حين يضيق فضاء المنظمات بالسوريين

tag icon ع ع ع

طارق جابر

السوريون عمومًا لم يكونوا معتادين على سماع مصطلح “منظمات المجتمع المدني” ولم يتقاطعوا مع هذه المؤسسات في حياتهم اليومية لندرة وجودها واقتصار دورها على مجال العمل الخيري في رعاية الفقراء والأيتام، بينما تنتشر بشكل واسع وتتنوع أدوارها ومهامها بشكل كبير جدًا في الدول الديمقراطية.

رغم حداثة الاسم إلا أن المفهوم قديم وسابق لظهور الدولة، حيث كان أفراد المجتمع غير القادرين على تحقيق أهدافهم وحماية مصالحهم بشكل منفرد، يعملون بشكل جماعي ومتعاون لتحقيق أهدافهم، ومع مرور الزمن تنوعت مهام هذه المجموعات وأطلِق عليها اسم المنظمات، ويقع تحت هذا الاسم الشركات التي تهدف إلى الربح، ومنظمات المجتمع المدني غير الربحية التي تهدف إلى خدمة المجتمع، وتشكلت لاحقًا الدولة وهيئاتها لتكون هي المنظمة المهيمنة بتشريعاتها واحتكارها لحق استخدام العنف على المجتمع، حيث تختلف طبيعة العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني باختلاف مصدر شرعية الدولة، مع ملاحظة أن منظمات المجتمع المدني، عمومًا، على عكس الأحزاب تسعى إلى التأثير على قرارات السلطة ولكن لا تسعى للمشاركة في الحكم.

فالعلاقة بين المنظمات والدولة الديمقراطية علاقة تعاون وتكامل مع وجود دور رقابي لهذه المنظمات، فدوائر صنع القرار المختلفة في الحكومة تشرك هذه المنظمات بصنع القرار ووضع السياسات المحلية، على سبيل المثال تُستشار نقابة الأطباء بما يتعلق بالسياسة الصحية التي ستعتمدها الحكومة قبل طرحها على الرأي العام أو البرلمان لإقرارها مما يقلل من فشل السياسات العامة ويضمن مخرجات إيجابية للقرارات الحكومية، كما يلحظ في الدول الحرة تنوع مجالات عمل المنظمات لتغطي مجالات الثقافة، والحوار المجتمعي، وحماية البيئة، وحماية المستهلك، بما ينسجم مع تطور المجتمع وحيويته ويدل أيضًا على نمو الاقتصاد وتطور القوانين والتشريعات.

بينما تكون هذه العلاقة في الدول الشمولية علاقة تابع ومتبوع، حيث تقوم المنظمات بترويج لقرارات الدولة وتبريرها وإن كانت تتعارض مع مصلحة المجتمع، فتخون إدارة المنظمة منتسبيها لتحقيق مصالح ضيقة بتحولها لأبواق للنظام مبررة للقمع كما حصل بُعيد ثورة الثمانينيات، حيث أعلنت “نقابة عمال حماة” تضامنها الكامل مع “القيادة الحكيمة ضد المؤامرة التي تستهدف صمود سوريا” ونفذت مسيرة تأييد! وتكرر المشهد بسوداوية أكثر في الثورة السورية الثانية حيث هيمنت الصيغة الأمنية بشكل كامل على بيانات وإعلام النقابات.

وتكون منظمات المجتمع في الدول الشمولية محدودة المهام والعدد وتقتصر على النقابات والجمعيات الحرفية والجمعيات الخيرية.

عندما تغيب مؤسسات الدولة يتمدد دور المنظمات ليملأ الفراغ الناجم عن هذا الغياب، وهذا كان واضحًا في الثورة السورية وبالتحديد في المناطق المحررة حيث تعرف السوريون بشكل أكبر على مفهوم المنظمات، وشارك العديد من الناشطين بتشكيل منظمات محلية في المناطق المحررة في المجال الإغاثي/الإنساني، والتنموي، والمجال الحقوقي، ومجال الحوكمة/الإدارة المحلية، سعت لتخفيف المعاناة وتوعية المجتمع وتأهيل الكوادر لإدارة المناطق المحررة.

هناك الكثير من الملاحظات على أداء هذه المنظمات مع ملاحظة أن المناطق المحررة لم تنل فترة هدوء كافية لإرساء نظم ومعايير تضبط عمل المنظمات، وبالطرف المقابل استثمر النظام منظمات مدارة من قبل أزلامه كجمعية البستان التابعة لرامي مخلوف، ومنظمة الأمانة السورية للتنمية التابعة لأسماء الأسد، حيث كانت أوعية لجمع المال وعلى الأخص من المؤسسات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، فكان الوصي على تنفيذ المشاريع المستهدفة للسوريين الموجودين بمناطقه، وقد أظهرت العديد من التحقيقات المستقلة كيف أن هذه الأموال صبت خارج أوعية مستحقيها، والأكثر من ذلك مولت آلة الحرب الأسدية وجيوب الشبيحة (تحقيق The Guardian وتحقيق مركز كارينغي).

لا بد من الإشارة إلى الوكالات الدولية العاملة في مجال التنمية والإغاثة، وإن كانت لا تطابق التعريف الخاص بالمنظمات غير الحكومية، فهي إما تابعة لهيئة الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو تابعة لوزارة الخارجية للدول، وتساعد بتحقيق أهدافها الاستراتيجية، إلا أن عملها يتداخل مع المنظمات المحلية العاملة، تمويلًا وشراكة تنفيذية، يجعل من الضروري مقاربتها من خلال السؤال التالي: لماذا تتدخل هذه الوكالات بمناطق الحروب والنزاعات وتنفذ مشاريع إغاثية، وتنموية، وحوكمية في دول العالم النامية أو في المناطق التي تعاني من نزاعات مسلحة وثورات؟

قد يكون الجواب الأسهل والذي يحبذه هواة نظرية المؤامرة أنه استكمال أو تأسيس للاستعمار والهيمنة وقد يكون هذا صحيحًا، ولا ننفي إمكانية استثمار أي حادثة لتعزيز مصلحة الدول المتدخلة، كتقديم المساعدت الأمريكية إلى فنزويلا في اللحظة الراهنة مثلًا، إلا أن هناك سببًا ثانيًا يتمثل بأنه لا يمكن ضمان استمرار ازدهار إقليم ما على المدى الطويل، في حال وقوع أقاليم مجاورة أو حتى بعيدة عنه تحت تأثيرات سلبية حادة ناجمة عن الحروب والكوارث الطبيعية من مجاعات وغيرها، مما يدفع بالدول المتمكنة اقتصاديًا، ولوجستيًا، وعسكريًا للتدخل من خلال أذرعها التنموية، وهذا بغض النظر عن الدافع الأخلاقي الذي عبر عنه ببلاغة مارتن لوثر كنغ: “الظلم في مكان ما هو تهديد للعدالة في كل مكان”، والذي قد لا يكون من القيم المعتمدة ضمن استراتيجيات الدول خارج حدودها ولغير من يقترع لاختيار هيئاتها السياسية.

من المهم أيضًا التنويه إلى أن ميثاق المنظمات والوكالات الدولية ينص على منع التمويل المباشر وغير المباشر للأعمال العسكرية وتمويل مشاريع تقع بمناطق تسيطر عليها المنظمات الإرهابية أو الراديكالية، أو التي ثبت ارتكابها لتجاوزات ممنهجة ضد حقوق الإنسان كالاعتقال القسري والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، والتعدي على حرية المرأة، وعمالة الأطفال، وهذا يفسر التوقف الحالي لعمل العديد من المنظمات في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام. ما يدعو إلى الاستغراب والاستنكار ازدواجية المعايير، فالعديد من الوكالات ما زالت تعمل في مناطق النظام، الذي ثبت ارتكابه لأكثر الجرائم شناعةً بحق المدنيين من قصف للمخابز والمشافي واستخدام الكيماوي وإعدامات جماعية خارج القانون للمعتقلين لديه، والتي تعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

إنَّ الفضاء الذي تشغله منظمات المجتمع المدني لا يمكن للدولة ولا للسوق والعمليات الاقتصادية أن تملأه، فمن خلاله يعبر الفرد عن تطلعاته، وبتضامنه مع باقي الأفراد تتحقق إنسانيته وسعادته، وتشكل صمام أمان يمنع تغول الدولة على المجتمع، وتَحول السلطة السياسية إلى سلطة فاشية تعبر عن مصالح نخبة حزبية أو عائلية، وفي حال غياب الدولة تكون المنظمات معنية بتوسعة مجال عملها وتسريع استجابتها للحاجات الطارئة والأساسية للمجتمعات المنكوبة، ومن ثم توطين المشاريع المستدامة، والعمل على نشر الوعي السياسي ومبادئ الديمقراطية بما يساعد المجتمع على بناء مؤسسات عامة على أسس صحيحة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة