الثقافة كبعد غائب في سوريا

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

كان لبرقية الكاتب والمفكر أنطون مقدسي التي يطلب فيها من بشار الأسد “تحويل الشعب من رعايا إلى مواطنين” أثر صاعق على خطابات وادعاءات النظام، وهي الرسالة المفتوحة التي نشرها في صحيفة الحياة في عام 2000، إبان تداول خطاب القسم والتغني بالمرحلة الجديدة التي يبشر بها وريث حافظ الأسد.

بعد تلك البرقية الصاعقة، تكفلت الوزيرة مها قنوت بإقالة رئيس قسم التأليف والنشر أنطون مقدسي من عمله، وحرمت السوريين من إنتاج ثقافة سورية جديّة وخارج الثرثرة الشعاراتية.

أنطون مقدسي (1914- 2005) عمل أكثر من خمسة وثلاثين عامًا في وزارة الثقافة وأشرف على إنتاج وترجمة آلاف العناوين من الثقافة السورية ومن الثقافة العالمية، وكان علمًا فيها، وهو أهم من كل وزرائها الذين عبروا بلا أثر وبلا قيمة عميقة، وصارت منشورات وزارة الثقافة تحت إشرافه موثوقة لدى القراء السوريين والقراء العرب، وعملت دور النشر الخاصة على إعادة إنتاج كثير من تلك المنشورات بسبب الذوق والثقة التي امتاز بها أنطون مقدسي مع الفريق الذي اختاره للعمل معه.

وقد أعلنت الوزيرة العتيدة بأنها تعتزم ترجمة خطابات حافظ الأسد الى اللغات الأجنبية بدلًا من الكتب التي يختارها أنطون مقدسي وفريقه للترجمة من تلك اللغات، وهي بذلك تحوّل دور الوزارة من نقل أمهات الكتب الفكرية والأدبية العالمية إلى اللغة العربية، إلى تصدير فكر وخطابات حافظ الأسد التي كتبها بمعونة الأمن العسكري والأمن الجوي طوال ثلاثين سنة!

لم يستطع نظام الأسد إنتاج ثقافة خاصة به إلا أغاني المناسبات والشعارات، وكليشيهات الخطابات الرسمية وكتابة التقارير، وخارج هذا الإطار لم ينتج النظام إلا أغاني علي الديك و سارية السواس وتلامذتهما، حيث كان مسؤولو النظام يسهرون في المرابع الليلية التي يغنون فيها، وقد أجبر النظام كثيرًا من الكتّاب والصحفيين، ومن المطربين والمطربات على التغني بحافظ الأسد، سواء بالترغيب أو بالترهيب، إلا أن كل جهوده في ترك أثر فني وثقافي باءت بالفشل، وكانت الثورة مثل صاعقة أحرقت كل ما أنتجه نظام البعث من ألوف الأغاني وقصائد مديح والشعارات، وكل مشتقات الثقافة الشمولية والتغني بالعبودية.

وتفاقمت مشكلة نظام الأسد بعد الثورة مع دخول الإيرانيين والروس، وصار النظام يخاطب المواطنين السوريين كرعايا أجانب بدلًا من كونهم رعايا سوريين، كما كانت الحال أيام حافظ الأسد، وصاروا لا يستحقون البقاء في الوطن الذي تحرسه الميليشيات الإيرانية والطائرات الروسية، بالإضافة إلى الشبيحة الذين تحولوا إلى أعداء للسوريين.

ورغم وجود كثير من الصحفيين الذين يتغنون بانتصارات الجيش والنظام ويعلنون الولاء للإيرانيين مرة، وللروس مرة أخرى، إلا أن النظام لم يكن يتسامح معهم في حال تحولوا إلى الشأن العام وانتقدوا الوضع المزري والفساد الذي يعيشه من ابتلي بالبقاء تحت إمرة النظام، فهو لا يريد مواطنين شركاء ولا يقبل إلا بالولاء والعبودية له واختياراته التي تتماشى مع مصلحة عائلة الأسد، ولعل الأمثلة كثيرة، ومنهم شادي حلوة ووسام الطير!

في الجانب الآخر جاءت تنظيمات التطرف الديني أمثال داعش والنصرة ومشتقاتهما بنفس مقولة نظام الأسد، التي تتلخص برفض المواطنة ولا تقبل إلا بثقافة التبعية والخضوع، وإن كانت بصيغة جديدة، وتحت مسميات أخرى للناس، مثل ألقاب العامة والمرتدين والكفار، بينما تنتقي لرجالها ألقاب الإمارة والجهاد، وتعتبر قادتها مبعوثين لنصرة الإسلام وإعادة مجده وإرساء الخلافة وفتح العالم مرورًا من دابق وصولًا إلى روما، وطبعًا دون المرور بأوجاع الناس وبمعاناتهم وبأفكارهم وأحلامهم الخاصة!

اليوم وبعد أكثر من ثماني سنوات من قيام ثورة الحرية، نادرًا ما أنتج مثقفو الثورة قيمًا جديدة، وأحلامًا ترسخ حلم الحرية، عبر كتب أدبية وأفلام سينمائية وأغانٍ فنية، ومسلسلات لا تكتفي برد الفعل على ما يجري بل ترسم مستقبل السوريين باعتبارهم مواطنين وشركاء، فالدماء التي بذلها السوريون، والمعاناة الكبيرة التي يعيشون فيها في الداخل الجائع أو في تشرد المَهَاجر كفيلة بإنتاج بُعد ثقافي جديد يخرج بالثقافة من مبدأ النفاق والتهليل وإدمان إعادة إنتاج الماضي، ويرسخ ثقافة جديدة تنطلق من المستقبل، كما كان يردد أنطون مقدسي، وترسم تفاصيل هذا المستقبل وتنير دربه في ليل المأساة السورية الطويل.

فالفلسفة والأدب هي التي وضعت حدًا للتطرف الديني في تاريخنا، وما أنتجه الكتّاب أمثال الجاحظ وابن سينا هو الذي فتح الطريق عريضًا أمام الثقافة العربية والإسلامية وأخرجها من تكرار الماضي!

والثورة البلشفية عام 1917 أنتجت أدب مكسيم غوركي وروايته الشهيرة الأم التي لم تقتصر على كونها مجرد دعاية سياسية، بل جاءت بقيم التضحية والفداء والإصرار على الهدف، بالإضافة إلى ترسيخ المشاعر الإنسانية النبيلة، وكذلك أشعار حسان بن ثابت في صدر الإسلام فهي لم تكن مجرد مديح للدين الجديد بل أتت بقيم فنية ولغوية جديدة وخففت من وعورة اللغة الجاهلية وبشرت بحياة جديدة!

ومثلما فعلت برقية أنطون مقدسي بخطاب القسم ومريديه وأخرجتهم عراة أمام الناس، ينبغي أن تنتج الأجيال الجديدة في الثورة السورية قيمها الثقافية الجديدة، وترسخ حلمها بالحياة وبالحرية والكف عن تكرار كليشيهات الأدب المستعملة إلى حد الاهتراء، ويجب الخروج من دائرة رد الفعل والشكوى وتسول الشفقة، فالسماء واسعة والأفق لا يزال يبشر بانبثاق الضوء.. ضوء الحرية الساطع!

ملاحظة أخيرة: أنطون مقدسي كان زاهدًا بقيم الشهرة والظهور، وكان مقلًا في الكتابة، ولكنه كان يعتبر الثقافة هي خشبة الخلاص لبلادنا، ورغم أنه أشرف على طباعة آلاف العناوين، واشتهر كثير من الكتّاب السوريين بسبب تزكيته لكتبهم وتشجيعه لهم، فإننا لا نجد في موقعه على الويكيبيديا أكثر من خمسمئة كلمة تعرّف به وبنتاجه، وتطلب إدارة الموسوعة المزيد من المعلومات عنه.. فهل نسي المثقفون السوريون أنطون مقدسي!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة