مد رجليك ع قد “اللايف ماب” تبعك

tag icon ع ع ع

خليفة خضر

كان لي حلم أن أصبح كأستاذنا في جامعة حلب، الذي كان آنذاك يسكن في حي الفرقان بمدينة حلب، وفي ذات الوقت يسكن في منزله الكائن بمدينة الرقة، التي تبعد عن مركز مدينة حلب قرابة الـ 200 كيلومتر، إذ كان يوزع الدكتور أيام أسبوعه، بين الرقة وحلب والطريق الذي لم يكن يستغرق من الوقت ثلاث ساعات على الأوتوستراد الدولي الواصل بين المحافظتين.

كان البعض يمازحه ويقول لم جلد الذات وتضييع الوقت على الطرقات؟! فمن الأفضل له الإقامة في حلب، وفي العطل الصيفية، كما بقية الطلاب والموظفين، بمقدوره السفر إلى الرقة حيث يسكن وحيث ولد.

لكنه كان يعلق على ملاحظة تضييع الوقت على الطرقات أنه في الرقة يجد ذاته ويجد مكانًا لنفسه التي تتبدد بين زحمة مدينة حلب وكثرة المشاغل والأعمال، ولولا الطريق وتوزيع وقته بين الرقة وحلب لضاعت نفسه وتغيرت ولم يعد يعرف ذاته. ويضيف في بعض الأحيان أن لتربتك التي ولدت عليها حقًا، ثمة أمراض نفسية وجسدية يعجز الكثير من الأطباء عن علاجها، إلا أن زيارة الإنسان للتربة التي حملته وهو حافٍ علاج لبعض أمراضه النفسية والجسدية.

دائماً كان يختم الحديث للسائل والمستغرب من سفره المتواصل بين حلب والرقة، بالقول: قد تتعبك المدينة ومشاغلها وتستعين بمسكنات الآلالم وعقاقير وجع الرأس لكي تستمر في يومك، أما الفرات والطرقات والبدو فتعفيني من مسكنات الآلالم.

كنت دائمًا ما أستشهد به عندما يسألني أحدهم عن حلمي، أخبره أن لي حلمًا هو أن أكون دكتور جامعة وأحاضر في الجامعة، جامعة حلب بالذات، ليرد علي البعض، هل منكم من هو دكتور جامعة منكم، أي نسل الشوايا؟!

ولست حينها بصدد التفريق وإعادة تعريف الشاوي ومن هم الشوايا، ولا التفريق بينهم وبين البدو، لأن عشيرتنا من البدو وليست من الشوايا. فآنذاك، أي قبل اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011، لم يكن ثمة ما يساعدك على تعريف نفسك ومجتمعك للآخر، فلا مجال للمقاربات الذهنية بين مكونات المجتمع السوري، فكل فئة تنظر للفئات الأخرى كما رسمتها لها حكومة البعث وأطرتها ووصمتها بنمط حياة محدد، وكل فئة لا تستطيع رؤية الفئات الأخرى بنظرة غير تلك التي وصمها البعث لهذه الفئة.

كنت كلما يسألني أحد أصدقائي عن حلمي وكلما أخبره بحلمي ويسألني كيف لك أن تصبح دكتورًا وجل الدكاترة هم من طبقة محددة من المجتمع، أي من الأغنياء ومن محافظات محددة، كنت أذكر له الدكتور الرقاوي وفي حال يريد رؤيته، كنت أطلب منه الذهاب إليه حيث يعطي محاضراته في كلية الهندسة الكهربائية في جامعة حلب: “روح شوفه ياخي، والله إنسان ودكتور من الرقة وشاوي متل ما تشوفه!”.

كان يستملكني هذا الحلم، أن أصبح دكتورًا في الجامعة، أوزع أيامي بين الرقة ومدينة حلب، وآخذ بسيارتي -أي كان نوعها لا يهم- الطريق الواصل بين كلتا المحافظتين، تاركًا لتفكيري الشرود بين قرى ريفي المحافظتين المبعثرة على طرفي الطريق، تتخلل الطريق استراحة ذات ديكور يشبه أثاث خيم البدو تتحول زيارتي لها إلى عادة لا بد من ممارستها وإن كنت غير عطشان أو جائع.

كان يشرد تفكيري بمنزل لي على ضفاف الفرات، أشرب الشاي أمام باب المنزل متحدثًا مع النهر عن قضايا الحياة التي تكبر كلما كبرنا.

وإن كانت المظاهرات المناهضة لحكم الأسد آنذاك في بدايتها في جامعة حلب، إلا أنها لم تثنني عن استمرارية الحلم ورسم المشاهد والصور، في حال تخرجت وحققت حلمي وتم تعييني محاضرًا في جامعة حلب.

لم أكن أعرف ما سيحدث بعد سنوات الحلم، أن تتحول زيارة الرقة أو جامعة حلب إلى حلم ربما يصعب تحقيقه، ناهيك عن الحلم الأول بأن أصبح دكتور جامعة.

فبعد سبع سنوات من آخر مشهد كنت أرسمه في مخيلتي عن توزيع أيام الأسبوع بين حلب والرقة، تحولت الخارطة لجامعة يسيطر عليها نظام الأسد وأخذت اللون الأحمر بحسب موقع “لايف ماب- سوريا”، ومدينة الرقة التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) أخذت بدورها اللون الأصفر بحسب نفس الموقع، أما أنا فرماني قدري أن أقيم في المنتصف بريف حلب الشرقي الذي تسيطر عليه فصائل المعارضة، والتي وصمها موقع “لايف ماب” باللون العفني.

خريطة تظهر توزع السيطرة في الشمال السوري - 27 كانون الأول 2018 (Livemap)

خريطة تظهر توزع السيطرة في الشمال السوري – 27 كانون الأول 2018 (Livemap)

لا قدرة لي على السفر إلى جامعة حلب، فمن خلال رسمي على جدران المنازل المدمرة عامي 2013 و2014 تحولت إلى مطلوب لقوى الأمن، التي منعت أحدًا من السكن في منزلنا بحجة أن لدى صاحبه أولادًا إرهابيين.

ولا قدرة لي على السفر إلى الرقة التي تسيطر عليها “قسد”، والتي ترى من توثيقي لسجونهم في مدينة راجو، أنني “داعشي” و”مفترٍ”، ولا مكان لسجن راجو في الخريطة، بحسب ما قال أحد قياديي “الوحدات” لصحفي أمريكي صديق لي زار الرقة وسأله عن انتهاكاتهم في عفرين.

طلب مني أحد أبناء عفرين الذهاب إلى السجن وتصويره إذا استطعت، استطعت وصورته وكانت تهمة لي تحول دون سفري إلى الرقة، ليتم حصاري في المنتصف بين مركز جامعة حلب ومدينة الرقة.

ضاع حلمي لأجل غير مسمى، فلا أنا تخرجت ولم أصبح دكتورًا ولا أستطيع السفر إلى مركز الجامعة ولا أستطيع السفر إلى الرقة.

ربما علي القول لمن يريد أن يحلم في هذه الأيام في سوريا، أن عليه في حال بدأ يرسم لنفسه مشاهد حلمه عليه أن يأخذ موقع “لايف ماب” بعين الاعتبار، خوفًا على نفسه من اعتقال أو قتل في حال مد بحلمه إلى منطقة يحظر عليه الدخول إليها بسبب مواقفه السياسية.

لذلك أمرّن أحلامي اليوم، أن تمد قدميها على قد خريطة “اللايف ماب” الخاصة بها.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة