tag icon ع ع ع

جريدة عنب بلدي – العدد 21 – الأحد – 24-6-2012

 

لكل مجتمع رموزه، على الصعيد الفكري والديني والاجتماعي والسياسي والثقافي. هذه الرمزية تأتي عادةً نتيجة تاريخ معين وتراكم من العطاء والبذل في كل مجال. فالرمز الفكري لا يصبح رمزًا إلا بعد عددٍ كبير من المؤلفات والأبحاث الفكرية التي يقدمها في سبيل تطور مجتمعه. كذلك فإن الرمز الديني لا يصبح رمزًا إلا بعد جهودٍ كبيرة يبذلها في الاجتهاد والتجديد الفقهي وفهم الدين فهمًا يناسب العصر. وكذلك الحال بالنسبة للرموز الاجتماعية، فهؤلاء يأخذون مكانهم المميز في مجتمعاتهم نتيجةً لما قدموه من خدمات اجتماعية وخيرية لأهالي مدنهم وقراهم. وأيضًا فإن الكثير من الممثلين والإعلاميين أصبحوا رموزًا بسبب أعمالٍ فنية رفيعة أضافت لتاريخ الفن والثقافة رصيدًا معينًا على صعيد الصورة والأداء وغيره.

نستطيع القول أنه في سوريا كان هناك العديد من هؤلاء الرموز. فعلى المستوى الديني، بلغ الشيخ محمد راتب النابلسي شهرةً كبيرةً، فأينما ذهبت تسمع تسجيلاته ومحاضراته وتقرأ كتبه ومقالاته. تحدّث كثيرًا في مجال العقيدة وتميز فيه، وكان كلامه في التوكل على الله والتسليم للقضاء والقدر متميزًا. وكان ينتظر منه الشعب السوري موقفًا متقدمًا على مستوى الثورة. طبعًا ذلك لم يحدث أبدًا، إذ التزم النابلسي الصمت المطبق، مفاجئًا كل من سمع أو قرأ له. فيما كان موقف الشيخ كريم راجح والشيخين أسامة وسارية الرفاعي متضامنًا مع الثورة وإن لم يكن منذ بدايتها، وإن كانت مواقفهما تعتبر متقدمة فيما لو تمت مقارنتها بسواهم ممن يُحسبون  على المؤسسة الدينية.. إلا أن الناس كانوا يتوقعون منهم موقفًا أكثر تقدمًا وأكثر وضوحًا.

على المستوى الفني، كان دريد لحام من أشهر رموز الفن السوري، بالذات في المجال السياسي والوطني. فكل مواطن سوري –وعربي- شاهد أو على الأقل سمع بمسرحيات كاسك ياوطن ومسرحية غربة وضيعة تشرين وشقائق النعمان. كلها أعمال فنية تتغنّى بالوطن والحرية والكرامة، وتمقت من صادر الحريات واعتقل المعارضين السياسيين. هذه الأعمال هي من رفعت دريد لحام، وجعلت الناس تتذكر اسمه دائمًا. ولكن للأسف، أيضًا فاجأ هذه الشخص الناس، فلم يكن صامتًا وحسب، بل أخذ دور المدافع عن النظام والمشرّع لأعماله. كذلك توقع الناس ربما من شخصيات فنية سورية عملاقة مثّلت لعدة سنوات أدوارًا وطنية، توقع الناس منهم دورًا مشرّفًا في الثورة. أيضًا هذا الشيء لم يحدث، بل التزم غالبيتهم الصمت على أقل تقدير، منهم عباس النوري وجمال سليمان وفراس المصري وغيرهم. هؤلاء نستطيع أن نقول أنهم مثّلوا على الشعب كثيرًا أدوارًا بطولية كنّا بأمس الحاجة لها في ثورتنا السورية.

أمّا عن الرموز الاجتماعية، فإذا تحدثنا عن مدينة كمدينة داريا مثلًا، فنكاد لا نجد أحدًا من الوجهاء القدامى موجودًا اليوم في الساحة، كلهم تراجع للوراء وجلس في بيته أو راح يمارس عمله الخاص، أمّا العمل المتعلق بالثورة فلا تجد أحدًا في طريقك، إلاّ من رحم ربك. فلماذا تراجع هؤلاء؟ أليسوا وجهاءً حقيقيون؟ لماذا اكتسبوا هذه الصفة إذًا؟ كانوا دائمًا في الصف الأول في المساجد والحفلات والأعراس والجنازات، وكانوا مبادرين لعمل الخير وتلبية مطالب المجتمع. فأين الخلل؟!

        الشجاعة أثر جماعي

     قال لي أحد الأصدقاء مرةً، وكانت حينها مظاهرات حمص تشكل أيقونة الشجاعة والنضال وتأخذ بألباب الناس. قال لي: هل تظن أن شباب حمص أشجع من شباب دمشق؟ لي أصدقاء حماصنة كثر وحالهم مثل حال أصدقائي من دمشق، ولكن عندما يكونون في حمص يكونون شجعان.

هذا الكلام صحيح تمامًا، فالشجاعة تزداد حسب حالة المجتمع. انظر إلى إنسان جريء مقدام في مجتمع جبان، تجد مواقفه غير مواقفه التي يمكن أن يأخذها في مجتمع مكون من أناس جريئين يمتلكون مقومات الشجاعة. فعندما يتضامن الوجهاء والمشايخ والرموز في مدينة معينة مع الشباب، عندها ترى أن ثورتهم مختلفة تمامًا عن مدينة تراجع وجهاؤها ومشايخها وكل رموزها السابقون للخلف. هذا هو حال حمص التي تبنت بكل شرائحها الثورة السورية، هي ومدينة إدلب على وجه الخصوص. وتلك أيضًا حال مدن كدمشق وحلب، تخلى رموزها عن الشباب وثورتهم، فلزم الأمر شهورًا طويلة لتدخل هذه الأجزاء والمدن الكبيرة إلى جسم الثورة.

الشجاعة عمومًا لا تأتي من فراغ، تزيد وتنقص حسب طبيعة المجتمع. مع أننا نشاهد حالات لنشطاء كانت شجاعتهم مثار إعجاب دومًا، مع كل الجبن والتخاذل الذي أحاط بهم. ولكن على مستوى الثورة، فإن التضامن والتكاتف كان دائمًا مصدرًا للشجاعة، وكان مصدرًا لأولئك المتضامنين ليكتبوا تضحياتهم على صفحة التاريخ.

برأيي، لو وجَد الشيخين أسامة وسارية الرفاعي والشيخ كريّم راجح وغيرهم القليل، لو وجدوا تضامنًا أكبر مع مواقفهم من المشايخ الآخرين والسياسيين والوجهاء في مدينة دمشق، لكانت تلك المواقف أكثر جرأة وجدية ووضوح، ولكن شدة القمع التي يمارسها


النظام، مع التخاذل الموجود يجعل كل إنسان يحسب ألف حساب قبل أي تصرف.


     للأسف فغالب رموزنا كانوا رموزًا من ورق، صنعتهم عوامل خاطئة وتدخلت في رفعهم ظروف غير صحيحة. فمشايخنا أخذوا موقعهم من منبرٍ وُجدوا عليه لسنين طويلة ليس برغبةٍ من الناس بقدر ما كانوا مشايخ مناسبين لخدمة الوضع القائم ولإسباغ الشرعية دومًا على رئيس الدولة الفاقد لكل شرعية. فكانوا رموزًا دينيين سقطوا عند أول امتحان حقيقي من أعين الناس. فلو شئنا الحديث عن الشيخ راتب النابلسي، لقلنا أن النظام استطاع احتواءه تمامًا، والاستفادة من قدراته الفكرية والكلامية في خدمة المؤسسة الدينية القائمة، فكل الذي كنا نسمعه منه، أصبح بالنسبة إلينا نوعًا من تطريز الكلام وصف الحروف ليس أكثر. فمالذي يمنع إنسان تحدث بكل تلك المبادئ التي تربط بين الإنسان والله والتي لا تجعل واسطة بينهما، مالذي يجعله يأخذ هذه الموقف المتخاذل الذي يُشعرك أن هذا الرمز الافتراضي يخاف من أي عنصر أمن أو مخابرات أكثر من خوفه من الله. كان يقول دومًا:

«ليست البطولة أن تنتصر للحق وهو قوي ولكن البطولة أن تنتصر له وهو ضعيف».

هذا ما حدث تمامًا مع رموزنا الاجتماعيين. فليس لأغلب هؤلاء تاريخ نضالي أو خيري يمكن لنا الحديث عنه، بل أخذوا موقعهم ذلك إما بعصبية عائلية أو لأنهم مقبولين إجتماعيًا أو لأن وضعهم المادي أفضل من غيرهم. بل كانوا في كثير من الأحيان مصدّرين لعادات وتقاليد تناسبهم ولا تناسب أغلب الناس الفقراء أو العاديين. وعندما بدأت الثورة لم نعد نرى منهم أحدًا، ولسان حالهم يقول: عندما يخرج ألف متظاهر أو ألفين سوف نشارك في الثورة، وعندما خرج عشرات الآلاف لم نرى منهم إلاّ القليل، بحجة أن الله يبارك في الشباب، وعندما اعتقل الشباب، أصبحت الحجة أن النظام لا يرحم ولا يتردد في القتل علانية.

أما في المجال الثقافي، فعندما لمع نجم دريد لحام الفنان السوري الكبير، استطاع حافظ الأسد ومؤسساته الأمنية، أن تُسخِّر هذه القدرات الفنية في أعمال مسرحية وتلفزيونية كان لها دور المخدر للناس. تابع الناس غوّار الطوشة بشغف، وضحكوا على مآسيهم، كما فعلوا تمامًا عندما تابعوا حلقات مرايا للفنان الكبير ياسر العظمة، ولكن الأول كان داعمًا للنظام فيما فضّل الثاني التزام الصمت مع تعاطفه مع الثورة.

بعد كل هذا، هل يعقل أن تكون معظم رموزنا من ورق؟ هل يُعقل أن يبلغ الدور السلبي للناس في اختيار رموزهم هذا الحد؟ هل ندرك ماذا صنع نظام الأسد خلال عقودٍ في مجتمعاتنا وأي ضررٍ ألحقه بنا؟ وهل نحن في طريقنا لصناعة رموز حقيقة، دينية واجتماعية وسياسية وفنية، تكون على قدر المسؤولية وقت الأزمات. نسأل الله ذلك.

مقالات متعلقة