أربعة فصول لأجل سوريا

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

هكذا تبدو الحكاية بسيطة بكل تعقيداتها، رمزية بكل طغيانها المباشر على الذاكرة وعلى العين التي تشاهد الحدث اليومي، كل تلك التفاصيل التي تمتد من رقم الحضارات ولغاتها الأولى، إلى الرصاص القاتل  والمحرقة التي تأكل بلدًا اسمه سوريا، تُختصر بتكوين بصري فني ممتد على ثلاث عشرة دقيقة في فيلم الرسوم المتحركة “أربعة فصول من أجل سوريا” ، الذي عرض في نهاية نيسان 2019 في مدينة شتوتغارت الألمانية، والذي نال جائزة التسامح في مهرجان زيبرا للأفلام الشعرية 2019، قبل أيام في برلين.

ثلاث لغات تروي فصولًا أربعة لبلاد فيها من التناقضات اليوم ما في فصولها من تناقض، لغة شعرية تختزل بجملها القصيرة مفردات التكوين الجمعي للبلاد، ولغة موسيقية توفّر للشعر وللتأوهات الصوتية مكانًا مناسبًا بين ثنايا الصورة المزدحمة بالتفاصيل، ولغة بصرية تقرأ المكان والإنسان بازدحام الخطوط السوداء على الورق الأبيض، وبحركة منتظمة، تدخل بابًا فآخر، من عميق إلى أعمق، من الماء المحيط بالمدينة عبر سورها إلى أزقتها وبيوتها، من الهدوء إلى الصخب، من العمار إلى الدمار.. الحياة فالموت.

في الفصل الأول حيث بداية التكوين، إذ ولد هذا الصانع المحترف للحياة والجمال، “هي الماء حين قرّر أن يصير مدينة”، المدينة التي تعج بكل مكونات الحياة، والأبواب سهلة الفتح، والنوافذ أيضًا، لا بشر يجلسون على مقاعد هذه الأمكنة في تلك اللوحات، لكنهم حاضرون بكل صخبهم وحركتهم في مكوناتها، هناك من وضع إبريق الشاي على النار، وهنالك من فتح الكتاب وقلّب أوراقه، أو تركها للريح لتقلّبها، من زرع الكرمة، ومن فتح النافذة، وعلق اللوحات على الجدران.
في الفصل الثاني لا تمهّد الصورة للانتقال، هو انتقال مباشر واضح يعلنه صوت الشاعر إذ يقول “هكذا سترى نفسك وتصرخ قبل الأطفال: المَلَكُ عارٍ!”، لتغلق الأبواب التي كانت مفتوحة، ويظهر السياج المحاصر للمدينة، وتتعالى الصرخات، على وقع أقدام الجنود، وانكسار الكأس، ورنين الهاتف، وصورة الدكتاتور على التلفاز وفي الشارع، وطرق الباب. امتلأ المكان بالرايات، لقد أعلن الجميع القيامة في المكان، بينما أعلنت البنادق الانتقال إلى الفصل الثالث حيث الخراب، حيث “البنادق تصطادهم أغنية أغنية”، فصل من بطولة النار، التي تأكل كل ما تبدّى في فصل الحياة الأول. لقد اختلفت الألوان هنا، وباتت الخطوط أكثر فوضى، هناك من يجرّون بيتهم خارج المكان قبل أن تطحنه القذيفة، هناك من يضع صور الموتى في الحقيبة ويغادر. خراب تصل ذروة الرمزية القاسية فيه إلى حقائب تطير فوق المكان المتهالك بالنار والصراخ.

الفصل الرابع هو أكثر الفصول التي “لأجل سوريا”، الفصل الذي ما إن يبدو أنه صباح ما بعد المعركة، حيث يتاح للعصفور قليل من التغريد، حتى يتبدّى أنه فصل من مستقبل ما، لا نار فيه، تعود فيه الأصوات إلى الإيحاء بالجمال القادم، ويعود الكتاب إلى غرفته بعد أن فُتحت النافذة لاستقباله، والنار للمدافئ، وإبريق الشاي. شمس بدأت تنعكس على كل الأسطح المرسومة، لتبدو الألوان أكثر إشراقًا، وتفاؤلًا “بحاضرٍ يشيّدُ ما مضى” هذا ما يقوله الشاعر مختتمًا الفصول بأخيرها، أخيرها المنفصل عما سبقه من فصول، مختلف عنها بفرضيته، بكونه ليس ابن ما حصل، وإنما هو ابن متوقّع لما يحصل، هذا الفصل موجع أيضًا بأننا لم نعشه بعد، كما عشنا الفصول الثلاثة السابقة، لقد ذقنا الشاي والعنب في الفصل الأول، وصرخنا لأجل حريتنا في الثاني، وذقنا العصا والنار في الثالث، لكن الطعم الأخير ما زال فرضية علّها تكون.

كتلة بصرية متكاملة هذا الشريط القصير، الذي  أخرجه وارف أبو قبع، ورسم لوحاته الفنان التشكيلي كيفورك مراد، وكتب مقاطعه الشعرية وألقاها رائد وحش، وألف الموسيقى له كنان العظمة، وأدى  الثلاثي “زلال” الأصوات المرافقة فيه.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة