tag icon ع ع ع

أحمد جمال | مراد عبد الجليل | ضياء عودة

لم يتحرك الشعب السوري عام 2011بدافع الجوع، ولم تكن احتجاجاته “ثورة خبز” بل كانت، كما عبّرت عنها المظاهرات السلمية، ثورة “الحرية والكرامة”.

لكن ثمن الحرية كان أغلى مما توقع السوريون، إذ عوقبوا بأمنهم ولقمة أبنائهم، حتى باتت السلع الأساسية، وعلى رأسها الخبز، في مهب أزمات اقتصادية وسياسات حكومية، كان المواطن العادي ضحيتها.

في مناطق سيطرة “النظام” و”المعارضة” و”القوات الكردية”، شكل الحصول على الخبز على مدى الأعوام الماضية معضلة ملحّة بالنسبة للسكان، مع تراجع زراعة واستيراد القمح أو صعوبة إيصاله إلى بعض المناطق.

فكان مخزون أفران منطقة ما من القمح، مؤشرًا على موعد أزمة قريبة أو بعيدة، تعد الأهالي بجوع لم يعتادوا أن يسكته غير الخبز.

المواطنون السوريون عانوا خلال السنوات الماضية في تأمين رغيفهم، إذ شهدت سنوات 2012 و2103 أزمة في تأمين الخبز دفعت إلى الوقوف طوابير على أبواب الأفران لساعات طويلة من أجل الحصول على ربطتي خبز، كانت الدولة تسمح بهما فقط لكل شخص.

لكن الازدحام انخفض وبدأت معاناة جديدة تظهر في جودة الخبز ورداءة صنعه، بعد أن اعتادوا على جودة عالية في سنوات ما قبل الحرب، خاصة بعدما تحولت سوريا من مكتفية ذاتيًا إلى مستورد لمادة القمح ومصادر تأمينها.

القمح.. سوريا تخسر اكتفاءها

أسهمت الحرب والمتغيرات المناخية في تحويل سوريا من الاكتفاء الذاتي بمادة القمح إلى مستورد لها، إذ كان مصدر الطحين الأول هو ما تنتجه الأراضي الزراعية، إذ بلغت كمية المحصول من القمح خلال 2011 نحو 3.4 مليون طن، في حين كانت الحاجة المحلية 2.7 مليون طن، بحسب إحصائيات رسمية نشرت في 2010.

لكن بعد عام 2011 واندلاع المعارك العسكرية في معظم الأراضي، انخفضت كميات إنتاج القمح إلى 1.7 مليون طن في 2016، بحسب الإحصائيات الرسمية، في حين قدرت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة المحصول بـ 1.3 مليون طن فقط.

ورغم ارتفاع كميات الإنتاج العام الماضي إلى 2.17 مليون، أشارت توقعات حكومية إلى انخفاض الكميات التي تشتريها الحكومة من المزارعين إلى أقل من مليون طن بسبب نقص هطول الأمطار في الموسم الحالي، وفق ما نقلته وكالة “رويترز”، في أيار الماضي، عن مصدر حكومي.

خط خبز جديد في مخبز ضاحية الوليد بمدينة حمص – 2014 (سانا)

 

صفقات روسية ضخمة

تراجع الإنتاج دفع حكومة النظام للبحث عن بدائل من أجل توفير القمح، فتعاقدت مع روسيا، التي تتصدر قائمة مصدّري القمح العالميين، لشراء آلاف الأطنان، وأعلنت خلال العامين الماضيين عن عدة صفقات كان آخرها في أيلول الماضي، عندما اشترت 200 ألف طن قمح من روسيا في مناقصة عالمية.

وكان وزير التجارة الداخلية، عبد الله الغربي، قال لـ “رويترز” في 25 من حزيران الماضي، إن سوريا تخطط لاستيراد 1.5 مليون طن، معظمها من القمح الروسي، هذا العام.

تحدد وزارة التموين سعر الربطة الواحدة للخبر بـ 50 ليرة للمشتري، ولكن مندوبي توزيع الخبر المعتمدين أو السماسرة يشترون الخبز من الفرن ومن ثم يبيعونه في نوافذ ومحلات القطاع الخاص بأسعار تصل إلى 200 ليرة.

في حين تحدث وزير النقل، علي حمود، عن مقترح تم تقديمه لإنشاء مركز توزيع للقمح الروسي في سوريا، اعتمادًا على مخزون القمح الكبير لروسيا المعد للتصدير.

وقال حمود في تصريحات نقلتها صحيفة “الوطن”، المقربة من النظام، في آذار الماضي، إن روسيا في ظل احتياطيات القمح الكبيرة تحتاج إلى سوق تصريف، لذلك تم اقتراح أن تكون سوريا مركزًا لتوزيع القمح الروسي في منطقة الشرق الأوسط.

وبحسب ما قاله المحلل الاقتصادي، يونس الكريم، لعنب بلدي، فإن سوريا كانت تستورد القمح من عدة أماكن من أوروبا وشرق آسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن بسبب ارتفاع الأسعار وعدم وجود موارد مالية في خزينة الدولة، تم التوجه إلى استيراده من روسيا.

الشمال السوري.. دعم ضعيف وبدائل محلية

في مناطق المعارضة في الشمال السوري، يعمد أصحاب الأفران إلى شراء مادة الطحين من السوق المحلية عن طريق تجار، لكن بأسعار مرتفعة، إذ يصل سعر الكيلو الواحد إلى 150 ليرة سورية (3.5 دولار)، ما يؤثر على ارتفاع سعر ربطة الخبز المقدر وسطيًا بـ 200 ليرة.

تأمين المادة أصبح يعتمد على مصدرين في المنطقة، بحسب ما أكده مسؤول الإعلام في لجنة إعادة الاستقرار في ريف حلب، مناح ديب، الذي قال في حديث سابق لعنب بلدي إن مادة الطحين يتم تأمينها عبر المؤسسة العامة للحبوب التابعة للحكومة السورية المؤقتة، إضافة إلى المنظمتين التركيتين” آفاد” و”“iHH.

محمود شقيفي، صاحب أفران “الشمس” في مدينة إدلب، أشار إلى عدم استقرار سعر الطحين في المنطقة، وقال لعنب بلدي إن سعر الطن ارتفع في الأسابيع الأخيرة بنحو 27 ألف ليرة (60 دولارًا).

تتراوح أسعار الكيلو الواحد لمادة الخبز في عموم مناطق المعارضة في الشمال السوري، ما بين 150 و250 ليرة، بينما تختلف الأفران في تحديد الوزن للربطة الواحدة، والتي تتراوح بين 850 و950 غرامًا.

شقيفي قال إن تركيا منعت بموجب قرار، صدر في 4 من تشرين الأول، استيراد الطحين إلى الشمال السوري إلا عن طريقها، موضحًا أن القمح يتم شراؤه من أوكرانيا ومن ثم يتم طحنه في ثلاث مطاحن بمدينة سامسون التركية، التي تبعد نحو 1500 كم عن معبر باب الهوى، ثم ينقل إلى الداخل السوري.

وأشار إلى أن الدعم مقطوع الآن عن مدينة إدلب، بعد توقف عدد من المنظمات مثل “غول” عن دعم الأفران، إلى جانب أفران تتبع لـ “حكومة الإنقاذ” التي تتولى دعمها بشكل كامل، في حين تستعمل بعض الأفران ما يسمى “الطحين البلدي” وهو ما يتم إنتاجه وطحنه محليًا، وهو يعطي الخبز طعمًا ولونًا جيدًا، لكنه لا يحافظ على جودته، بحسب شقيفي.

أما بالنسبة لمادة المازوت، اللازمة لتشغيل الأفران، فهي متوفرة بكميات وأسعار مقبولة، ويقول شقيفي إن أسواق المعارة ومعصران في ريف إدلب توفر بشكل جيد مادة المازوت، ولا تشكل عائقًا في الوفرة والسعر مقارنة بالطحين.

أحمد الضعيف، صاحب مخبز في مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب، قال لعنب بلدي إن سعر الليتر الواحد من المازوت يتراوح بين 180 و200 ليرة في مناطق الشمال، وأضاف، “نشتري المازوت من الأسواق بشكل حر، ولا يوجد دعم من المنظمات أو الحكومات”.

ويتم توريد المازوت من شمال شرقي سوريا إلى شمالي حلب وعفرين عبر تجار، لتصل المادة إلى أفران محافظة إدلب وريف حلب، لكن مع اختلاف الأسعار بحسب أجور النقل إلى كل منطقة.

مواطنون يستفيدون من مخبز آلي في بزاعة بريف حلب – تموز 2017 (عنب بلدي)

الجزيرة السورية.. دعم من ثلاث جهات

يقدر سعر ثلاث ربطات من الخبز في الأفران الآلية والعائدة للإدارة الذاتية أو فرن البعث التابع للنظام في الحسكة، بسعر 200 ليرة.

بينما يصل السعر في الأفران الأخرى نصف الآلية، إلى 200 ليرة للربطة الواحدة، وفي معظم تلك الأفران يمتاز الخبز بجودة عالية.

لكن الأفران المدعومة من الأمم المتحدة تقدم الربطة بسعر 50 ليرة.

تحتوي مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” شرقي سوريا، على عشرات الأفران، الآلية ونصف الآلية، وتعود ملكية الأفران الآلية ودعمها لـ “الإدارة”، مقابل فرن آلي واحد في محافظة الحسكة يتبع لحكومة النظام السوري وتدعمه بالطحين والمحروقات.

وفي ظل تعذر التواصل الرسمي مع “الإدارة الذاتية”، قالت مصادر أهلية لعنب بلدي إن الأفران نصف الآلية تعود ملكيتها لتجار المنطقة، وتدعمها “الإدارة الذاتية” بالطحين والمحروقات، وهي الأكثر رغبة لدى السكان لارتفاع جودة إنتاجها رغم غلاء سعرها.

وتعد المطاحن الموجودة في المنطقة (كمطحنة الجزيرة وغيرها)، مصدر التوريد للأفران، إذ تشتري “الإدارة الذاتية” محاصيل القمح من المزارعين في مناطق سيطرتها بشكل مباشر، ليتم توزيع المادة على المطاحن والأفران.

من جهة أخرى، تسهم الأمم المتحدة بتقديم الطحين لأفران المنطقة الشرقية من محافظة الحسكة، وهي أفران نصف آلية وملكيتها خاصة، بما يمكن ذلك من إنتاج خبز عالي الجودة ورخيص الثمن، كمساعدة أممية للسكان في تلك المنطقة.

ووفقًا للمصادر فإن الطحين متوفر في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” بشكل جيد، لكن فارق مواصفات الأفران ومقادير الإنتاج، تختلف في جودة الخبز وسعره بشكل كبير وملحوظ.

استطلاع: الأفران العامة لا تزال المصدر الأول للخبز في سوريا

أظهر استطلاع للرأي أجرته جريدة عنب بلدي أن السوريين ما زالوا يعتمدون على الأفران العامة للحصول على الخبز.

وفي سؤال عبر صفحة عنب بلدي في “فيس بوك”، أجاب عنه نحو 650 مستخدمًا، عن مصادر حصولهم على الخبز، كان رأي 78% منهم لصالح الأفران العامة، بينما يلجأ 22% منهم إلى الأفران الخاصة.

ورغم إقرار المصوتين بتراجع جودة الخبز في الأفران العامة، إلا أن الأسعار في الأفران الخاصة تجبرهم على قبول الخيار الأول.

الطحين يحدد جودة الخبز

“جودة الخبز”، حديث يومي للكثير من السوريين في مناطق مختلفة، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى نوعية الطحين الذي تستخدمه الأفران.

في الشمال يمتاز الخبز بجودة عالية مقارنة بما كان عليه قبل عام 2011، بسبب استخدام مواد محسنة كالسكر والمحلب، وغيرها من المواد التي ترفع جودة الخبز وتحسن طعمه، لكنها تزيد الأعباء المالية على أصحاب الأفران.

أما في مناطق سيطرة النظام السوري، فتشتكي الأفران من رداءة أنواع الطحين المستورد، كالقمح الروسي، الذي يجب أن يخلط بأنواع جيدة تجعله بمستوى مناسب لإنتاج الخبز.

صاحب أحد الأفران في دمشق، طلب عدم ذكر عن اسمه لأسباب أمنية، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن رداءة الخبز تعود لسببين: الأول وجود السوس في الطحين المستورد، وغياب مواد التعقيم في صوامع القمح في سوريا.

أما السبب الثاني فيكمن في وجود مادة النخالة في الطحين، وعدم قدرة الأفران على نخله بشكل كامل بسبب المشقة الكبيرة في ذلك، بحسب صاحب الفرن، الذي أكد أنه لا سلطة للأفران في تحديد نوع الطحين أو المطاحن الموردة له، فهذا شأن تحدده مديرية التموين بحسب مخصصاتها، إلا في حالات التلاعب بمقادير الإنتاج وعمليات تهريب الطحين من بعض أصحاب الأفران.

وحول جودة الخبز في الأفران الخاصة، فإنها تلجأ إلى إضافة مواد لتحسين جودة الإنتاج، كالسكر والحليب والمحلب وغيرها، وهذه مواد ترفع سوية العجين قبل دخوله إلى الفرن، لكنها ترفع في سعر الخبز.

أما في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، فالأفران الآلية تعتبر سيئة الإنتاج من حيث الجودة، لخلط الطحين بمادة النخالة، لكن الأفران نصف الآلية تمتاز بجودة عالية في الإنتاج، لاستعمالها الطحين الأبيض.

الخبز خط أحمر

“الخبز خط أحمر ولا بد من دعمه”، مقولة ترددت كثيرًا على ألسنة المسؤولين السوريين خلال سنوات، بهدف تطمين المواطنين، وهو ما يعتبره بعض الاقتصاديين “شراء للسلم الاجتماعي”.

الدعم الحكومي لأي سلعة يعتبر من أهم أنواع الدعم والأكثر تأثيرًا على مستوى معيشة المواطنين، إذ تقدم الحكومة إمدادات مادية لتخفيض أسعار السلع، إما لصالح صناعة وإما لصالح المواطن، ومن أهم السلع المدعومة: القمح (الطحين) والسكر والحليب والكهرباء والمحروقات.

ويأتي دعم الخبز لأي حكومة في المقدمة كونه مادة أساسية للعيش، لكن في سوريا شهدت أسعار الخبز ارتفاعًا بعد عام 2011، إذ رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام، سعر ربطة الخبز من 15 إلى 25 ليرة في تموز من 2014، وفي كانون الثاني 2015 رفعت سعر الربطة من 25 إلى 35 ليرة، لترفع في تشرين الثاني 2015 سعر الربطة إلى 50 ليرة.

لكن رغم ذلك لا تخلو تصريحات مسؤولي الحكومة من الحديث عن الدعم وخاصة لمادة الخبز، إذ قال وزير المالية، مأمون حمدان، في تشرين الثاني 2017، إن الحكومة تدفع يوميًا مليار ليرة لدعم الخبز.

وبحسب موقع “الاقتصادي” المحلي، في نيسان الماضي، فإن قيمة العجز التمويني الناتج عن دعم الخبز يصل إلى 378 مليار ليرة سورية سنويًا، مشيرًا إلى أن الدولة تدعم المادة بنحو 150 ليرة إذ تتجاوز تكاليفها 200 ليرة في حين تباع بخمسين ليرة.

لكن الحديث عن رفع الدعم عن الخبز بدأ خلال الأشهر الماضية تزامنًا مع أنباء عن زيادة قريبة لرواتب الموظفين، الأمر الذي أثار قلق المواطنين برفع الدعم مقابل الزيادة.

وما أثار مخاوف المواطنين أكثر ما صرح به وزير المالية، مأمون حمدان، لصحيفة “الأيام” المحلية، في أيلول الماضي، بأن هناك قدرة لدى الدولة على رفع الرواتب بنسبة 200% لكن بشرط رفع الدعم الحكومي.

وأوضح الوزير، “الدولة قادرة على رفع الرواتب، ولكنّ هناك دعمًا اجتماعيًا يقدم ليس فقط للموظفين وإنما يدعم كل المواطنين، وهذا الدعم يكفي لزيادة الرواتب 200% وليس 100% على الأقل، والحكومة قادرة على ذلك إذا توقف الدعم الاجتماعي، ونقصد بالدعم الخبز والكهرباء والمشتقات النفطية فقط”.

سماسرة يضاعفون سعر الخبز

لا يقتصر مصطلح “السمسرة” على العقارات والسيارات والبضائع، بل أخذ جانبًا إضافيًا في مناطق سيطرة النظام السوري، وبدأ تطبيقه على مادة الخبز.

ويعتبر التزاحم على الأفران للحصول على الخبز السبب الرئيسي لظهور “السمسرة”، والذي ارتبط بشخصيات ذات سلطة محدودة، بينها عناصر في تشكيلات “الدفاع الوطني”، والذين اتجهوا إلى شراء الخبز من الأفران ليبيعوها للمواطنين بأسعار مضاعفة، متخذين من سهولة الحصول عليها وعدم الوقوف على “الطابور” عاملًا مساعدًا لرواجها.

توسعت الظاهرة لتشمل جميع المحافظات السورية التي يمسكها النظام السوري، ونشطت بشكل كبير مؤخرًا في مدينة دمشق وحلب واللاذقية، فقد تحولت إلى تجارة جديدة تدر أرباحًا طائلة على الشخصيات العاملة بها، والتي تغري صاحب الفرن بسعر أكثر من الذي يبيعه للمواطنين على النافذة، شرط الحصول على الكميات المطلوبة.

ويبلغ سعر الربطة في الفرن 50 ليرة، أما عن طريق الباعة والسماسرة فتباع بـ 100 ليرة وأحيانًا تصل إلى 150 ليرة، عدا عن بعض المناطق التي تصل فيها ربطة الخبز إلى 200 ليرة سورية، وتتركز في المناطق الريفية التي تكون فيها الرقابة أقل من المدن.

ويتركز عمل الأفران العامة في سوريا على البيع بشكل مباشر للمواطنين، إلى جانب المخصصات التي يمنحونها للمعتمدين، والذين بدورهم يبيعونها في محالهم ومراكزهم بسعر قد يرتفع من خمس إلى عشر ليرات عن التسعيرة النظامية.

يقول معتمد خبز من مدينة حمص لعنب بلدي (طلب عدم ذكر اسمه)، إن أصحاب الأفران في المدينة يلجؤون بشكل يومي إلى بيع الخبز لأشخاص غير مسجلين في دوائر التموين، بأسعار تزيد عن البيع المباشر على النافذة من 50 ليرة إلى 75 ليرة سورية، الأمر الذي يعطي أرباحًا لصاحب الفرن أيضًا.

ويضيف المعتمد أن بيع الخبز بشكل “حر” يطبق أيضًا على المعتمدين، أي بكميات خارج الكمية المحددة له، إلى جانب الحصول على كميات من الطحين، والتي يتم بيعها في المحال التجارية، بأسعار ترتفع أكثر في حال عجنها وخبزها وبيعها للمدنيين.

وعلى مدار العامين الماضيين يطالب المواطنون بالحد من انتشار هذه الظاهرة، واعتبر البعض منهم عبر مواقع التواصل الاجتماع أن الحل هو زيادة المراقبين وتفعيل الرقابة على الأسواق ومعاقبة الباعة.

وكرد فعل من الحكومة على ظاهرة السمسرة أعلنت وزارة التجارة وحماية المستهلك، العام الماضي، عن توفير أكشاك أمام أفران الخبز لمحاربة السماسرة والباعة.

وقال المدير العام للشركة العامة للمخابز، زياد هزاع، لصحيفة “الوطن” المحلية، “هذه الأكشاك ستكون بديلًا عن الباعة والسماسرة الذين يستغلون حالة الازدحام أمام المخابز وخاصة في أوقات الذروة على الطلب”.

وأكد هزاع أن سعر ربطة الخبز في الأكشاك سيكون بسعر نظامي (50 ليرة للربطة الواحدة)، مشيرًا إلى أن انتشارها سيكون في مناطق تشهد طلبًا على الخبز.

وفي وقت سابق تحدث الصحفي من مدينة حلب، وليد الجابر، عبر حسابه الشخصي في “فيس بوك” عن ظاهرة السمسرة، وقال إنها “تكبر وتتطور وتتمدد حتى أصبحت من الظواهر التي يجب وقف زحفها لما لها من تأثير مباشر على أكبر شريحة من شرائح المجتمع”.

وأضاف الجابر أنه ورغم جميع الإجراءات التي قامت بها حكومة النظام لتوفير الرغيف للمواطن من زيادة للدقيق وزيادة ساعات العمل وغيرها، ما زال هناك من يعرقل هذه الاجراءات ليجبر المواطن على الانسحاب من الدور الطويل واللجوء للسماسرة.

وبحسب الصحفي، يبيع السماسرة الخبز بسعر يحقق لهم أرباحًا تصل إلى 200%، إذ يبيع الفرن العام 14 رغيفًا بـ 100 ليرة، والسمسار يبيع نفس الكمية بـ 300 ليرة.

يختلف الوضع عن مناطق سيطرة المعارضة، والتي تنقسم فيها الأفران إلى المدعومة من المنظمات والمجالس المحلية وأخرى خاصة.

وأفاد مراسل عنب بلدي في إدلب أن نشاط ظاهرة السمسرة يتزامن مع توقف الأفران المدعومة، إذ يلجأ بعض التجار حينها لبيع الخبز الذي يحصلون عليه من الأفران الخاصة للأفران التابعة للمجالس، وذلك لسد حاجة المنطقة التي تغطيها في حال توقف الفرن أو تعطله.

وأوضح المراسل أن بعض الأفران التابعة للمجالس المحلية تضع كميات من الخبز الذي تنتجه في محلات البقالة، لكنها تشترك معها بربح محدود لا يزيد على عشر ليرات في أثناء بيعها للمواطنين.

هل يعد رفع الخبز مؤشرًا على التضخم؟

ارتفاع سعر الخبز من 15 ليرة في عام 2011 إلى 50 ليرة حاليًا يعتبره محللون اقتصاديون دلالة على التضخم الكبير الذي أصاب السوق السورية.

لكن المحلل الاقتصادي يونس الكريم اعتبر أن الخبز (القمح) لا يعد عنصرًا أساسيًا في حساب التضخم، لكنه يعد سلعة أساسية إلى جانب عدة سلع أخرى (كالمحروقات مثلًا) يحسب حجم التضخم بها فقط، ولا يؤخذ كمعيار لقياس التضخم في سوريا.

ويعد الخبز إحدى المواد التي  تسهم فيما يسمى “التضخم المعنوي” وهو فقدان المواطنين للجودة العالية من الخبز التي كانت سابقًا، إضافة إلى فقدان بعض السلع التي يدخل في إنتاجها القمح مثل الحلويات و”الخبز السمون” الذي أصبح من أمنيات المواطن، ما يجعله يعيش في حالة عوز معنوي كون عملته السورية لا تلبي رغباته.
الخبز الذي تنتجه الأفران الخاصة أسعاره غير ثابتة، وقد يصل في بعض الأحيان إلى 250 إلى 300 ليرة سورية.

أسعار الخبز في سوريا بحسب خريطة السيطرة العسكرية (livemap)

روسيا تزيح إيران من استثمار المطاحن

تزخر الثقافة الروسية بعشرات الأمثال التي تؤكد على ضرورة توفر الخبز في حياة أي مواطن، منها “الخبز هو الأب، والماء هو الأم”، “دون تغذية الحبوب.. الحصان يركب على السوط”، في إشارة إلى أهمية المادة الأساسية والاستراتيجية.

وقد عملت روسيا على السيطرة على مفاصل المادة الاستراتيجية في سوريا خلال السنوات الأخيرة، وكان ذلك من خلال بناء المطاحن وتحكمها بها، أو من خلال توريد مئات آلاف الأطنان من القمح لسوريا بعد صفقات مع النظام، الذي يضطر إلى استيراد المادة من موسكو كفاتورة على الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته موسكو والذي حال دون سقوطه.

من تركيا لإيران ثم روسيا

أحدثت الحكومة السورية في العام 1975 “الشركة العامة للمطاحن”، بغرض إدارة واستثمار المطاحن واستلام الحبوب والقيام بعمليات التصنيع والتوزيع والبيع، واستلام الطحين المستورد وتخزينه وإيصاله إلى المخابز بأفضل المواصفات.

وبقيت المطاحن تحت سلطة واستثمار الدولة السورية خلال حكم الرئيس السابق حافظ الأسد، لكن بعد وصول نجله بشار إلى السلطة أعطى الشركات التركية مسؤولية تجهيزها وإقامتها، لكن دون استثمارها أو أي حق فيها، وهذا كان نوعًا من “المحاباة” من قبل تركيا خاصة بعد تحسن العلاقات وتوقيع اتفاقيات اقتصادية بين البلدين خلال سنوات ما قبل الثورة، بحسب ما قاله المحلل الاقتصادي يونس الكريم.

