tag icon ع ع ع

نور عبد النور | ضياء عودة | محمد حمص

تدخلت وسائل الإعلام خلال الثورة السورية لنقل صورة ما يجري على الأرض، وأسهمت في نقل القضية السورية من المحلية إلى الرأي العام العالمي، لكنها أدت في المقابل أدورًا سلبية أطالت أمد الحرب وأججت صراعات على المستويات الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والسياسية حين تحولت إلى منابر تمرر عبرها الأخبار الكاذبة.

تسلحت أطراف الصراع بالإشاعات، وفتحت مجالًا للأخبار الكاذبة، لتأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمام السوريين، وتشغلهم بجدالاتها السلبية.

النظام السوري برع بتطويع الإشاعة لخدمة سلطته، ومنح الضوء الأخضر لإعلاميين لم يكن أغلبهم معروفين بالنسبة للشارع قبل الثورة، قادوا عمليات نشر الإشاعة والإشاعة المضادة وأداروا جدالات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

فصائل المعارضة أيضًا استخدمت أسلوب البيانات الكاذبة لتوصيل بعض الرسائل العسكرية في النزاعات الفصائلية، ولتضليل رأي الحاضنة الشعبية في المواقف الجدلية.

إضافة إلى ذلك، أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للمواطنين ذوي الاتجاهات السياسية المختلفة منصات استخدموها لتأويل الأخبار، وبث الإشاعات التي تخدم مصالحهم ورؤيتهم.

يرصد هذا الملف أبرز الإشاعات التي أثرت في الشارع السوري خلال الأعوام الماضية، ويسلط الضوء على دور وسائل الإعلام في دورة حياة الإشاعة، من الانتشار حتى إثباتها أو موتها.

زيادة الرواتب.. نار توقدها جهات ثلاث

انشغل السوريون خلال شهر أيلول الفائت بأخبار متناقضة حول زيادة الرواتب في سوريا، أطلقت “مصادر حكومية” شرارتها، وزادت التصريحات الرسمية طينها بلّة.

جريدة “الوطن” المحلية، المقربة من النظام السوري، نشرت في 30 من آب الفائت خبرًا يقول إن رئيس الوزراء في حكومة النظام، عماد خميس، وعد بـ “زيادة رواتب قريبة”، لكنها عادت بعد أيام لتنقل عن رئيس هيئة الأوراق المالية، وعضو المجلس الاستشاري في مجلس الوزراء عابد فضيلة، “أن زيادة الرواتب دون تحسين مستوى المعيشة وزيادة مستوى الخدمات لن تكون مجدية”.

فضيلة ألغى بتصريحاته الآمال بزيادة رواتب قريبة، لكنه أبقى باب التأويلات مفتوحًا، حين قال “قرار زيادة الرواتب مُتخذ، وهذه الزيادة تتعلق بمرونة الاقتصاد وقدرته على زيادة الإنتاج، وبالمحصلة فإن مسودة قرار رفع الرواتب موجودة لدى الحكومة لكن السؤال ما النسبة وكيف؟”.

الأخذ والرد حول زيادة الرواتب استمر نحو شهر، حتى خمد الحديث حول الأمر، لكنها لم تكن المرة الأولى التي تؤجج فيها وسائل إعلام سورية قضية زيادة الرواتب، القضية الأكثر تأثيرًا في الحالة المعيشية للسوريين.

خلال عامي 2016 و2017 سرت إشاعات عدة حول زيادة مرتقبة في أجور العاملين في مؤسسات الدولة، لكن شيئًا لم يتغير في هذا الصدد.

الزيادة الأخيرة في رواتب موظفي الدولة كانت في أيلول عام 2015، حينها أصدر بشار الأسد المرسومين 41 و42، القاضيين بإضافة مبلغ 2500 ليرة سورية للرواتب والأجور الحكومية.

ورغم أنها لم تكن على قدر التوقعات، جاءت الزيادة بعد نحو عام على تداول كبير لإشاعات بزيادة 50٪، وبعد أن فقد الموظفون الأمل بها، حصلوا على ما يعادل خمسة دولارات إضافية شهريًا.

ويرى المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم، أن الإشاعات المتعلقة بالرواتب مصدرها عدة جهات، “الجهة الأولى هي الضغط الشعبي، فالناس يريدون أن تكون هناك زيادة رواتب، وتدعم مطالباتهم تصريحات المحللين ودكاترة الاقتصاد الساعين لتصدر المشهد الإعلامي”.

ويضيف يونس، “الجهة الثانية هم رجالات النظام وأصحاب القرار الذين يصدرون تصريحات ردًا على المطلب الشعبي، فيتبعون سياسة التخدير، إذ يظهر مسؤول ليحدد نسبة زيادة متوقعة، وغيره يقول لا زيادة، وغيره يقول كلامًا ملغومًا بالنسبة للعموم”، ويستأنف، “أما الاقتصادي فيمكنه أن يعرف حقيقة هذه التصريحات كون الزيادات مبنية على أرقام”.

الجهة الثالثة، من وجهة نظر يونس، هي أطراف تحاول أن توقع النظام وحاضنته بحالة خلاف، بالتركيز على أنه لا انتصار على الأرض، وأن من ساند النظام لم يحصل على المكافأة.

بالمحصلة، يعتقد يونس أن هذه العملية بالمجمل تديرها أجهزة المخابرات، لكنه يرى أن الهدف النهائي منها غير واضح بسبب تداخل الأحداث.

جنود سوريون يمرون أمام لوحة لرئيس النظام السوري بشار الأسد في ذكرى عام على سيطرة قواته على مدينة حلب - 21 كانون الأول 2017 (AFP)

جنود سوريون يمرون أمام لوحة لرئيس النظام السوري بشار الأسد في ذكرى عام على سيطرة قواته على مدينة حلب – 21 كانون الأول 2017 (AFP)

تسريح دورات العسكريين.. “سوريا بخير”

من منشور على موقع فيس بوك، أطلق عضو مجلس الشعب في سوريا، نبيل صالح، في نهاية تشرين الأول الفائت، إشاعة توقيف الدعوات للخدمة الاحتياطية في سوريا، لينتشر الخبر بعدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير.

صالح، قال إن وزير الدفاع أعلن في جلسة لمجلس الشعب أن بشار الأسد وجه لدراسة إمكانية تسريح جميع دورات الاحتياط وعدم الاحتفاظ بأحد.

شادي حلوة، الإعلامي الموالي للنظام، سارع إلى بثّ فيديو مباشر عبر صفحته في “فيس بوك” وضح فيه القرار الذي تحدث عنه صالح، وربطه بالمرسوم الرئاسي رقم 18 الصادر في 9 من تشرين الثاني الفائت، والذي يمنح عفوًا عامًا “عن كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي”، شرط أن يسلموا أنفسهم خلال مدة محددة.

بعض وسائل الإعلام المحلية، مثل “السويداء 24” و”سوريان نيوز”، نقلت عن “مصادر” أخبارًا تؤكد ما قاله حلوة وصالح.

لم يستند الخبر على أي معلومات مؤكدة أو مصادر رسمية مصرّح عنها، ورغم ذلك حصد اهتمامًا واسعًا من السوريين، لكونه يمس شريحة واسعة من الشبان السوريين الفارين من الخدمة الاحتياطية، ويؤثر على مصير قسم كبير من اللاجئين الراغبين بالعودة إلى سوريا.

الجدل استمر بضعة أيام قبل أن يضع مدير التجنيد في سوريا، اللواء سامي محلا، حدًا له، حين قال في مقابلة مع الفضائية السورية إن “المتخلفين عن الدعوة الاحتياطية سقطت عنهم العقوبة والدعوة السابقة بموجب مرسوم العفو، لكنهم قد يطلبون للدعوة الاحتياطية مجددًا في حال الحاجة”.

وانتعشت خلال الأعوام الماضية الإشاعات المتعلقة بما يخص أمور التجنيد وتسريح المجندين، ولعب الناشطون ومسؤولو صفحات إخبارية محلية على “فيس بوك” دورًا في بثها.

لكن النظام وحكومته نادرًا ما تدخلوا لإيقاف الإشاعات بتصريحات رسمية، فكانت المعلومات تدور في فلك وسائل التواصل الاجتماعي، ليقوم المواطنون بإعادة نشرها ومشاركتها في أوساطهم.

وتسري حاليًا إشاعات حول إمكانية تسريح الدورتين 103 و104 والاحتياط منذ عام 2011، وبحسب ما قاله شادي حلوة عبر صفحته على فيس بوك، فإن “القرار جاهز وينتظر التوقيع النهائي فقط في إدارة القوى البشرية”.

فئات نقدية جديدة.. تهيئة السوق و”لملمة” القطع الأجنبي

ينتظر السوريون طرح الخمسين ليرة سورية المعدنية خلال الفترة المقبلة، بعد أن أعلن عنها رئيس هيئة الأوراق المالية في حكومة النظام السوري، عابد فضلية، في حديث إلى صحيفة “تشرين” الحكومية، الاثنين 22 من تشرين الأول.

فضيلة توقع أن يكون لإصدار فئة 50 ليرة معدنية وقع “إيجابي” في الشارع السوري، لأن الشعب يعي ضرورة تبديلها، على حد قوله، لكن هذا التوقع بني على عام من رصد ردود فعل الشارع عبر تسريب معلومات على شكل إشاعات بإمكانية طرح هذه العملة المعدنية.

في صيف عام 2017 انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، صور لفئة العملة الجديدة من فئة 50 و100 ليرة سورية.

لكن حاكم مصرف سوريا المركزي السابق، دريد درغام، نفى حينها طباعة عملات معدنية جديدة من فئة 50 و100 ليرة سورية، وقال درغام لصحيفة “الوطن” المحلية إن الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي مصممة عبر “فوتوشوب” ومعدلة بواسطة الكمبيوتر.

سلسلة الإشاعات التي تسبق الطرح طالت أيضًا فئة الـ “2000” ليرة، التي تم طرحها في الأسواق السورية العام الماضي، بعد أشهر من الجدل والتسريبات حول إمكانية طرحها.

واليوم يتداول مستخدمون سوريون لمواقع التواصل الاجتماعي صورًا لورقة نقدية من فئة 5 آلاف ليرة سورية، الأمر الذي يرى فيه المحلل الاقتصادي يونس الكريم محاولة من النظام لتوصيل رسائل للسوق المحلية، مضمونها أنه لا نقص في العملة المحلية، والسيولة موجودة ولا داعي للتعامل بالقطع الأجنبي.

ويضيف الكريم، “النظام يسعى ليظهر للمؤسسات أن هناك قوة شرائية وبالتالي تشجيع مراكز الدراسات لإصدار تقارير تقول إن الأوضاع الاقتصادية جيدة”.

ويحاول النظام أيضًا، من وجهة نظر الكريم، “لملمة الدولار من المواطنين بطرح العملة ومنع التداول بالدولار، وإعادته للبنك المركزي لتحسين الاحتياطات النقدية، وتلبية متطلبات موازنة عام 2019 التي تصل إلى 3 تريليون و882 مليار دولار”.

إشاعات وبيانات مزورة في مناطق المعارضة

في الوقت الذي كانت تدور به المعارك على كامل الخريطة السورية، كانت البيانات المزوة والإشاعات تظهر بين الفينة والأخرى على مواقع التواصل الاجتماعي وتنتشر بشكل سريع بين الناشطين، لتتحول بذلك إلى تقارير وأخبار متداولة حتى ضمن الوسائل الإعلامية.

كما انتشرت ظاهرة أخرى شبيهة بالأولى، وهي إنشاء مجهولين لقنوات على تطبيق “تلغرام”، وحسابات على موقع التواصل “تويتر” و”فيس بوك” بهدف التضليل وتوجيه الرأي العام المحلي بما يخدم مصالح المزورين.

ورصدت عنب بلدي عدة وقائع بارزة شهدتها الساحة السورية خلال السنوات السابقة، وكان على رأسها حادثة الهجوم على حافلات المهجرين من منطقتي كفريا والفوعة وسط محافظة إدلب، بعد اتفاق “المدن الخمس” الذي يقضي بخروج أهالي المنطقتين منهما إلى مناطق واقعة تحت سيطرة قوات الأسد.

ونشر بيان على مواقع التواصل الاجتماعي يحمل توقيع فصيل “جيش الإسلام”، في 15 من نيسان 2017، تبنى فيه الفصيل الهجوم على حوافل المهجرين من المنطقة.

وقال البيان، “بعملية نوعية وبخطة محكمة تمكنت وحدة المهام الخاصة في جيش الإسلام من استهداف باصات كانت تنقل المقاتلين الشيعة من كفريا والفوعة ليكونوا أدوات قتل جديدة لأهلنا بعد اتفاق يسمى (المدن الأربع) الذي مكنهم من الفرار بجرائمهم السابقة”.

ولكن المتحدث باسم فصيل “جيش الإسلام”، حمزة بيرقدار، خرج بعد ساعات ليعلن أن البيان هو غير حقيقي ومزور.

وفي حادثة أخرى، منتصف عام 2015، أقدم مجموعة القراصنة الإلكترونيين على اختراق موقع الفصيل ذاته، ونشر بيان مزيف حول إقالة قائد الفصيل آنذاك، زهران علوش، من قيادة الفصيل وتكليف (أبو معروف نائبه) بدلًا منه.

حرب الإشاعات لم تكن بين فصائل المعارضة وقوات الأسد فحسب، بل كانت عنصرًا أساسيًا في معارك الفصائل المعارضة فيما بينها، لا سيما الخلاف الذي نشب بين فصيلي “جيش الإسلام” و”هيئة تحرير الشام” المدعومة من “فيلق الرحمن” في الغوطة الشرقية، ما أدى لاقتتال داخلي بين تلك الفصائل نجمت عنه خسائر بشرية تجاوزت 500 قتيل بين عامي 2016 و2017.

وصدرت حينها عدة بيانات أعلنت فيها فصائل منضوية ضمن “فيلق الرحمن” انشقاقها عن الفصيل، قبل أن  يخرج الأخير في بيان يوضح أن تلك الإعلانات مزورة وليست صادرة عن قيادة الفيلق، متهمًا فصيل “جيش الإسلام” بالضلوع خلف تلك البيانات لـ”شق الصف” بين صفوف المقاتلين.

وفي شمالي سوريا، في وقت اندلع به قتال بين فصيلي “جبهة تحرير سوريا” و”هيئة تحرير الشام”، تداول ناشطون، في شباط الماضي، بيانًا يطلب من وزارة الداخلية في “حكومة الإنقاذ” والشرطة مؤازرة “الهيئة” ضد “تحرير سوريا”.

وجاء في البيان، أن الدكتور محمد الشيخ رئيس “الإنقاذ” طلب من وزير الداخلية، العميد أحمد نوري، إصدار تعميم على كل الأقسام والمخافر لمساندة “تحرير الشام” ضد الفصائل التي وصفها بـ ” العميلة”.

ولكن “الحكومة” رفضت البيان، وأوضحت أنه مزور، مشيرةً إلى أن الهدف من ذلك هو “إظهارها بصورة قبيحة”.

ما هي الإشاعة؟

أسس هتلر في أربعينيات القرن الماضي وزارة للدعاية السياسية وعين عليها جوزيف غوبلز، صاحب عبارة “اكذب ثم اكذب حتى يصدق الآخرون”، وكانت مهمة هذه الوزارة بث إشاعات تشمل تضخيم حجم القوة العسكرية الألمانية.

وخلال الحرب العالمية الثانية نشطت هذه الوزارة في نشر الأكاذيب، وروّجت لفكرة مفادها أن الألمان يملكون قذائف قادرة على تحويل الناس إلى بخار.

في ذلك الحين، لم يكن خلق الإشاعات وتداولها أمرًا جديدًا، لكن الطريقة المنظمة التي كانت تدار بها دفعت باحثَين أمريكيَّين إلى البدء بإدخال الإشاعات في حيز الدراسة والبحث.

قاد عالما النفس الأمريكيان غوردون ويلارد ألبورت، وليو بوستمان، أولى محاولات التنظير في مجال الإشاعات، ووضعا التعريفات القائدة في تفسيرها.

ويتقاطع رأيهما في أن الإشاعة هي “افتراض يرتبط بالأحداث القائمة، يراد أن يصبح موضع تصديق العامة بحيث يتم ترويجه من شخص إلى آخر مشافهة في العادة، ومن دون أن تتوافر أي معلومات ملموسة تسمح بإثبات صحته”.

ورغم أن نشوء الإشاعة غالبًا ما يرتبط بموضوع يثير اهتمام العامة، ويمكن أن يكون مادة مغرية للتداول وإثارة الجدل بين الأفراد في مجتمع معين، لكن عملية إطلاق الإشاعة غالبًا ما تكون غير واضحة أو ملموسة، أي أن أغلب الناس يسمعون عن الإشاعات في طور الانتشار.

يقول الباحث الفرنسي جان نويل كابفرير، في كتابه “الإشاعات وسيلة الإعلام الأقدم في العالم”، إن الإشاعات تدور على ألسنة مجموعة محتملة من الفاعلين، تبدأ بـ “محرّض” يستشعر موضوعًا ما ويقوم بنقله لـ “مترجم” يساعد في عملية التحليل والتفسير، وبوصوله إلى “حراس البوابة”، وهو قائد للرأي في مجموعة ما، تنتقل الإشاعة إلى مرحلة الجماهيرية، وغالبًا ما يكون هناك “مبشرون” يتماهون مع الإشاعة، و”منعشون” يستفيدون منها.

ويرى الباحث كابفرير في كتابه الذي صدرت ترجمته إلى العربية عن دار الساقي للنشر عام 2007، أن الإشاعات هي أخبار من مصادر غير رسمية، أو غير مثبتة، وبالتالي إطلاقها عملية سياسية.

ولا يفترض الباحث أن تكون الإشاعة بالضرورة غير صحيحة أو منظمة، لكنه يشير إلى أنها واحدة من أنجع الأدوات المعتمدة في الحروب السياسية كونها تتلافى الظهور العلني “فالآخرون يتولون الحديث بدلًا منك ويتحولون بملء إرادتهم أو لا إراديًا إلى ناقلين. وإذ ذاك يبقى المصدر مستترًا وغامضًا بحيث لا يمكن لأحد أن يكتشفه”.

غالبًا ما تنتهي دورة حياة الإشاعة بالصمت، وإما أن يكون الصمت مؤقتًا إلى حين إثبات صحتها، أو أبديًا في حال لم يكن لها أساس من الصحة، بينما تدخل الدعايات المضادة في العملية في حال كان ميدان انتشارها متعلقًا بالسياسة أو الاقتصاد.

السوريون يستشعرون الإشاعة.. فهل وقعوا في فخها؟

يرى الدكتور اللبناني محمد أحمد النابلسي، رئيس تحرير مجلة الثقافة النفسية، في كتابه “سيكولوجيا الإشاعة”، أن الإثارة العاطفية جزء ضروري من مناخ نشوء وانتشار الإشاعة، فالأفراد القلقون ينشرونها بحماس أكبر بكثير من الآمنين والمستقرين.

ويمكن أن يفسر ذلك الكم الهائل من الإشاعات التي تداولها السوريون في الأعوام الماضية، وتفاعلوا معها رغم حيز التشكيك الذي طالها.

في استطلاع للرأي أجرته جريدة عنب بلدي عبر صفحتها على “فيس بوك، أكد 76٪ من المشاركين الذين قارب عددهم 600، أنهم وقعوا في فخ الإشاعات، بينما قال 24٪ منهم إنهم لم يصدقوا أي إشاعات.

المتفاعلون على منشور الاستطلاع عبروا عن وعيهم بالإشاعات التي انتشرت في سوريا خلال الحرب، وذكروا أمثلة كثيرة على أشهرها.

“ساعة الصفر” و”سقوط النظام” و”انشقاق فاروق الشرع” من الإشاعات التي أجمع متابعو عنب بلدي على تكررها، إضافة إلى “وصول قوات حلف الناتو” و”مقتل بشار الأسد”.

بعض المشاركين أبدوا عدم ثقتهم بوسائل الإعلام، معتبرين أنها نشرت الكثير من الأكاذيب، ومنهم إبراهيم منصور الذي كتب، “كل شيء تكتبه وتقوله بعض الصفحات والفضائيات المعارضة، للأسف ليس له أي مصداقية، فقط للدعاية والإعلام”.

وسائل الإعلام.. بيئة خصبة لولادة الإشاعات وانتشارها

ارتبط ظهور الإشاعات في سوريا وانتشارها بوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تؤمّن بيئة خصبة لرواجها، من خلال سرعة تدفق المعلومات التي تتيحها ووصولها عبر شبكة الإنترنت، لذلك عند الحديث عن كيفية الحد من انتشار “الإشاعة” يجب التركيز على الإجراءات والخطوات التي ستقوم به الوسائل الإعلامية عبر منصاتها المختلفة.

في الحالة السورية حلت الإشاعة في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان انتشارها في الغالب عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، لتنتقل فيما بعد إلى وسائل الإعلام التي تعاملت ويتعامل البعض منها حتى اليوم دون أي تحقق وإثبات.

ومنذ انطلاقة الثورة السورية في عام 2011 اتجه الآلاف من الناشطين إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتغطية الأحداث اليومية في مناطقهم، كخطوة لإيصالها إلى وسائل الإعلام العربية والغربية، الأمر الذي فتح الباب أمام سيل كبير من الأخبار منها الصحيح والآخر الخاطئ الذي يندرج في إطار “الإشاعات” كونه لم يؤكد أو يتم التحقق منه وبقي في إطار التداول.

لا ترتبط الإشاعة بالحالة السورية فقط، كونها موجودة في الطريق وبين الناس وفي الصحافة التي تعكس الشارع، ويرى الصحفي والمدرب اللبناني، جاد يتيم، أن مناطق سيطرة النظام السوري والمعارضة أو القوات الأجنبية في سوريا لا يمكن التحقق من المعلومات فيها على الأرض، الأمر الذي أدى إلى تغذية الإشاعات والأخبار التي تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير.

ويقول يتيم لعنب بلدي، إن دور وسائل الإعلام في الحد من انتشار الإشاعة يرتكز على تدقيق الخبر والوقوف على تفاصيله سواء كان منطقيًا أم لا، مشيرًا إلى خطوات يجب اتباعها في غرف الأخبار، أولاها التطبيق البدائي الذي يعتمد على معرفة المحرر بالموضوع.

ويعتبر الوصول إلى السبق الصحفي السبب الأبرز لانتشار الإشاعات، وبحسب يتيم فإن اندفاع الصحفيين غير المتمرسين إلى تحقيق السبق في غرف الأخبار أدى إلى انتشار الإشاعات، على خلفية غياب أساليب التحقق والدقة من المعلومات، وبالتالي الاستهتار بتدقيق الخبر.

في عام 2015 تحدثت دراسة أمريكية تحمل عنوان “أكاذيب وأكاذيب كريهة ومحتوى ينشر بسرعة” أن عددًا كبيرًا من وسائل الإعلام الإلكترونية يفتقد إلى الدقة ويسهم في نشر إشاعات، مشيرةً إلى أنه ليس كل ما ينشر على الشبكة يتمتع بالمصداقية.

وقالت الدراسة “من لعب دور مصدر معلومات دقيقة، يسهم عدد كبير من وسائل الإعلام الإلكترونية في التضليل لتحصد مزيدًا من الزيارات لموقعها ومن الاهتمام”.

وأضافت الدراسة التي جرت بإدارة كريغ سيلفرمان في معهد “تاو سنتر للصحافة الرقمية” في جامعة كولومبيا أن وسائل الإعلام اضطرت لمعالجة أخبار لم يتم التحقق من صحتها، لكن بعضها تسرعت في نشر أخبار كاذبة.

ويوضح يتيم أن الإعلام الإلكتروني تساهل في دقة الأخبار وصدقيتها، خلافًا للإعلام المطبوع “المسؤول”، والذي لا يمكن حذف الخبر منه بسهولة ودون توثيق.

ويضيف إلى ما ذكره سابقًا، أن محاربة الإشاعة تكون عن طريق وجود عقل بارد في المؤسسة الإعلامية وعدم الانجرار إلى العواطف، وإدراك الكذب في الأخبار ومدى الضرر الذي قد تلحقه.

وأكد سيلفرمان في الدراسة المذكورة، وهو الخبير الرائد في مجال أخطاء وسائل الإعلام ودقتها والتحقق من معلوماتها، أن معظم الأخبار الكاذبة تنشرها “وسائل الإعلام الجديدة” أو الصحافة الصفراء، وأضاف “عندما ينتشر نبأ كاذب على مواقع الإنترنت، يجب أن تهتم به الصحافة وتشير إليه لقرائها”، ونادرًا ما ينشر النفي لخبر غير صحيح.

“تأكد”.. منصة سورية تحارب “التضليل”

منذ عام 2011 ومع سرعة انتشار المعلومات الخاصة بسوريا على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت الأخبار المضللة والإشاعات بشكل كبير، الأمر الذي دفع إلى تحركات وخطوات من شأنها تصحيح المعلومات وإعطاء الصورة الواضحة للخبر الأساسي والحقيقي.

“منصة تأكد” كانت من بين المشاريع التي خصصت عملها بمحاربة الإشاعات والأخبار المضللة، ورغم بدء عملها في عام 2016 أي بعد سنوات من تدفق الأخبار السورية، قطعت أشواطًا كبيرة في البحث عن الأخبار المضللة والتعامل معها.

تأسست المنصة في آذار عام 2016، وكان الهدف منها تجنيب المتابعين التعرض للتضليل أو تلقي معلومات كاذبة خاصة فيما يتعلق بالشأن السوري.

ويقول الصحفي أحمد بريمو، مدير المنصة، إن الوضع السوري يشهد استقطابات دولية عسكرية وسياسية، يسعى خلالها كل طرف إلى كسب الرأي العام، ويستخدم كل طرف في صراعه الحرب الإعلامية، ما يفتح المجالات أمام التضليل وبث المعلومات الكاذبة.

ويضيف لعنب بلدي، أن عمل المنصة يبدأ من فريق الرصد عندما تواجهه أخبار كاذبة أو معلومات مضللة، سواء كانت على شكل مادة نصية أو صورة أو فيديو، لافتًا إلى أنه لا توجد أي شروط للتحقق من الخبر، “فالخبر الخاطئ لا بد من نفيه وتقديم المعلومة الصحيحة للمتابع”.

 

يعتمد التحقق من المعلومات في “منصة تأكد” أسلوبين رئيسيين، الأول هو التحقق الرقمي من المحتوى المرئي، والذي تستخدم فيه أدوات توفرها محركات البحث الكبرى مثل البحث العكسي عن الصور في محرك بحث غوغل، أو من خلال معاينة التسجيلات المصورة وتدقيق اللهجة واللغة والجغرافيا وطبيعة الطقس وغيرها من المعايير والعوامل، التي تساعد على تحديد كلمات مفتاحية معينة قد تقود في النهاية إلى الوصول للمعلومة الصحيحة.

أما الأسلوب الثاني فيتطلب التواصل مع مصادر ميدانية أو شهود عيان أو عبر شبكة مراسلي المنصة المنتشرين في عدة مناطق في سوريا، ومقاطعة المعلومات التي ترد من خلالهم للتوصل للمعلومة والخبر الصحيح.

ويوضح بريمو أن عمل “منصة تأكد” ضمن مجال “التحقق من المعلومات” في سوريا يجعلها تكتسب أهمية خاصة، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى هذه النوعية من المنصات.

ويعتقد أن عمل المنصة بالمعايير الصحفية المتعارف عليها في المؤسسات الإعلامية الرائدة عالميًا أكسبها ثقة الجمهور.

“تأكد”، منصة سورية تختص بالبحث عن الأخبار المضللة والكاذبة وتصحيحها وتنبيه القراء لها، وإلى جانبها في الوطن العربي تأسست عدة منصات تعمل بذات الآلية بينها موقع “أكيد” الأردني وموقع “فتبينوا”، إضافةً إلى موقع “ده بجد”، وموقع “أخبار ميتر”، فضلًا عن تجارب دولية بينها صفحة Check News التي أطلقها موقع “ليبراسيون”، وصفحة “لي ديكودور” على موقع “لوموند”.

وضمن آلية العمل التي تسير عليها، تتعاون “تأكد” مع المؤسسات الإعلامية السورية وغير السورية، ويقول بريمو، “لا توجد لدينا أي قيود على التواصل مع أي جهة إعلامية، طالما قد يفضي ذلك التواصل إلى الارتقاء بمستوى العمل الصحفي السوري، وتعزيز المصداقية واحترام القارئ لدى المؤسسات الإعلامية السورية وغير السورية (…) الإشاعة سمة أساسية حاضرة بجميع الأخبار المتعلقة بسوريا”.

ويرى مدير المنصة أن تمويل المؤسسة الإعلامية وسياستها التحريرية ومكان وجودها قد يلعب دورًا في نشر المعلومة حتى لو كانت خاطئة أو حتى تجاهلها إن كانت صادرة عن الطرف النقيض ولا تصب في مصلحة الطرف الذي تدعمه المؤسسة.

ويشير إلى أن أي معلومة لكي تنتشر على نطاق واسع تحتاج إلى منصة إعلامية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي بات تأثيرها يفوق أحيانًا تأثير المؤسسات الإعلامية.

English version of the article