tag icon ع ع ع

رهام الأسعد | ضياء عودة | محمد حمص | مراد عبدالجليل

مع اشتداد الحصار على الغوطة الشرقية عام 2015، واجه أحمد سعيد، وهو أحد أبناء مدينة حمورية في الغوطة الشرقية، صعوبات في تأمين متطلبات الحياة الأساسية لعائلته المؤلفة من سبعة أشخاص، بحسب ما أكدت زوجته هنادي لعنب بلدي.

أحمد الذي كان يعمل معماريًا قبل اندلاع الثورة، لم يجد عملًا يعيل به أسرته خلال الحصار، بينما كان وضعه الصحي يتراجع إلى أن أصيب بجلطة دماغية خلال العام ذاته، أدت إلى وفاته.

انضمت هنادي (اسم مستعار) بوفاة زوجها إلى قائمة من 4398 سيدة أرملة في الغوطة الشرقية، بحسب أرقام “المكتب الإغاثي الموحد في الغوطة الشرقية”، بينما أصبحت بناتها الخمس وطفلها الرضيع في عداد الأيتام.

لكن العائلة وجدت من يخفف معاناتها، إذ تشير هنادي إلى أن منظمة معنية بكفالة الأطفال الأيتام كانت تقدم لكل طفل من أطفالها مبلغ 25 ألف ليرة سورية شهريًا (نحو 50 دولارًا)، فضلًا عن تأمين التجهيزات المدرسية والمواد الغذائية الضرورية للحياة اليومية.

مع بداية حملة قوات الأسد على الغوطة الشرقية، في 18 من شباط الماضي، خرجت هنادي مع أطفالها من المعبر الآمن الذي افتتحته روسيا بالقرب من منطقتها، في 15 من آذار الماضي، وبقيت في مركز للإيواء بالقرب من عدرا شرق الغوطة نحو شهر قبل أن تخرج للسكن لدى أقاربها في دمشق.

وبحسب تعبيرها، لم تتمكن من تحمل أعباء المعيشة في العاصمة بسبب غلاء الأسعار، وتشارك السكن مع أكثر من عائلة، وسط انعدام مصادر الدخل بعد توقف دعم المنظمة التي كانت تكفل أطفالها.

تحت ذلك الضغط، عادت هنادي إلى مدينتها واضطرت لاستئجار منزل بالقرب من حيها، معتمدة في دفع إيجاره على المساعدات التي يقدمها بعض أقاربها المغتربين.

تقول هنادي لعنب بلدي إن “المساعدات التي كانت تقدم لها قبل التسوية، لا يقدم أقل من ربعها في الوقت الحالي”.

وتتشارك فاطمة المأساة ذاتها مع “80% من مواطني الغوطة الذين كانوا يعتمدون على مساعدات المنظمات”، بحسب مسؤول في إحدى المنظمات الإنسانية، التي كانت فاعلة سابقًا في الغوطة (رفض نشر اسمه لأسباب أمنية).

كما تتشابه حالة أهالي الغوطة إلى حد كبير مع معاناة السوريين في المناطق التي خضعت لتسويات أفضت إلى خروج فصائل المعارضة وسيطرة النظام خلال العام الحالي.

يرصد هذا التحقيق أثر تراجع عمل المنظمات الإغاثية والخدمية إثر سيطرة النظام على عدد من المناطق السورية، ويسلط الضوء على معاناة من نوع جديد يواجهها آلاف السوريين.

الغوطة الشرقية.. نكسة خدمية

لم تنهِ سيطرة قوات النظام على الغوطة الشرقية مطلع العام الحالي معاناة الأهالي الذين كانوا يعيشون في ظل حصار خانق، بل تفاقمت هذه المعاناة على مستويات عدة بالنسبة لمن لم يغادروا مناطقهم إلى الشمال بموجب اتفاق التسوية.

خلال فترة سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة بين عامي 2012 و 2017 زادت احتياجات الأهالي مع ازدياد عدد المصابين والضحايا، وكانت المنظمات المحلية والمنظمات الوكيلة للمنظمات العالمية الدولية تعمل على سد ذلك العجز الذي سببه ارتفاع معدلات البطالة مع غياب الكثير من المهن عن الواجهة، بالإضافة لانخفاض القدرة الشرائية لدى الفرد.

لكن ما كانت تسده تلك المنظمات قبل اتفاق التسوية، لم يعوض النظام إلا جزءًا يسيرًا منه منذ سيطرته على المنطقة.

وفق إحصائية “هيئة تنسيق العمل الإغاثي” التي شكلتها مجموعة من المنظمات والمؤسسات المعنية بالإغاثة الإنسانية لإحصاء سكان الغوطة قبيل الحملة العسكرية الأخيرة، بلغ عدد سكان المنطقة نحو 325 ألف نسمة خلال سيطرة فصائل المعارضة.

عقب التسوية، خرج من المعابر الآمنة التي افتتحها النظام السوري نحو مناطق سيطرته برعاية روسيا نحو 144 ألف مدني، وفق أرقام وزارة الدفاع الروسية، بينما خرج إلى الشمال السوري بموجب الاتفاق نحو 65 ألف شخص، وفق تقديرات فريق “منسقي الاستجابة في الشمال السوري”.

معظم الذين خرجوا عبر المعابر الآمنة عادوا إلى الغوطة خلال الأشهر الماضية، بينما عملت حكومة النظام على تأهيل المناطق التي سيطرت عليها قبل الحملة، كالقطاع الجنوبي من الغوطة والمرج والمليحة، وحينها استشعر الأهالي العائدون فجوة على مستويات عدة.

قبيل حملة النظام وصل عدد المصابين بإعاقات دائمة إثر الحرب، الذين حصلوا على المساعدات نتيجة وضعهم الصحي، إلى 5258 مصابًا، وفق “المكتب الإغاثي الموحد في الغوطة الشرقية”، بينما بلغ عدد الإصابات التي سببت إعاقة مؤقتة نحو 4419 إصابة، عدا عن حالات سوء التغذية والرعاية اليومية للمرضى الذين كانت تقدم لهم خدمات طبية ودوائية مجانية في المركز والمشافي المختصة.

لكن القطاع الطبي في الغوطة يعاني اليوم من تدهور كبير، وسط غياب تام لوجود مستشفى مخدّم، إذ أُغلقت جميع المستشفيات والمراكز الطبية لتضررها من القصف، ولم يعِد النظام ترميمها، ما يضطر الأهالي إلى الذهاب لمدينة دمشق لتلقي العلاج اللازم، مواجهين صعوبات وتضييقًا أمنيًا.

وبحسب موظفة سابقة في مجال الإغاثة ضمن بلدة كفربطنا في الغوطة الشرقية (رفضت نشر اسمها لمخاوف أمنية)، فإن منظمة “الهلال الأحمر السوري” تُدخل عيادات متنقلة إلى مدن وبلدات الغوطة بين الحين والآخر، “إلا أنها لا تكفي لتغطية الاحتياجات الطبية، فضلًا عن أنها تقدم خدمات أولية فقط”.

القطاع التعليمي أيضًا ليس بحال أفضل اليوم بالمقارنة مع مرحلة ما قبل التسوية، فبحسب إحصائية لـ “المكتب الإغاثي الموحد في الغوطة الشرقية”، صادرة في تشرين الأول من عام 2017، أي خلال سيطرة فصائل المعارضة، فإن عدد طلاب الغوطة الشرقية بلغ 52 ألف طالب، تتراوح أعمارهم ما بين 7 و18 عامًا، كانت تعنى بهم مديرية التعليم بالغوطة الشرقية وبعض المنظمات المعنية بالتعليم.

بينما تعاني الغوطة حاليًا من سوء الخدمات التعليمية، بحسب الموظفة في مجال الإغاثة، التي أكدت أن معظم المدارس في الغوطة الشرقية تضررت خلال العملية العسكرية الأخيرة للنظام السوري، وتشهد اليوم نقصًا في الكوادر والكتب المدرسية، فضلًا عن عدم توفر المياه والكهرباء والأبواب والنوافذ والمحروقات فيها.

وتشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة، في تقريرها الأخير، إلى أن 20 مدرسة فقط تعمل في مدن وبلدات الغوطة الشرقية، وهي مكتظة بالطلاب رغم سوء الخدمات المتوفرة فيها.

ولا يبدو القطاع الإغاثي أفضل حالًا بالمقارنة مع القطاعين التعليمي والطبي، فبحسب مسؤول في إحدى المنظمات الإنسانية، التي كانت فاعلة سابقًا في الغوطة (رفض نشر اسمه لأسباب أمنية)، فإن النظام لا يغطي سوى 25% من الاحتياجات في المنطقة حاليًا.

وبلغ عدد الأسر الفقيرة في المنطقة والتي كانت تتلقى المساعدات قبل التسوية نحو 7810 أسرة موزعة على  4240 للمستقرين و3570 للمهجرين من بلداتهم  ومناطقهم، بحسب “المكتب الإغاثي الموحد في الغوطة الشرقية”.

“الهلال الأحمر السوري” يوزع المساعدات في منطقة حوض اليرموك بدرعا- 1 تشرين الثاني 2018 (موقع الهلال الأحمر السوري)

ريف حمص.. المشاريع متوقفة والشبان دون عمل

في أثناء سيطرة المعارضة السورية على ريف حمص بين عامي 2013 و2018، استقطبت المنطقة منظمات إغاثية وتنموية عدة، عملت على إنجاز مشاريع شملت المجالات الإغاثية والطبية والزراعية، إلى جانب ما يحتاج له المدنيون بشكل يومي كالخبز والإعانات المالية.

ومن أبرز هذه الجمعيات “إحسان للإغاثة والتنمية”، “أميسا”، “عطاء للإغاثة الإنسانية”، “سيريا ريليف”، “منظمة البنيان المرصوص”.

بعد اتفاق “التسوية” بين النظام وفصائل المعارضة الموقّع في أيار الماضي، توقفت المنظمات عن العمل بشكل كامل، ورصدت عنب بلدي الأثر الذي تركه توقفها.

على المستوى الزراعي تجمدت جميع المشاريع الزراعية للأهالي، ولم يقدم المصرف الزراعي التابع للنظام السوري أي إجراء من شأنه سد الفراغ، خاصةً فيما يخص القروض من قبل الجمعية الفلاحية للحصول على السماد والبذور أو الدفعات المالية لإتمام العملية الزراعية.

ومن بين المشاريع الزراعية التي قدمتها المنظمات في ريف حمص “مشروع الأمن الغذائي”، الذي غطى معظم المدن والبلدات في المنطقة، وأسهم في تقديم البذور للفلاحين والمحروقات و”القروض الحسنة”، خلال فترة سيطرة فصائل المعارضة، إضافةً إلى المشاريع التابعة لوحدة تنسيق الدعم “ACU”.

الوضع الخدمي يشبه غيره من القطاعات، فقد أفضى اتفاق التسوية إلى توقف مشاريع تقديم الخبز وضخ المياه للأهالي، والتي كانت المنظمات تقدمها بشكل مجاني دون أي رسوم أو فواتير.

في الوقت الحالي أعاد النظام السوري الفواتير المفروضة على الكهرباء والمياه، وأوضح مراسل عنب بلدي في ريف حمص أن ساعة الحصول على المياه تبلغ تكلفتها 17 ألف ليرة سورية.

وقال المراسل إن منظمة “الهلال الأحمر” وزعت منذ عودة النظام السوري إلى ريف حمص الشمالي دفعة إغاثية واحدة، رغم فتح الطرقات إلى المنطقة بشكل كامل، عكس ما فرضه الحصار السابق.

ولم تنقطع قوافل الإغاثة عن سكان ريف حمص الشمالي، منذ صدور القرار الأممي رقم 2254، وعلى الرغم من محاولات قوات الأسد المستميتة لأكثر من 70 يومًا مطلع العام الحالي عرقلة وصول القافلات، كانت تصل في موعدها وفي أحوال أخرى متأخرة بضعة أيام لا أكثر.

وفي حديث لعنب بلدي قال أحد الإداريين في فرع الهلال الأحمر السوري في حمص (طلب عدم نشر اسمه)، إنه على الرغم من التقارير التي تصل من شُعب الهلال الأحمر في ريف حمص الشمالي عن تردي الوضع المعيشي، ترفض إدارة الفرع إرسال قافلة إغاثة للسكان في تلك المنطقة.

وأشار الإداري إلى أن “أسبابًا طائفية” قد تكون وراء هذا التقصير، إذ توزع المخصصات على بعض المناطق بشكل منتظم رغم عدم حاجتها، وهو مؤشر على سيطرة الأجهزة الأمنية على مفاصل القرار في المنظمة.

وأظهرت إحصائيات نشرها فريق “منسقي الاستجابة في الشمال” خروج 32 ألفًا و383 شخصًا من ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي منذ توقيع اتفاق الخروج، وتوزع المهجرون على ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب.

إلى جانب الشلل الذي أصاب القطاعات المذكورة سابقًا، أحدث توقف عمل المنظمات ضررًا كبيرًا على الأيتام في المنطقة، والذين يبلغ عددهم ما يقارب خمسة آلاف يتيم، ففي السابق كانوا مكفولين بالمنح التي كانت تقدم لهم من قبل المنظمات، أما حاليًا فتوقفت الكفالات بشكل كامل وغدوا دون معيل أو كفيل.

وبلغ متوسط الكفالة التي كانت تتيحها المنظمات للأيتام في أثناء سيطرة فصائل المعارضة 25 ألف ليرة سورية في الشهر الواحد، كما عملت على تقديم سلال غذائية للفقراء وعوائل المعتقلين من خلال المطابخ الجماعية والمنح المستمرة.

تراجع المنظمات ألقى بتبعاته أيضًا على جزء من الشبان، الذين وفرت للبعض منهم في السابق فرص عمل، وبلغ متوسط الرواتب حينها 350 دولارًا شهريًا للموظف الواحد (190 ألف ليرة سورية تقريبًا)، بحسب المراسل.

وكانت عنب بلدي كشفت في تقرير سابق لها، أيلول الماضي، أن موظفي ريف حمص الحكوميين، والبالغ عددهم قرابة 2500 موظف، لم يعودوا إلى دوائرهم ومؤسساتهم حتى اليوم، رغم أن عودتهم كانت ضمن بنود اتفاق خروج فصائل المعارضة إلى الشمال.

درعا.. نقص في المعونات و”نقلة” في القطاعين الطبي والتعليمي

يعلن “الهلال الأحمر السوري”، منذ سيطرة النظام على محافظة درعا في آب الماضي، عن قوافل إغاثية تدخل إلى مناطق مختلفة داخل المحافظة، واقتصرت تلك القوافل على توزيع سلل غذائية فقط، بدعم من برنامج الأغذية العالمي (WFP).

ووفق ما رصدت عنب بلدي على موقع “الهلال الأحمر” الرسمي، بلغ عدد المرات التي دخلت فيها القوافل نحو 11 مرة فقط، شملت بلدات وقرى حوض اليرموك والريفين الشرقي والغربي لدرعا، ما يعني غياب المعونات الإغاثية عن بقية المناطق، وحضورها لمرة واحدة أو اثنتين في المناطق التي وصلتها القوافل مؤخرًا.

وأفاد مراسل عنب بلدي في درعا أن “الهلال الأحمر السوري” لم يستطع سد الثغرات التي خلفها غياب المنظمات قبل “التسوية”، مشيرًا إلى أن المعونات كانت تدخل بشكل دوري من الأراضي الأردنية عبر معبر تل شهاب ومعبر نصيب الإنساني (غير الجمركي)، بدعم من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، وبرامج وكالة التنمية الأمريكية “USAID”.

وأضاف أن السلة الغذائية كانت أغنى بالمواد وتكفي لمدة أطول، وغالبًا ما كانت ترفق بسلة دوائية ومعونات طبية، عكس ما هو عليه الوضع الآن، حيث اقتصرت على المعونات الغذائية فقط.

أما على صعيد التعليم، فأفاد المراسل أن العملية التعليمية أصبحت تسير بشكل أفضل بعد “التسوية”، حيث أعيد ترميم وافتتاح العديد من المدارس التي كانت خارجة عن الخدمة في درعا، مشيرًا إلى أن عودة المهجرين إلى مدنهم وبلداتهم خفف وطأة الضغط على الخدمات المقدمة، خاصة على المدارس التي كانت مكتظة بالطلاب سابقًا.

ومع ذلك تشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في تقرير صادر بتاريخ 13 من كانون الأول الحالي، أن من بين نحو ألف مدرسة في درعا توجد 500 مدرسة تحتاج إلى إعادة تأهيل.

وكذلك على الصعيد الطبي، تشهد محافظة درعا تحسنًا في الخدمات الصحية والطبية المقدمة، رغم إغلاق الكثير من المستوصفات التي كانت عاملة قبل التسوية، بسبب عجز النظام السوري عن توفير الكوادر اللازمة لتلك المستوصفات، إذ بلغ عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية التي تضررت وأغلقت بعد “التسوية” نحو 50 مركزًا، بحسب تقرير “يونيسف” الأخير.

لكن النقلة الكبرى كانت على الصعيد النوعي وليس الكمي، بحسب ما نقل مراسل عنب بلدي في درعا، مشيرًا إلى أن المنظمات سابقًا كانت عاجزة عن توفير الأجهزة الطبية المتطورة.

في حين أصبحت متاحة الآن في المستشفى الوطني بدرعا، الذي يتوفر فيه جهاز طبقي محوري ورنين مغناطيسي، فضلًا عن قدرة الأهالي على الذهاب إلى دمشق لتلقي العلاج اللازم، الأمر الذي لم يكن متوفرًا سابقًا بسبب منع النظام للأهالي الخروج من درعا حين كانت فصائل المعارضة تسيطر عليها.

موظفون من الهلال الأحمر ومواطنون ينتظرون عند معبر كسب الحدودي مع تركيا – 23 تشرين الثاني 2018 (الهلال الأحمر السوري)

ما قبل التسويات وما بعدها..

السوريون يحتاجون المساعدة

تتحدث الأمم المتحدة منذ مطلع عام 2018 عن وجود ما يزيد على 13 مليون شخص داخل سوريا بحاجة للمساعدات الإنسانية الفورية، يتركزون بشكل أكبر في المناطق التي شهدت عمليات عسكرية وعانت من حصار بفعل نزاع فرض نفسه على الشعب السوري منذ سبع سنوات.

وبينما يشارف عام 2018 على الانتهاء لم يتغير هذا الواقع، بالرغم من تغير خريطة السيطرة العسكرية لصالح النظام السوري، خلال هذا العام، ورغم المستجدات التي طرأت على الملفين السياسي والإنساني أيضًا.

إذ أعادت الأمم المتحدة الحديث عن وجود 13 مليون سوري بحاجة لمساعدات فورية، خلال جلسة لمجلس الأمن، الخميس 13 من كانون الأول الحالي، ما يعني أن الاحتياجات لم تتغير بالهدوء العسكري الحاصل، بل على العكس قد تتفاقم بغياب منظمات محلية كانت فاعلة في مناطق المعارضة، والتي غيبها النظام السوري بعد سيطرته على تلك المناطق باسم “التسوية”.

عنب بلدي أجرت استطلاعًا للرأي حول إمكانية سد النقص الذي خلفه توقف نشاط منظمات المجتمع المدني في مناطق التسويات بسوريا، وطرحت القضية للتصويت عبر موقعها الإلكتروني وصفحتها على “فيس بوك”.

وكشف الاستطلاع عن نظرة سلبية لغالبية المشاركين الذين وصل عددهم إلى 500 مشارك من جمهور الجريدة،  إذ اعتبر 73٪ منهم أن هذا النقص لا يمكن سدّه.

استطلاع رأي

برأيك.. هل يمكن سد النقص الذي خلفه توقف نشاط منظمات المجتمع المدني في مناطق التسويات بسوريا؟

عمليات “إنسانية” روسية.. إناء ينضح بما فيه

تروّج روسيا باستمرار لعمليات “إنسانية” على الأراضي السورية، بإشراف هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، التي تقوم بتوزيع المساعدات والسلل الغذائية على الفئات “الأشد ضعفًا” في مناطق سيطرة النظام السوري.

إذ أعلنت الأركان العامة، في كانون الثاني 2016، عن بدء عملياتها “الإنسانية” في سوريا، بحجة أن المنظمات غير الحكومية الدولية توزع المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة فقط، ما يؤدي إلى وقوعها بأيدي “متطرفين”، بحسب الرواية الروسية.

وتشير إحصائيات وزارة الدفاع الروسية، عبر موقعها الرسمي، إلى أن موسكو نفذت أكثر من 2000 عملية “إنسانية” في سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية، وبلغ وزن المساعدات العينية نحو 3166 طنًا.

وأضافت أنها تمكنت، حتى 13 من كانون الأول الحالي، من ترميم وبناء 30 ألف منزل و712 مدرسة و118 مركزًا طبيًا وإصلاح 935 طريقًا.

لكن الإحصائيات السابقة قد تفتقد للمصداقية، خاصة أنها صادرة عن جهة واحدة تمثل صوت النظام السوري فقط، وتُنفّذ غالبًا في مناطق لا يمكن للمنظمات الدولية دخولها والإشراف عليها.

وبحسب موقع وزارة الدفاع الروسية فإن العمليات الروسية تُغطي المناطق التي استعاد النظام السوري السيطرة عليها من المعارضة، لكنها تبقى عاجزة بمفردها عن تغطية الاحتياجات الإنسانية اللازمة في تلك المناطق المنكوبة، والتي تحتاج إلى منظومة عمل إغاثية دولية وشاملة.

خريطة توضح عدد المهجرين قسرٌا في داخل سوريا (تعديل عنب بلدي)

عملية “نوعية” للأمم المتحدة.. وغياب الأرقام الدقيقة

أعلنت الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) عن عملية إنسانية لإيصال المساعدات للسوريين عبر معبر نصيب الحدودي مع الأردن.

وفي بيان أصدرته المنظمة، الأحد 9 من كانون الأول الحالي، قالت فيه إن العملية تستهدف إيصال المساعدات الإغاثية لنحو 650 ألف شخص، عبر 369 شاحنة تحمل ما يزيد على 11 ألفًا و200 طن من المساعدات.

ومن المقرر أن تستمر العملية على مدى أربعة أشهر عبر الأراضي الأردنية، وتشمل الاحتياجات العاجلة للسوريين، ومنها الغذاء والمياه والمأوى والمستلزمات الطبية وسبل العيش والصرف الصحي، بحسب البيان.

ولم تحدد المنظمة المناطق التي سيتم توزيع المساعدات فيها داخل الأراضي السورية، لكنها من المتوقع أن تشمل مخيمات النازحين ومناطق “التسويات”، خاصة في درعا.

ورغم أن الأمم المتحدة تتحدث عن وجود 13 مليون سوري بحاجة لمساعدات إنسانية، إلا أن مدير المناصرة في منظمة “سامز” (الجمعية الطبية السورية الأمريكية)، محمد كتوب، يرى أن من الآثار التي تركها انسحاب المنظمات هو عدم وجود معلومات دقيقة حول احتياجات المناطق التي سيطر عليها النظام السوري مؤخرًا.

وأضاف، في حديث لعنب بلدي، أن كل المنظمات سابقًا في مناطق المعارضة كانت تعمل على تقديم إحصائيات وأرقام عن معاناة المنطقة بهدف إدخال قافلة تابعة للأمم المتحدة بحسب الحاجة، في حين يوجد حاليًا تعتيم من قبل النظام الذي لا يسمح للأمم المتحدة بالدخول لإجراء مسح داخل الغوطة الشرقية.

وأرجع كتوب ذلك إلى حجب المشهد الإنساني والأمني الحاصل في الغوطة، كون دخول قوافل الأمم المتحدة عبر الهلال الأحمر السوري، حتى وإن كانت تعمل تحت سلطة وسيطرة النظام، يؤدي إلى نوع من الرقابة على الوضع الأمني وتسليط الضوء على حالات الاعتقال التعسفي الجاري في المنطقة، وهو ما لا يريده النظام، على حد تعبيره.

دخول قافلة مساعدات أممية إلى منطقة الحولة ومناطق ريف حماه الجنوبي – 14 كانون الأول 2017 (عنب بلدي)

رقابة أمنية وإطار قانوني..

معوقات تمنع المنظمات من العمل في مناطق النظام

شهدت سوريا بعد الثورة انفجارًا في عدد منظمات المجتمع المدني التي تقدم خدمات إغاثية وطبية وتعليمية وغيرها، لكن أغلب هذه المنظمات تركزت في مناطق سيطرة المعارضة السورية.

تقدّر دراسة بعنوان “منظمات المجتمع المدني السورية.. الواقع والتحديات”، صادرة عن منظمة “مواطنون من أجل سوريا”، نسبة المنظمات العاملة في مناطق  سيطرة النظام 14% من إجمالي المنظمات التي تعمل في سوريا فقط، مقابل  44% في مناطق سيطرة المعارضة.

ونظرًا لكون الدراسة منشورة عام 2017، فإن ذلك يعني أن عدد منظمات المجتمع المدني في مناطق سيطرة فصائل المعارضة تراجع بشكل كبير إثر التسويات التي أفضت إلى سيطرة النظام على الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي ودرعا، إذ لم يكن من الممكن لهذه المنظمات أن تواصل عملها مع سيطرة النظام لاعتبارات أمنية وقانونية.

ملاحقات أمنية

منذ سيطرته على مناطق التسويات، لاحق النظام السوري بعض العاملين السابقين في منظمات المجتمع المدني، وهو ما أكده مسؤول في إحدى المنظمات التي كانت عاملة في الغوطة الشرقية، لافتًا إلى أن النظام اعتقل أكثر من 25 شخصًا كانوا يعملون في منظمته منتصف العام الحالي.

وقال المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه واسم المنظمة حرصًا على الموظفين المعتقلين، في حديث إلى عنب بلدي، إن “النظام يمنع أي طرف من تقديم المعونات للمواطنين خارج سلطته، لأن المنظمات كانت تعتبر بديلة عن حكومة النظام في تقديم الخدمات وأحد أسباب صمود المواطن في أرضه، خاصة وأن كفاءة العمل ونوعية الخدمات التي كانت تقدم خلال حصار الغوطة في جميع القطاعات، أجود وأفضل من الكفاءة المقدمة من قبل النظام حتى ما قبل 2011”.

واعتبر أن النظام يحاول الضغط على المواطن عبر وسائل المعيشة من أجل استسلامه، ولذلك عمل على اعتقال أفراد المنظمات ومنع عملها كونها كانت تعتبر إحدى دعائم المواطن في مواجهة الحصار ودعم صموده والاستمرار في قضيته.

مدير المناصرة في منظمة “سامز”، محمد كتوب، اعتبر في لقاء مع عنب بلدي أن النظام السوري لا يسمح لأحد العمل في القطاع الإنساني خارج سلطته، وأشار كتوب إلى أن النظام وجه خلال الأعوام الماضية اتهامات متنوعة للمنظمات العاملة في مناطق المعارضة، وأظهر لها العداء في وسائل إعلامه.

ويضيف، “في حال قبلت إحدى المنظمات بشروط النظام وإجراءاته الأمنية الخاصة لترخيصها، فإن النظام سيتدخل في خطة التوزيع، ولن تكون خطة العمل وتحديد شريحة المستفيدين للمساعدات بناء على تقييم حقيقي من قبل المنظمة، وإنما سيتم توزيع المساعدات على مناطق يسمح بها النظام فقط بحسب رضا الأفرع الأمنية عليها، في حين تتعرض بعض المناطق لعقوبة عن طريق حرمانها من الخدمات”.

قافلة مساعدات إنسانية للهلال الأحمر تدخل إلى الغوطة الشرقية- تموز 2018 (سبوتنيك)

استحالة توفير غطاء قانوني

لا يمكن لأي منظمة غير حكومية أن تعمل في سوريا دون أن تحصل على ترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وفق قانون “الجمعيات والمؤسسات الخاصة السوري” رقم 93.

ورغم أن هذا القانون صادر عام 1958 أي منذ 60 عامًا، لا تزال أحكامه تسري حتى الآن، وكان مجلس الشعب وافق عام 2015 عام مشروع لتعديل القانون، لكن هذه التعديلات لم تُقرر بعد.

وبحسب الأحكام الواردة في نص القانون، الذي اطلعت عليه عنب بلدي، فمن المستحيل أن تحظى أي منظمة كانت عاملة في مناطق سيطرة المعارضة على ترخيص للعمل في مناطق سيطرة النظام ما لم تلتزم بمجموعة من المعايير التي يصعب تحقيقها بالنسبة لهذه المنظمات.

في حال رغبت إحدى المنظمات بالحصول على ترخيص ستكون وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مطلعة على البيانات المالية كاملة بحسب المادة 14 من الفصل الأول من القانون.

كما لا يجوز، بحسب المادة 21 من الفصل الأول، “لأي جمعية أن تتسلم أو تحصل على أموال أو مبالغ من شخص أو جمعية أو هيئة أو ناد خارج الجمهورية العربية السورية، ولا أن ترسل شيئًا مما ذكر إلى أشخاص أو منظمات في الخارج إلا بإذن من الجهة الإدارية المختصة”، بينما تحصل أغلب المنظمات العاملة في مناطق سيطرة المعارضة على تمويلات ومنح مالية من منظمات عابرة للحدود.

ووفق المادة الثالثة من الفصل الرابع في القانون، فإن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل يمكن أن تحلّ أي جمعية في حال ممارستها “نشاطًا طائفيًا أو عنصريًا أو سياسيًا يمس بسلامة الدولة”، وهي اتهامات وجهها النظام مرارًا لبعض العاملين في منظمات المجتمع المدني.

كما يحظر القانون على المنظمات السورية التعاون مع منظمات خارج سوريا إلا بموافقة الوزارة المختصة، ويمنع ترخيص المنظمة في دولة أخرى، الأمر الذي يعيق ترخيص المنظمات التي كانت تعمل في مناطق سيطرة المعارضة، لكون أغلبها مرخصًا في أوروبا ودول الجوار، بحسب دراسة “منظمات المجتمع المدني السورية.. الواقع والتحديات”، الصادرة عن منظمة “مواطنون من أجل سوريا”.

English version of the article

مقالات متعلقة