لا وطن من دون مواطنين

tag icon ع ع ع

طارق جابر

بعد اشتعال الحراك الثوري السلمي بمدينة داريا، كرد فعل مباشر على انتهاكات النظام الأمنية بحق الأطفال ومن بعدها بحق المواطنيين في محافظة درعا، كانت هناك محاولات لاستيعاب الحراك من خلال إعادة توجيهه إلى مطالب خدمية مناطقية وذلك من خلال عقد لقاءات عامة في المركز الثقافي في المدينة بين الناشطين والمسؤولين المحليين، وأحيانًا لقاءات مع شخصيات رسمية (أمنيين وبعثيين وأعضاء مجلس الشعب) من خارج المدينة كالاجتماع مع عضو مجلس الشعب محمد برمو من مدينة التل أواخر شتاء 2011، والذي جاء بعد حملة أمنية وإغلاق محاور ومداخل المدينة بالدبابات.

ندوات المركز الثقافي قبل عام 2011 عادة كانت لتعويم توجهات يدعمها النظام، أو لاستثمار القضية الفلسطينية (المقاومة) في خدمة المسار التفاوضي وابتزاز المجتمع الدولي، فكثير من أعضاء حماس تكلموا من على منبر المركز، وأحيانًا تعقد أمسيات شعرية وأخرى لنقاش محاور فكرية ذات طابع خلافي، إضافة إلى الاحتفال السنوي بالمتفوقين والمتفوقات من مدينة داريا، والتي لا تخلو فقراتها من تبجيل دور القيادة الحكيمة بهذا الإنجاز.

أما لقاءات المركز الثقافي في مدينة داريا التي حصلت في بدايات الحراك السلمي فكانت من ضمن رد الفعل الناعم من قبل النظام لاستيعاب وامتصاص الصدمة التي تمثلت بحراك سلمي احتجاجي “وطني” على ما ارتكبه في درعا، وطبعًا في البداية كان هناك العديد من الناشطين الشباب يعتقد أن هذه اللقاءات ستؤسس لحل ما نظرًا إلى أن على رأس النظام طبيب قد خبر الديمقراطية وقيمة الإنسان في الدول الحرة، إذ عاش جزءًا من حياته في بريطانيا أثناء تخصصه الطبي، ولم يكن منخرطًا أو معدًا لوراثة الحكم كأخيه الأكبر باسل الذي حيده القدر.

ظهر منذ بداية الاجتماع أسلوب المفوض (برمو) التمييعي، إذ بدأ كلامه بأن عائلة “شهود عيان” كبيرة جدًا في داريا، يلمح إلى التقارير الإعلامية حول تجاوزات النظام والتي كانت توقع باسم شاهد عيان، إضافة إلى النغمة المكرورة باستهداف سوريا وصمودها مع إقرار أن سوريا ليست بخير (رأس النظام صرح بأن تأخر الإصلاح الذي وعد به في بداية حكمه عائد لعدم وجود كوادر قادرة على القيام بهذه المهام)، مع إغفال متعمد للأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الحال وحول غياب مفهوم الوطن والمواطنة وهيمنة الأجهزة الأمنية واستفحال الفساد في جميع مفاصل الدولة بشكل ممنهج وعلني أصاب القطاعات الحيوية كالقضاء والتعليم، بعد أن غمر سابقًا فيضانه القطاعات الإدارية بمافيها من بلديات ومجالس مدن، وطبعًا الجيش بقادته الطائفيين الذين استثمروا الخدمة العسكرية الإلزامية بواردات مليارية، إذ يدفع العسكري راتبًا شهريًا (في بعض الأحيان يفرض بناء على طبيعة عمله أو حرفته) ليبقى خارج الخدمة (يطلق عليه تفييش) حتى وصل الحال ببعض الشباب ألا يسجل شهاداته الثانوية أو الإعدادية مثلًا، لأن تفييش العسكري العادي أسهل وأقل كلفة منه لعناصر صف الضباط.

عودة إلى الاجتماع، قام معد اللقاء، مدير المركز، بوضع لائحة بالمطالب التي يظنها أو التي “وصلته” من الأهالي والتي تلخص مطالب مدينة داريا، وبنفس الوقت سجل لمن يرغب من الحضور بطرح مطالب يراها ذات أولوية، كانت لائحة المعد تضم طلبات كخفض أسعار المازوت وزيادة حصة المدينة من المياه المعالجة، وأيضًا إعادة العمل بضابطة البناء التي أوقفتها المخابرات الجوية، فلم يعد يسمح ببناء أكثر من طابقين (بينما نظام الضابطة يسمح بأربع طوابق) ضمن المناطق المحيطة بمطار المزة العسكري، وببعض الأحيان تم إغلاق النوافذ في الطوابق الدنيا، بحجة تأمين المطار، هذا الإجراء التعسفي كان علامة فارقة تظهر بوضوح كيف أن النظام يصنف السوريين كأتباع مأمونين الجانب وأتباع يجب قهرهم، فرغم أن السومرية تقع على جبال المعضمية (أراض مغتصبة تعود ملكيتها لأهالي معضمية الشام) وكذلك الأبراج المشيدة ببداية أوتوستراد المزة كاشفة بشكل كامل للمطار، إلا أن أي من التدبيرات ,المشابهة للتي فرضت على مبان مدينة داريا لتأمين المطار لم تتخذ على هذا الجانب!

كان تركيز المداخلين على ضرورة المكاشفة والمصارحة ومعالجة الأسباب الحقيقية وليس النتائج فقط، فمثلًا المشاركة الفعلية للمواطن باختيار ممثليه في السلطة التشريعية وسيادة القانون على كل مفاصل الدولة، بما فيها الأمنية، وحرية الصحافة سيؤدي إلى تجفيف منابع الفساد.

في لقاء آخر عقد في 27 نيسان 2011 (جاء بعد مظاهرة الجمعة العظيمة التي ارتقى بها ثلاثة شهداء هم أوائل شهداء المدينة ) توجت كلمة يحيى شربجي هذا التوجه، إذ تميزت بالحس الوطني الناجم عن وعي سياسي عميق بالحقوق الأساسية، المشاركة الشعبية و روح القانون. وقعت هذه الكلمة بنفوس كل من سمعها لأنها لم تكن كلمات محفوظة بل هي ترجمة لتجربة حياتية نضالية غنية لإنسان سجن مرارًا على يد النظام، بسبب تبنيه لهذه المبادئ فكرًا وممارسة.

لم ينادِ يحيى ورفاقه بدولة المذهب أو الفئة، بل نادوا بسوريا وطنًا لكل السوريين وبدولة قانون تضمن حرية وكرامة الإنسان، وهذه الدعوى لم تكن شكلية بل انسجمت مع سلوكه وهذا ما لا يفهمه النظام، فهذه المفاهيم تقع خارج قاموس حكمه.

لم تكن استعراضات مجلس الشعب وقرارات النائب خدام ووزير الدفاع طلاس إلا القفاز الناعم الذي يغلف اليد الحديدية لأجهزة الأمن والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري التي فرضت الأسد رئيسًا بصلاحيات مطلقة، ولم يكن للأسد، الذي وصل إلى الحكم بالتغلب والقهر، أن يقبل من الشعب السوري إلا التبعية غير المشروطة!

لقاءات المركز الثقافي (كمشهد من مشاهد الثورة السورية) في مدينة الشهداء داريا كانت صدامًا بين رؤيتين: رؤية يحيى ورفاقه التي تتلخص بـ”لا وطن من دون مواطنين”، ورؤية النظام الأسدي الفاشي التي تتلخص بـ”أنا الدولة والدولة أنا”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة