لنمرحْ قليلاً مع بشار

tag icon ع ع ع

عمر قدور – المدن

ظهور بشار الأسد في خطاب لم يعد بالأمر الذي يسترعي الانتباه، والنسبة الأضخم من وسائل الإعلام تجاهلته، وبعضها أشار له في سياق عابر ضمن التغطية الروتينية للحدث السوري. لا تُستبعد، في تفسير التجاهل، صعوبة العثور في متن الخطاب عمّا يمكن اعتباره خبراً جديداً قد يثير انتباه القارئ، ولو كان ذلك على سبيل تصيد أخطائه مثلما يفعل أصحاب المؤامرة الكونية المزعومة.

بالطبع ثمة تفسير نعرفه جميعاً، هو عدم انتظار إطلالة بشار لمعرفة توجهاته، أو بتعبير حيادي منقرض: معرفة توجهات السياسة السورية. تصريح للافروف أو بوغدانوف سيجد صدى أكبر بكثير لما قد يحمله من دلالات حقيقية على التوجه في الملف السوري، أو تصريح لقائد الحرس الثوري رغم بهرجات الخطابة والتوعد بتدمير إسرائيل سيؤخذ بجدية نوعاً ما، أما شخص من طراز قاسم سليماني فمن عادته ترك الخطابات للذين يراهم أقلّ شأناً وتأثيراً في الواقع. لعل هذا الإدراك، الموجود أيضاً لدى شريحة واسعة من المؤيدين، هو أفضل رد على افتراءات بشار في ما يخص السيادة الوطنية، أو افترائه على مفهوم السيادة من أصله.

لا ندري لماذا خرج بشار بخطابه، فالمناسبة نظرياً هي استقباله الفائزين في “انتخابات” الإدارة المحلية، وهي كما نعلم مناسبة جرى اختراعها فقط ليتحدث، إذ لا أحد ينظر بجدية إلى مسرحية الانتخابات أو إلى أولئك الفائزين فيها. تزامنُ الخطاب مع ذكرى أول مظاهرة حدثت في سوريا “وهي مظاهرة الحريقة في دمشق” قد يكون متعمداً، أو هو على الأرجح كذلك، وعليه يكون الخطاب برمته نوعاً من النكاية، وهي وإن لم تكن الأولى من جهته فإن الإصرار عليها يعكس إحساساً بالضعف وشعوراً بالنقص أكثر مما يحمل إحساساً بالقوة والانتصار.

في مظاهرة الحريقة المذكورة نزل يومها وزير الداخلية ليقول للمتظاهرين جملته الشهيرة جداً: عيب يا شباب.. هذه مظاهرة! أما الشعار الذي أطلقه المتظاهرون يومها، وهو الشعار الذي بذل بشار ما في وسعه للتنكيل به، فقد كان: “الشعب السوري ما بينذل” (لا يُذل). وكما هو معلوم لم يوفر بشار طريقة لإذلال السوريين خلال ثماني سنوات إلا واستخدمها أو ابتدعها، بما في ذلك أن يكون ما تبقى منهم تحت قبضته محكوماً من وحشية وفساد قويين عليه وتابعيْن رخيصين لطهران وموسكو.

إننا هنا ندخل في قلب المرح الذي يتسبب به بشار كلما تحدث، ففي خطابه فقرة كاملة نطق بها بتركيز شديد، هي المخصصة لشتم المعارضة. إذ لا يدعو إلى الضحك شيء مثل تلك الجدية التي يتحدث بها عندما يخاطب المعارضين بأقوال من نوع: “أنتم عرضتم أنفسكم منذ البداية ومعكم الوطن للبيع.. ولا أقول عرضتم مبادئكم فأنتم لا تحملون مبادئ أساساً”. أو من قبيل “لكن بعد التجربة من قبل المالكين الجدد وبالرغم من كل عمليات التجميل والتطوير والتعديل لم تحققوا المهام المطلوبة منكم فقرروا بيعكم في سوق التنزيلات… وربما يتم تقديمكم وفوقكم رزمة من المال ولن يقبل بكم أحد لكن بيعكم تم من دون الوطن لأن الوطن له مالكون حقيقيون لا لصوص”.

المرح مع الكلام المقتبس أعلاه لا يبدأ من الركاكة اللغوية، لأننا قد ألِفنا من صاحبها ما هو أكثر ركاكة. يجوز لنا أن نبدأ، ولو اعتباطاً من اتهامه المعارضين بأنهم لصوص، إذ وفق كلامه في الفقرة ذاتها هم باعوا أنفسهم، بينما تُقدّر ثروة أسرته وفق تقرير قديم لمجلة فوربس “المتخصصة بمتابعة ثروات المشاهير والزعماء” بمئة واثنين وثلاثين مليار دولار، ولا حاجة لتوضيح مصدر هذه الثروة، لأن أباه من قبل تحدث مراراً عن نشأته في أسرة أقرب إلى الفقر، بل في أسرة لا تملك حتى ثلاجة السيسي الشهيرة الفارغة إلا من الماء.

لندعْ جانباً البلاغة التقليدية عن تلك التي تحاضر بالشرف، المفارقة ليست هنا، إنها في التصويب مع كل إطلالة على أموال قبضها معارضون، وكأن دافع الكلام غصّةٌ مبعثها الحسد والغيظ في المقام الأول. ومن دون أن ننكر وجود فاسدين في صفوف المعارضة، سيتسلل المرح من المفاضلة التي يفرضها الخطاب نفسه، أي بين فاسد وقاتل مئات الآلاف يحظى بداعمين ومشغّلين لم يتخلوا عنه بعد وبين فاسدين صغار تخلى عنهم داعموهم. كلمة الوطن في هذا السياق ستضفي مزيداً من المرح لمجيئها تماماً في السياق الخاطئ.

لعلنا لا نغالي بالقول أن شيئاً ما، على الصعيد نفسه، يؤرق بشار الأسد. فهو عندما يخرج عن شتيمة المعارضين يتجه على المنوال ذاته إلى اتهام أردوغان بالعمالة لأمريكا، من دون أن يوضح ما إذا كانت عمالة الأخيرة مأجورة أم تطوعية! وإذا كانت لنا مآخذ عديدة على سياسات أردوغان “في الشأن السوري تحديداً” فإن اتهامه بالعمالة لأمريكا “بخاصة رغم الخلافات التركية-الأمريكية الحالية” هو اتهام فقير أو ضحل، أو صادر عمن لا يعرف سوى هذه اللغة، ولا يعرف شيئاً عن سياسات دولية تقوم على التقاء المصالح أو تضاربها، لا على منطق الاستقواء الداخلي والتبعية الخارجية فحسب. إننا إزاء المنطق الذي يقود إلى النكتة المعروفة، وهي أن ترامب عميل لأمريكا!

الحديث عن أمريكا ومؤامراتها صار في حد ذاته نوعاً من الفكاهة، ولا يكفي ردّه إلى فلكلور الممانعة، فالموقف الرسمي الأمريكي منذ عهد أوباما تحاشى تنحية بشار عن السلطة، وضغطت واشنطن في العديد من المناسبات الحاسمة كي لا يصل دعم المعارضة إلى حد إسقاطه. وكما نعلم لإسرائيل حصتها من المواقف الداعمة لبقائه، والحق أن الخطاب لا يخلو من بعض الحصافة لجهة إسرائيل، فهو لم يتوقف عند انتهاكاتها ولم يتوعد ولو على سبيل اللغو بالرد عليها.

لو أجرينا تعديلاً على تسجيل الفيديو للخطاب، وجعلناه بالأسود والأبيض، لكنا أمام نسخة مشابهة لخطابات حافظ الأسد، عندما كان يجري توزيع الأدوار على الجمهور، فيُحدد لهم مسبقاً عند أية جملة ينبغي أن يصفقوا، وعند أية جملة ينبغي أن يقف واحد منهم ليلقي شعراً أو سجعاً رديئاً في مديحه. المشكلة في زمن الألوان أن ذلك بات مضحكاً مثلما تكون أية محاكاة رديئة، فالمحاكاة الرديئة تصنع لنا بركاكتها وأخطائها تهريجاً معاكساً لما قد تبتغيه. أيعني هذا أن الأسد وأتباعه لم يتعلموا إطلاقاً خلال ثماني سنوات؟ بلى، لقد اكتسبوا بعض المفردات الجديدة، وقد رأينا كيف امتدحه أحد الحاضرين قائلاً: “شعب وجيش أنت أميره”. كلمة “أمير” لم تكن واردة من قبل في أدبيات الموالاة، وأول استخدام لها كان باتهام المعارضة “أولاً في مدينة بانياس” بأنها أقامت إمارة إسلامية. بشار نفسه يبدو أنه اكتسب مفردات من الخصوم، فهو قد استلهم متأخراً شعار “أسد في لبنان وأرنب في الجولان”، بعد أن أعاد السوريون صياغته أثناء الثورة بما يناسب الحال، ليخاطب المعارضين بصياغة أقل تماسكاً: ما لي أراكم أسوداً على دولتكم وأمام المحتل فأنتم عبارة عن قطط.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة