من تردي القطاعات الخدمية، مع غياب مصادر المياه وصعوبة تأمين الكهرباء.

وكانت الأمم المتحدة عبرت عن تخوفها من تردي الوضع الإنساني في مدينة الرقة، بعد خروج تنظيم “الدولة” منها، وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في كانون الأول الماضي، إن السكان الذين يقطنون المدينة يعانون من قلة الماء والأغذية والمساعدات الأخرى.

وأضاف أن موظفي وكالات الإغاثة، لم يستطيعوا الوصول إلى المدينة، كما حذر من احتمال انتشار الأمراض بسبب عدم دفن بعض الجثث التي تسقط نتيجة لانفجار بعض العبوات الناسفة والألغام.

ابنية مدمرة في مدينة الرقة – 17 آب 2017 (روتيرز)

الأنقاض في مكانها رغم “التدخل المبكر”

يعمل “مجلس الرقة المدني” الذي أسسته “قوات سوريا الديمقراطية” في آذار 2017، على تنظيف المدينة من الركام ونزع المخلفات الحربية، بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية.

ووفقًا للجنة إعادة الإعمار في الرقة، فقد شهد شهر شباط الحالي تأمين وتنظيف مبنى الأمراض السارية، ومستشفى التوليد، ومدرستي طارق بن زياد وعقبة بن نافع، فيما يتركز العمل على المراكز الحيوية في المدينة مثل الجسور والمواقع الرئيسية، وتشرف “قوى الأمن الداخلي” على تنظيف المتحف الأثري وعشرات المنازل في محيطه.

أما فيما يخص إزالة الأنقاض، فبدأت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتنفيذ مشروع ترحيل الأنقاض في مدينة الرقة، ويتولى إدارة المشروع “فريق التدخل المبكر”، الذي بدأ العمل في المدينة في 14 كانون الثاني الماضي، بعد الحصول على منحة مالية من الوكالة الأمريكية، لينفذ المشروع على مراحل، في سعي لتأهيل المدينة وليستفيد الأهالي من الخدمات والمشاريع، وفق ما قال منسق المشاريع في الفريق، حسام الجاسم، لعنب بلدي.

وبدأ العمل داخل مدينة الرقة، في كل من شوارع سيف الدولة والمنصور و23 شباط، لفتح الطرقات وترحيل الركام إلى مكبات خاصة، تسهيلًا للحركة داخل المدينة ودعم الاستقرار، وبحسب الجاسم فإن الاستهداف يشمل المناطق التي دمرت بنيتها التحتية، إلى جانب حملات مشابهة في الطبقة وريف المحافظة.

وبحسب الجاسم فإن نسبة الدمار الكبيرة تعيق العمل، ما يؤكد ضرورة تقسيم المدينة إلى قطاعات، والاشتراك مع الهيئات الخدمية الأخرى العاملة فيها لدفع جهود إزالة الأنقاض.

وتبدو الحملات التي تمّ إطلاقها في ريف الرقة أكثر ما تركّز عليه الوكالة، فيما لم يتم إحداث فارق كبير حتى الآن داخل المدينة، ما يجعل المدينة من وجهة نظر سكانها “تفتقر لأبسط مقومات الحياة”.

فريق التدخل المبكر

تأسس “فريق التدخل المبكر”، الذي يصف نفسه بأنه نتاج مبادرة مجتمعية، مطلع حزيران 2017، ويعمل على إيجاد الحلول لمشاكل الأهالي، من خلال رصد معاناتهم عبر جلسات معهم في إطار إعادة الاستقرار للرقة.

ويتكون الفريق من قسمين “CRG” الذي يعقد اجتماعات دورية مع الأهالي لرصد احتياجاتهم، و”ERT” المؤلف من فريق هندسي يدرس الحلول الممكنة لتلك الاحتياجات، ويسعى لتطبيقها على أرض الواقع بمساعدة إداريين من المحافظة.

تمويلات “هزيلة” وحديث مبكر عن “إعادة الإعمار”

مع انتهاء الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، بدأت تُطرح تساؤلات كثيرة حول عملية إعادة الإعمار ومصدر المواد والتجهيزات المستخدمة في العملية، والجهة التي ستمولها، مع صدور تصريحات سياسية من مسؤولين كرد والتحالف الدولي بهذا الخصوص.

التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، أبدى استعداده للمساهمة في إعادة الإعمار، لكن المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ناثان تك، قال نهاية العام الماضي إنه “بعد تحرير المدينة تبقى مهمة صعبة تتمثل في إعادة الاستقرار وإعمار المدينة”، لافتًا إلى أن “عملية إعمار الرقة ستكون طويلة المدى”.

وعقب تصريحات الخارجية الأمريكية توالت الكثير من الوعود الدولية التي أُدرجت في سياق إعادة الإعمار، على الرغم من أنها اقتصرت جميعها على وعود لتمويل عمليات إزالة الأنقاض، ونزع الألغام، وتقليل المخاطر البيئية الناتجة عن وجود مئات الجثث حتى الآن تحت ركام الأبنية.

فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أن بلاده خصصت 15 مليون يورو مع حلول نهاية العام الماضي، من أجل تنفيذ مشاريع في قطاع المساعدات الغذائية ونزع الألغام والمياه والصحة ومساعدة اللاجئين.

المجلس المدني، تحدّث أيضًا عن جهود “إعادة إعمار بدعم دولي”، ومحاولات حشد تمويل من دول عربية (الإمارات والسعودية)، ودول أوروبية، لإزالة الأنقاض وتأمين المدينة.

لكن هذه الوعود، التي لم يترجم أي جزء منها حتى الآن على الأرض، تُقرأ في سياق الرسائل السياسية، ومحاولات الضغط على تركيا وروسيا.

ووفق ورقة بحثية بعنوان “الرقة ما بعد التنظيم.. قراءة تحليلية في المآلات وإعادة الإعمار”، نشرها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، فإن القاسم المشترك الأكبر بين الدول المعلنة عن نيتها إعادة الإعمار (الاتحاد الأوروبي، أمريكا، السعودية) هو اشتراكها في الظرف الحالي بعلاقاتها المتوترة مع تركيا ذات الحساسية الخاصة من أي دعم يقدم لـ “قوات سوريا الديمقراطية”.

واعتبر المركز أن تعهدات إعادة الإعمار جاءت بجزء منها رسالة مهمة لروسيا، التي استأثرت منفردة بالجزء الأكبر من عمليات إعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، إلى جانب عدم تركها تنفرد بفرض صيغة للحل السياسي التي ستحتاج بالضرورة لتوافق كل الفاعلين.

ولفت المركز في الوقت نفسه إلى أن حجم الدمار في الرقة، والذي بلغت نسبته 80%، لا يتناسب مطلقًا مع حجم المبالغ “الهزيلة” التي أعلنت عنها الدول المفترضة لرعاية العملية، والتي حددت هدف تلك المبالغ بإزالة الألغام وتنفيذ مشاريع في قطاع المساعدات الغذائية والمياه والصحة وتقديم العون للاجئين فقط.

ألغام في كل شبر والرعاية الصحية غائبة

بعد أن رزح أهالي الرقة لأعوام تحت خطر القصف، لم يبدُ الحال عقب خروج التنظيم أفضل مما كان عليه سابقًا، إذ وجد سكان المدينة “المنكوبة” أنفسهم في مواجهة مع مخلفات تلك الحرب، التي كان النزوح أول عناوينها العريضة، فيما لم يكن الموت بالألغام آخرها.

وفي محاولة من سكان الرقة لتجاوز معاناة النزوح بالعودة إلى مناطقهم وتفقد منازلهم، كان لا بد لهم من المرور فوق الألغام والعبوات الناسفة أولًا، وهو ما خلّف مئات الضحايا والمصابين بإعاقات جسدية دائمة.

دعوات دولية عدة طالبت الأهالي بعدم العودة إلى الرقة، محذرةً من كارثة إنسانية قد تودي بحياة العشرات أسبوعيًا، فيما تسابقت دول العالم لضخ أموالها في إعادة إعمار المدينة المنكوبة، بما فيها إزالة الألغام، التي لم ينجز منها سوى القليل، مع تجاهل دولي لما يجب أن يرافق تلك العملية من توفير الرعاية الصحية للمتضررين والمصابين من مخلفات الحرب.

أرقام “صادمة” لأعداد الضحايا

تشير الأرقام الأممية إلى أن الألغام في الرقة تتسبب بمقتل من 50 إلى 70 شخصًا أسبوعيًا، في أرقام وصفتها منظمة الأمم المتحدة بالصادمة، والتي تنذر بخطر أكبر في حال استمر السكان، وعددهم 450 ألفًا، بالعودة إليها.

وفي مؤتمر صحفي عقده مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا، بانوس مومتزيس، الأربعاء 7 شباط الجاري، قال فيه إن البيانات تشير إلى “كم هائل” من الألغام التي لم تنفجر بعد، وتابع “لم نر مطلقًا كمية ذخائر لم تنفجر مثلما يوجد في الرقة، كمية هائلة، في كل منزل وكل غرفة وكل شبر بالمدينة“.

وأشار إلى أن المنظمة لا يمكنها منع سكان الرقة من العودة إلى مدينتهم “الخطرة”، إلا أنه يتوجب عليها تحذيرهم من مخلفات الحرب تلك.

ومنذ سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على مدينة الرقة، منتصف تشرين الأول الماضي، بعد أربعة أشهر من القتال ضد تنظيم “الدولة”، يوثّق ناشطون مقتل مدنيين جراء انفجار ألغام أرضية، بشكل يومي.

وكانت “القوات” دعت جميع الدول والمنظمات الإنسانية والدولية إلى “المشاركة في عملية إعادة إعمار وبناء المدينة وريفها والمساعدة في إزالة مخلفات الحرب والدمار الذي خلفه التنظيم”.

واستجابة لذلك انتشرت فرق الإغاثة التابعة لمنظمات المجتمع المدني المحلية، والتي تعمل على إزالة الألغام إلا أنها غالبًا ما تبتعد عن التصريحات الإعلامية، نظرًا لـ “حساسية” المسألة.

عنب بلدي حاولت التواصل مع العديد من تلك الفرق التابعة للمنظمات الإنسانية ولمجلس الرقة المحلي، إلا أنهم رفضوا التصريح مشيرين إلى أن تعليمات تحظر عليهم التصريح في المرحلة الراهنة.

مصابو الألغام بلا رعاية

تماشيًا مع مخلفات الحرب في الرقة، خصصت منظمة الصحة العالمية ومنظمة “أطباء بلا حدود” نقاطًا طبية عدة في قرى الرقة وعين عيسى والطبقة مهمتها تقديم الخدمات الصحية والرعاية الطبية للمصابين من الألغام.

إلا أنه، وبحسب ما نقلت مراسلة عنب بلدي، فإن تلك المراكز لا تكفي للكم الكبير من المصابين، إذ لا يوجد إلا مركز واحد في بلدة عين عيسى تابع لمنظمة “أطباء بلا حدود”، والذي يشهد ازدحامًا كبيرًا وصلت معه الأمور إلى نوم المصابين على الأرض لقلة توفر الأماكن، فضلًا عن سوء الخدمات المقدمة، وفق ما ذكر مصابون للمراسلة.

فيما تغيب المراكز التخصصية التي تعنى بالمصابين جراء انفجار الألغام والعبوات الناسفة والذي غالبًا ما يترافق مع فقدان المصاب إحدى قدميه أو كلتيهما، إذ لا يوجد حتى الآن مراكز متخصصة لمبتوري الأطراف، تعمل على تأمين الأطراف الصناعية لهم، أو على الأقل تتابع حالتهم المرضية، وفق ما نقلت المراسلة.

تلك الفجوة التي لم تستطع منظمات الصحة الدولية سدها، حتى الآن، تدفع بعض مصابي الألغام إلى اللجوء للمستشفيات الخاصة، والتي تتلقى مبالغ مادية كبيرة لقاء العلاج، وصلت معها إلى حد الدفع بالدولار.

ويقدر عدد السكان العائدين إلى الرقة منذ خروج تنظيم “الدولة” منها، منتصف تشرين الأول 2017، بـ 60 ألف مواطن عادوا إلى مناطقهم المدمرة، فيما لا زال آخرون يترددون إلى المدينة لتفقد منازلهم ومعرفة ما حل بها جراء النزاع المسلح.

وتتعالى الأصوات الأممية والحقوقية المطالبة بإزالة الألغام والعبوات الناسفة في الرقة، كمرحلة أولى نحو إعادة إعمار المدينة.

“تجارة الألغام”.. تنظيف المنزل بـ 100 دولار

في معرض المأساة الإنسانية التي يعيشها سكان الرقة لإزالة مخلفات الحرب، تحولت إزالة الألغام في المدينة إلى تجارة مربحة لدى بعض الأفراد، الخبراء وغير الخبراء، في هذا المجال.

وقال أحد سكان الرقة لعنب بلدي، إنه دفع مبلغ 100 دولار لجهة، رفض ذكر اسمها، مقابل إزالة الألغام التي تركها عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” في منزله، الأمر الذي أكده آخر مشيرًا إلى تقصير من الجهات الرسمية حيال هذا الموضوع.

وأضاف أن قدرة المجلس المحلي على إزالة الألغام لا تكفي للعدد الهائل الذي خلفه التنظيم، والذي وصلت معه الأمور إلى انفجار لغم أثناء فتح البراد أو تحريك الباب.

ويتلقى المجلس المحلي في الرقة عشرات الطلبات يوميًا لتنظيف المنازل من الألغام إلا أنه لا يستطيع الاستجابة بسرعة لهذه الطلبات بسبب نقص في الكوادر، إذ غالبًا ما يسجل الناس أسماءهم لدى المجلس ليأتيهم الرد بعد شهر أو شهرين، وفق ما نقلت المراسلة.

لكن طول فترة الاستجابة يجبر سكان الرقة على اللجوء إلى أفراد وجهات غير رسمية من أجل تنظيف منزلهم من الألغام لقاء 100 دولار على المنزل الواحد.

منطقة ألغام في الرقة (AFP)

منطقة ألغام في الرقة (AFP)

مستقبل “غامض” تفرضه التناغمات الدولية

لا يمكن اعتبار سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على محافظة الرقة نهائية، إذ تدور التساؤلات حول مستقبلها حتى اليوم رغم مرور ستة أشهر على انسحاب تنظيم “الدولة”، وتصنيفها ضمن فيدرالية شمالي سوريا ككانتون تديره “الإدارة الذاتية”.

وترتبط التساؤلات بالمعلومات التي تم تداولها حول إمكانية دخول النظام السوري إليها في سياق الاتفاقيات الدولية، ويرافق هذا رمزية المدينة لدى أهالي منطقة الجزيرة السورية والذين يتخوفون من الرجوع إلى المدينة والبدء بتأسيس حياة جديدة واضعين احتمالية اندلاع مواجهات عسكرية من جديد من شأنها إعادة نفوذ قوات الأسد إليها كما كان سابقًا.

وفق رؤية محللين عسكريين تواصلت عنب بلدي معهم، فإن مستقبل مدينة الرقة مايزال غامضًا، خاصةً مع تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية إحكام قبضتها على مناطق شرق نهر الفرات، وما يقابله من توتر أمريكي- روسي بدأت بوادره بالظهور في ريف دير الزور الشرقي بمواجهات عسكرية قتل وجرح إثرها 300 عنصر روسي، بحسب تقرير ذكرته وكالة “رويترز”.

ويعتبر العقيد الطيار حاتم الراوي أن مستقبل محافظة الرقة “قرار أمريكي بحت”، إذ لا تملك روسيا وإيران أي قوة “فاعلة” في محيطها، الأمر الذي يجعل المنطقة في ملعب الولايات المتحدة الأمريكية.

ويشير الراوي، في حديث لعنب بلدي، إلى التناغمات الدولية على الأراضي السورية، والتي تؤثر بمستقبل أي منطقة، إذ يركز الجانب التركي على محافظة إدلب وريف حلب، وهو ما تدعمه أمريكا كحالة مرحلية وتقارب مؤقت يعزز بنفس الوقت وجودها في المنطقة الشرقية من سوريا.

بحسب الراوي، لا تشكل مدينة الرقة أي ثقل بالنسبة للجانب التركي بقدر ما تمثله من “قيمة معنوية” لإيران والجانب الروسي، وترجم ذلك في التصريحات الإيرانية الأخيرة التي تناولت صيغة التهديد بضرورة إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة الرقة.

وتزامنت التصريحات مع اتهام النظام السوري “قسد” بأنها “داعش جديدة” لا تختلف بشكلها العسكري أو المدني عن تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وبحسب ما يرى الراوي لا يوجد أي مبرر لإعادة النظام السوري إلى الرقة، ولن تخدم عودته أي جهة، فهو غير قادر على زيادة العبء على ما تبقى من قواته، لا سيما أن الوضع في المحافظة بوجود “قسد” بات أكثر استقرارًا، وهذا يريح الولايات المتحدة الأمريكية الساعية إلى شرق أوسط جديد.

لا تختلف وجهة نظر الراوي عن رؤية المحلل العسكري خالد المطلق، والذي يوضح أن مدينة الرقة اندرجت ضمن المخطط الأمريكي لتقسيم سوريا والتغيير الديموغرافي، خاصةً بعد الاعترافات الأخيرة للناطق السابق لـ “قسد”، طلال سلو، والذي قال إن المعركة في المحافظة كانت “وهمية” وبالاتفاق مع تنظيم “الدولة الإسلامية” بمباركة أمريكية على تهجير المدنيين منها بشكل كامل، وتدميرها بشكل كامل لرسم مخططها من جديد.

ويعتقد المطلق أن المحافظة ستكون معقلًا لـ “دولة الكرد المنشودة” في مخططاتهم، فالنظام السوري لا مصلحه له بالسيطرة عليها على الأقل على المدى المنظور، لأسباب كثيرة أهمها نقص الكادر البشري لديه، عدا عن دوره في مخطط تقسيم سوريا.

وربما يجسد تصريح وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، بعد سيطرة “قسد” على المدينة ما ستقبل عليه، إذ اعتبر أن “استرجاع مدينة الرقة أدخل الأزمة السورية في طور جديد”، الأمر الذي يطرح بوادر المرحلة المقبلة التي ستشهدها المحافظة.

وبالعودة إلى موقف الطرف العسكري الذي أحكم القبضة على المحافظة، أعلنت “قسد” في بيان السيطرة أن الرقة ستكون جزءًا من سوريا “لا مركزية اتحادية”.

وقالت إنها ستسلم إدارة مدينة الرقة وريفها إلى “مجلس الرقة المدني”، ومهام حماية أمن المدينة وريفها لقوى الأمن الداخلي، وأعطت تعهدات بحماية حدود المحافظة ضد جميع “التهديدات الخارجية”.

واعتبرت أن مستقبل المحافظة سيحدده أهلها ضمن إطار “سوريا ديمقراطية لا مركزية اتحادية، يقوم فيها أهالي المحافظة بإدارة شؤونهم بأنفسهم”.

مقالات متعلقة