لكن بعد اندلاع الثورة، امتنعت الشركات التركية عن إتمام خطتها التوسعية للمطاحن، ما دفع للاتجاه نحو إيران، فتم توقيع العقود في نهاية 2012 وبداية 2013 لإعادة استثمار المطاحن، لكن هذه المرة فرضت طهران حق الاستثمار في المطاحن.

وفي تصريح لمدير عام الشركة السورية للمطاحن، أبو زيد كاتبة، لصحيفة “الوطن” المحلية في 2013، فإن الحكومة وقعت عقدًا مع إيران لتجهيز خمس مطاحن كاملة في عدة مناطق مع الأبنية بقيمة 62 مليون يورو.

لكن مع التوغل الإيراني في المطاحن السورية، بدأت روسيا مسابقتها بهدوء، إذ وقعت مع الحكومة اتفاقية في 2013 لبناء مطحنة تلكلخ بطاقة 600 طن يوميًا، بقيمة 16.5 مليون يورو، لكن عقب ذلك بدأت تكشف عن أطماعها بقطاع المطاحن، إذ أعلنت شركة “سوفوكريم” الروسية في أيلول 2014، عن استعدادها لإصلاح المطاحن المتضررة كافة والصوامع بأسعار رمزية، بحسب صحيفة “الوطن”، التي نقلت عن الوكيل العام للشركة الروسية، نضال محمد أحمد، بأن “ذلك يعتبر بادرة حسن نية من هذه الشركة إلى الدولة السورية”.

الكريم أكد أنه بعد التدخل الروسي في أيلول 2015، سحبت عقود بناء المطاحن من إيران ومنحت للروس باستثناء عدة مطاحن ذات إنتاجية ضعيفة في مناطق السويداء ودرعا، لعدم وجود الروس هناك ونشاط الميليشيات الإيرانية، لكن بعد تدخل روسيا في جنوبي سوريا والسيطرة على المنطقة، أصبح حق الاستثمار من نصيب روسيا.

كما أعلنت شركة “سوفوكريم” في شباط 2017 عن بنائها أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص السورية، بكلفة 70 مليون يورو، وأن عملية الإنشاء ستكون بالتعاون بين المهندسين الروس والسوريين، وستغطي الحكومة السورية تكاليف البناء.

السيطرة على الدولة السورية من خلال القمح

المتتبع للسياسة الروسية خلال السنوات الماضية يرى أنها تحاول الاستحواذ والسيطرة على عدة قطاعات اقتصادية سيادية في كل منطقة تدخل إليها (القمح والنقل وغيرها) ما يجعلها تتحكم في المنطقة، بحسب الكريم الذي حدد ثلاثة أهداف تسعى روسيا إلى تحقيقها من خلال السيطرة على المطاحن.

الهدف الأول يكمن في خلق أيديولوجيا اقتصادية تتحكم بالمناطق التي سيطرت عليها، وجعلها تحت سيطرتها ومحاربة أي أيديولوجيا أخرى سواء وطنية (سورية) أو دينية تابعة لإيران، وبالتالي تسعى موسكو إلى السيطرة على لقمة العيش في المنطقة لإخضاعها.

أما الهدف الثاني فيكمن في محاولة روسيا جعل سوريا بوابة لها لصناعة وتجارة الحبوب في الشرق الأوسط ومنافسة الحبوب الأمريكية، خاصة وأن موقع سوريا استراتيجي، وأن تكلفة الحبوب يكون في النقل والطحن، إضافة إلى أن القمح السوري ذات جودة عالية ومناسبة للغذاء والمنتجات الشرق أوسطية، وبالتالي تحاول روسيا السيطرة على زراعة الحبوب التي تستطيع من خلالها اختراق هذه الأسواق، بحسب الكريم.

أما الهدف الثالث فيكمن في محاولة السيطرة على الدولة السورية من خلال السيطرة على القمح والمطاحن، إذ إن الحبوب أحد المقومات الأساسية لإخضاع أي دولة، والسيطرة الروسية على المطاحن تعني السيطرة على لقمة العيش والسيطرة على مورد مالي مهم للدولة السورية، الأمر الذي يجعل الدولة مستقبلًا بحالة عجز غذائي ومالي، وبحاجة لروسيا والولاء لها.

ازدحام على أحد الأفران في مدينة حلب – 17 آب 2017 (عنب بلدي)

English version of the article

مقالات متعلقة