ما بعد الغوطة وعفرين

tag icon ع ع ع

عمر قدور – المدن

تكرر مراراً في الآونة الأخيرة الحديث عن صفقة مفادها “الغوطة مقابل عفرين”، وقبلها تكرر الحديث عن صفقة “إدلب مقابل عفرين”. ولئن كانت الثانية منهما تملك مقومات أقوى، لجهة السيطرة التركية على خطوط إمداد الفصائل في إدلب، وما يعنيه ذلك من امتلاك السيطرة على قرار تلك الفصائل، فإن صفقة مماثلة بين الغوطة وعفرين تبدو مستبعدة بالمعنى المباشر، لأن الفصائل المتواجدة في الغوطة لا تحظى بدعم أو رعاية تركيين، ولا تستطيع أنقرة المقايضة بين المنطقتين، ولا تملك أية ورقة قوة تعرقل من خلالها الهجوم على الغوطة.

مع ذلك قد يصح الحديث عن مقايضة أكبر من ذلك، إذا كانت تعني الصمت الدولي على اقتحام الغوطة وعفرين في التوقيت ذاته. هذا الصمت يمكن تأويله خارج المفهوم المتداول للمقايضة، إذ يعني صمت القوى الدولية الفاعلة على اقتحام المناطق غير الخاضعة لنفوذها المباشر، فلا الغوطة تتبع لنفوذ دولي أو حتى إقليمي بعد تخلي الرياض عن رعايتها أهم فصيل مسيطر هناك، ولا عفرين ذات أهمية خاصة للنفوذ الروسي الذي بدأ يضعف تأثيره على الميليشيات الكردية مقارنة بالنفوذ الأمريكي، وبالطبع لا يُستبعد أن يكون هناك تواطؤ دولي وإقليمي على تحجيم الميليشيات الكردية بعد احتواء تام لنظيراتها العربية.

وبينما يسود الصمت في المقلب الروسي والإيراني حول الخطوة اللاحقة، وكذلك الصمت الأمريكي، وحده أردوغان يتوعد بالمزيد بعد عفرين. القوات التركية بدأت فعلياً دخول إقليم كردستان العراق والاشتباك مع حزب العمال الذي يتحصن في جبال قنديل، وهو يتوعد الفرع السوري للحزب بقتاله في عين العرب ومنبج وصولاً إلى القامشلي. وإذا أخذنا هذه الطموحات على محمل الجد فهي تعني واحداً من أمرين؛ إما وجود اتفاق تركي/أمريكي للتخلص من حزب العمال نهائياً، أو استعداد أنقرة لمواجهة مع الحليف الأمريكي السابق مدعومةً بتحالفها المستجد مع موسكو، وإلا وجدت نفسها في موقع لا تُحسد عليه ولا يُستبعد فيه اتفاق واشنطن وموسكو على تحجيم التطلعات التركية.

مع صمت موسكو وطهران قصفت قوات الأسد درعا المشمولة باتفاق خفض التصعيد وفق تفاهم أمريكي/روسي، ومن الواضح أن استهداف درعا كان نوعاً من جسّ النبض لا أكثر في غمرة انشغال قوات الأسد بالهجوم على الغوطة. إلا أن ذلك القصف يشي بنوايا التصعيد لاحقاً، في حال لم تكن هناك نية أمريكية للمواجهة، وتُركت درعا لمصير مشابه لمصير عفرين. أهمية جبهة حوران لتنظيم الأسد أنها بعد الغوطة هي الجبهة الأقرب إلى دمشق، ومنها قد يأتي الخطر اللاحق في حال حدوث تغيرات دراماتيكية في السياسة الأمريكية، وهي أيضاً المنطقة التي تلزم الأسد وطهران للمناورة مع تل أبيب والدخول معها في المساومات الخفية المعتادة.

تحذير موسكو من ضربات أمريكية تُوجَّه لقوات الأسد، وربما لقوات إيرانية حليفة، يُشتمّ منه احتمال وقوع مواجهة كبرى، لكن من المرجح حتى الآن ألا تقوم إدارة ترامب بأكثر من توجيه ضربات استعراضية محدودة كما فعلت من قبل بضرب مطار الشعيرات. المحك الحقيقي في المواجهة سيبقى ثقله في الوجود الأمريكي في الشرق والشمال الشرقي، فهذا الوجود هو محط أنظار ثلاثي آستانة، أي موسكو وطهران وأنقرة. وتتفق مصالح هذا الثلاثي على مقاومة الوجود الأمريكي هناك مع اختلاف الأسباب العلنية على الأقل، فموسكو تريد نصراً كاملاً لا تتقاسمه مع واشنطن، بينما تريد طهران بقاء الحدود البرية مفتوحة أمامها من طهران إلى الجنوب اللبناني، في حين تتذرع أنقرة بالخطر الكردي لتخفي شهيتها لاقتناص هذه الفرصة بغية توسيع مجالها الحيوي.

الانتهاء من الحرب على الغوطة وعلى عفرين قد يُدشّن نهاية الحروب الصغيرة في سوريا، باستثناء جيوب ضئيلة هنا وهناك متروكة أصلاً لمصيرها إزاء قوات الأسد، مثل ريف حمص الشمالي. نحن عملياً على مشارف الانتهاء من تقاسم مناطق النفوذ بعد طرد بعض اللاعبين الإقليميين خارج الحلبة، بخاصة اللاعبين العرب، وما يغيب عن هذا التقاسم هو الثبات، جراء وقوعه على خط سياسات وتحالفات متقلبة أو غير موثوقة. فأغلب التحالفات التي نسجها بوتين باحتلاله سوريا قائمة على الانكفاء الأمريكي ليس إلا، والأمريكي نفسه اليوم لم يعد موضع ثقة بسبب سياسة الانكفاء، وقبل ذلك وبعده بسبب عدم الثقة بتوازن هذه الإدارة أو حتى عدم الثقة بأن يكمل ترامب ولايته.

ليس هناك من وجود مستقر لأية قوة في سوريا، وإن كانت القواعد الروسية والقواعد الأمريكية هي الأكثر رسوخاً. فالوجود الروسي غير مستهدف حتى الآن من الغرب، وهذا من أهم مصادر قوته، أما الوجود الأمريكي فينطوي على قوته أو ضعفه ذاتياً لأنه حتى الآن لا ينضوي ضمن استراتيجية أمريكية ثابتة. النفوذان الإيراني والتركي ليسا خارج رضا القوتين الدوليتين أو واحدة منهما، واستهدافهما أو استهداف واحد منهما لن يكون صعباً، لكنه لن يكون نزهة أيضاً بعد المكاسب التي حصلا عليها طوال سبع سنوات. هذه اللوحة تقرّبنا أكثر فأكثر من احتمالات الحرب على مختلف الجبهات، إذا لم تقرّبنا من احتمالات التقسيم أو من ستاتيكو مؤقت في انتظار المواجهة القادمة.

لقد كانت الرؤية التي تروّجها القوى الدولية تنص على استحالة التغيير في سوريا خوفاً من الفوضى، وكانت الذريعة وجود فوضى هائلة من السلاح بما في ذلك ما تملكه تنظيمات جهادية أو متشددة. الآن يمكن القول بانتهاء زمن تلك الفوضى، الناجمة في قسم منها عن تكاثر اللاعبين الخارجيين، إلا أن انتهاء زمنها لا يعني اقتراباً من الحل في سوريا، فالقوى الدولية والإقليمية التي باشرت ضبط القوى المسلحة السورية لم تفعل ذلك كرمى للحل، وإنما بالطبع من أجل مصالحها. هذه القوى أنجزت حتى الآن المهمة الأسهل، وهي إقصاء السوريين عن دائرة تقرير مصيرهم، بل تعدّتها إلى الانتهاء من استخدامهم كواجهة للصراعات الدولية والإقليمية. بقي أن تبرهن تلك القوى على تعقّلها المزعوم، لكننا لا نعثر في حاضرها أو ماضيها على ما يبرر حسن الظن.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة