نتائج التخاذل أمام المرتكبين.. أنور كونغو واللجنة الدستورية

tag icon ع ع ع

منصور العمري

في عامي 1965 و1966، نفّد الجيش الإندونيسي انقلابًا عسكريًا في البلاد، أطاح بالرئيس سوكارنو، وسلّم الحكم لسوهارتو الذي حكم أكثر من 30 عامًا بيد من حديد، وورّث عائلته نحو 35 مليار دولار سرقها من الشعب الإندونيسي. خلال أقل من سنة قتل الجيش وميليشيات مسلحة تابعة له نحو مليون إنسان في حملة مجازر وصفها بعضهم بالإبادة الجماعية، بدأت باستهداف الشيوعيين والمتعاطفين مع الشيوعيّة واليسار المزعوم والصينيين على أساس عرقي، ثم انتقلت لاستهداف أي معارض سياسي، وأعضاء النقابات والمزارعين والمفكرين. بدأت هذه المجازر كتطهير ضد الشيوعيّة بعد محاولة انقلاب مثيرة للجدل في إندونيسيا اتهم الجيش الإندونيسي الحزب الشيوعي الإندونيسي بتنفيذها.

تشير التقديرات الأكثر تداولًا إلى أنه قُتل 500 ألف إلى مليون شخص، ووصلت بعض التقديرات إلى أرقام تتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين شخص، وسجن نحو مليون شخص. شارك في المجازر إلى جانب الجيش ميليشيات إسلامية حولت الحرب على الشيوعية إلى حرب دينية بهدف القضاء على “الإلحاد”، واستهدفت أيضًا جماعات مسلمة اتهمتها بتشويه الإسلام.

من أحد أبرز مجرمي تلك الحقبة كان أنور كونغو، زعيم إحدى الميليشيات التي دعمها الجيش في ارتكاب جرائم الاختطاف والتعذيب والقتل، بما فيها قطع الرؤوس، والاغتصاب، والسحل في الشوارع، وغيرها من الجرائم الوحشية، لمن كان يشتبه بميولهم اليسارية. عُرفت عصابته باسم “كتيبة الضفدع”، وأصبحت واحدة من أعنف كتائب الإعدام في منطقته.

بعد المجازر التي ارتكبها و”انتصاره”، عاد كونغو إلى حياته السابقة في عالم الجريمة، حيث ساعدته سمعته في ارتكاب المجازر. في تسعينيات القرن العشرين، كان كونغو مسؤول الأمن في أحد أكبر الملاهي الليلية في إندونيسيا، كغطاء لصفقات المخدرات التي كان يبرمها. حصل كونغو على كثير من الألقاب الشرفية، وكان محل احتفاء كبير لدوره في مجازر الستينيات، وأصبح مثلًا أعلى لملايين الشباب المسلحين، الذين تبنوا روايتهم الخاصة للتاريخ وظهروا فيها كأبطال. “تعلمنا أن الشيوعيين أشرار، ملحدون، خونة الأمة… لم نشكك فيما تعلمنا في المدارس. حتى عندما عرفنا حجم المجازر قلت لنفسي إن هؤلاء شيوعيون، ومن الجيد أنهم قتلوا”، كما قالت إحدى الطالبات في مقابلة مع “بي بي سي“.

مات المجرم بطلًا ونجمًا سينمائيًا

قدّم فيلم “قانون القتل” الذي أخرجه جوشوا أوبنهايمر عام 2012، حياة أنور كونغو، وطلب منه إعادة تمثيل عمليات القتل أمام الكاميرا. مات كونغو في 25 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي عن عمر ناهز 78 عامًا. لم يخضع أنور إلى أي محاسبة، بل على العكس مات بطلًا ونجمًا سينمائيًا.

لقطة من المشهد الأول من فيلم قانون القتل الذي يتغنى فيه أنور كونغو بالسلام والسعادة والابتسام. الرجلان، باللباس الأسود (أنور كونغو) والأزرق، قادا فرق الإعدام في الستينيات وقطعوا رؤوس الناس.

لقطة من المشهد الأول من فيلم قانون القتل الذي يتغنى فيه أنور كونغو بالسلام والسعادة والابتسام. الرجلان، باللباس الأسود (أنور كونغو) والأزرق، قادا فرق الإعدام في الستينيات وقطعوا رؤوس الناس.

شرح أوبنهايمر بعض المشاهد في فيلمه قائلًا إنه في البداية أراد استكشاف تفاخر القتلة المثير للدهشة بجرائمهم، فبدأ بإعادة تصوير للمجازر بشكل مبسط، “لكن عندما أدركنا نوع الفيلم الذي أراد أنور وأصدقاؤه إنتاجه حول الإبادة الجماعية، أصبحت إعادة التصوير أكثر تفصيلًا”، لذلك عرض على أنور كونغو وأصدقائه الفرصة لتصوير عمليات القتل، حيث سمح لهم بكتابة السيناريو وإخراج وبطولة المشاهد التي كانت تدور في ذهنهم عندما كانوا يقتلون الناس. قال أحد المجرمين شركاء أنور في أحد المشاهد: “جرائم الحرب يعرّفها المنتصرون.. أنا منتصر”.

واجه الفيلم ومخرجه انتقادات شديدة إعلامية وحقوقية، من بينها ما طرحه باري كولينز، المحاضر في القانون الدولي لحقوق الإنسان بجامعة “إيست لندن”.

ففي مقاله المنشور في “مجلة القانون والعدالة” الأكاديمية المتخصصة، بعنوان: “قانون القتل وقانون المتفرج“، تحدث كولينز عن بروز ظاهرة سينما حقوق الإنسان خلال السنوات العشرين الماضية كوسيلة مهمة للتفكير في العلاقة بين التراث المرئي وحقوق الإنسان والمناصرة. ناقش كولينز في مقاله الافتراضات المسبقة في هذه الظاهرة ودراسة ما تعنيه لكل من السينما ومفهوم حقوق الإنسان، ثم تناول فيلم قانون )أو فعل( القتل، The Act of Killing، الذي أثار كثيرًا من الأسئلة لظاهرة سينما حقوق الإنسان، وناقش كيف أن هذا الفيلم لا يمكن إدراجه بسهولة في إطار سينما حقوق الإنسان، ليس فقط بسبب الخلافات المحيطة بصنعه، ولكن أيضًا بسبب التحديات التي يطرحها حول فكرة المتفرج والسلطة.

هذا بعض ما ستقدمه سوريا الأسد للسوريين، تكريم المجرمين وتزوير التاريخ، واستبدال رواية “المنتصر” بالرواية الحقيقية، وهو ما رأيناه في خطاب أحمد الكزبري الافتتاحي للجنة الدستورية الذي قدم رواية مزورة، وفي تخاذل هادي البحرة ومعظم أعضاء اللجنة عن تسمية المجرمين ورواية حقيقة الأحداث في سوريا. خطابات أعضاء اللجنة الدستورية مسجلة في الأمم المتحدة وستكون أحد مصادر رواية الأحداث في سوريا فيما بعد، وسيشار إليها حين الحديث عما جرى في سوريا مستقبلًا، بحيث تكون رواية نظام الأسد المجرم هي “الحقيقة” التي لم تناقضها “المعارضة” و”المجتمع المدني السوري” في جنيف خريف عام 2019.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة