كهف لملائكة الرحمة

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

لا يتسع الكهف للجميع، لكنه ملجأ الجرحى والمصابين، هو البيئة الأكثر أمنًا لجراحهم، رطوبته وقلة الأوكسجين فيه، هي بالتأكيد أخف وطأة عليهم من طقس القصف المستمر بجميع أنواع الأسلحة، وقدر الموت الذي ينتظر الجريح إن لم يجد كهفًا يؤويه، كهف فيه نقطة طبية، استطاعت ابتكار الحلول لكل شيء، حواضن أطفال، غرفة عمليات، غرفة طوارئ، غرف رعاية، طاقم طبي يتنقل بين تلك الحجرات، حجرات توحي بأن أحدًا لا ينام هنا، كلهم يعملون بشكل دؤوب متواصل، ويحاولون من ذلك اليأس المتبدي على وجوههم، اختراع أمل ما، أمل يبعثه فيهم شفاء مصاب، واستخراج شظية من عنق طفل، وإيقاف بكاء رضيع، وطبخ كمية كافية من الأرز، يمكن أن تسد رمق الطاقم الطبي والمرضى.

“الكهف” فيلم سوري للمخرج فراس فياض، حاز مؤخرًا على جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو السينمائي في كندا، ورُشح لجوائز “أوسكار” إلى جانب فيلم “إلى سما” الذي يرصد المأساة بواقعها الشمالي (حلب)، والذي أيضًا يتخذ من العمل الطبي في الحرب محركًا لأحداثه، التي تبث فيها الطائرات الموت للجميع، وتتلقّفها أيادي الأطباء لتحاول إعادة الحياة إليها.

أماني هي طبيبة تدير مشفى الكهف في غوطة دمشق الشرقية، تلك المنطقة التي ذاقت من الحصار والقصف ما لا يمكن أن يتصوره عقل لم يعشْ في تلك المنطقة، تواجه أماني واقعًا قاسيًا مرًا، تبدو لحظات التمعّن فيه نادرة، فلا وقت للاكتئاب والتفكير، هنالك جرحى ينتظرون من يعالجهم. صراع أماني يتبدى مع كل ما فوق قشرة الأرض، صراع قد يكون الكهف هو المكان الأفضل لخوضه، فالموت فوق الأرض يقابله الهرب من الموت على الأقل في الكهف، والواقع الاجتماعي التقليدي الذي لا يقبل بسهولة إدارة المرأة لمنشأة طبية، وواقع الابتعاد عن الأهل، أولئك الذين يرسلون لها التسجيلات الصوتية تباعًا، التي يبدو أن لحظات سماعها لها واحدة من أقسى اللحظات عليها، هم في منطقة أخرى، يشتاقون لها، يخافون عليها، يدركون أنها تحت الخطر اليومي، ويدركون أنها أولًا وأخيرًا “امرأة”، تلك الكائن الذي ليس من السهولة بمكان أن يقاسي ما يقاسيه الرجال من وجهة نظرهم. لا يمكن لطبيبة في هذا الكهف أمام هذا الكم الهائل من الصراخ والدماء، أن تفكر أصلًا في تحدٍّ آخر، أمامها فقط تحدي الطبيب في وجه الصواريخ.

كأغلبية المواد التسجيلية التي خرجت من سوريا خلال السنوات الأخيرة، يلعب بطولة الفيلم، أبطال الواقع، من منقذين وأطباء، وأطفال وجرحى من جهة، ومصورين شجعان من جهة أخرى، لعل منهم جرحى كثيرين دخلوا إلى هذا المشفى الذي يصورونه بدمائهم التي صبغت عدساتهم كما صبغت وجوههم.

ليس من السهل أن تبتسم أماني، أو الممرضات والأطباء في هذا المكان، فالقصف يومي، ما يعني أن الموت يومي، إلا أن لحظات يمكن أن يعيشوها في ظل المأساة الجمعيّة تدفع أرواحهم نحو المزيد من العطاء، على الأقل تقنعهم بأنه لا يمكن الاستسلام، موسيقى كلاسيكية وباليه يروق للطبيب أن يسمعها وهو يجري العمليات، يداه مليئتان بالدماء لكنه يشير إلى أحد الممرضين بانتقاء قطعة موسيقية معينة يريد سماعها الآن، ويريد من الطاقم الإنصات لها. طفلة تبكي، تقوم الطبيبة بربط  ضفيرة شعرها والحديث عن أحلامها، تأخذها إلى عالم صافٍ تهرب به وبهذه الطفلة خارج هذا المكان للحظات.

قاسٍ جدًا أن تشعر طبيبة في ظل هذا الحصار، بقدرتها على تأمين وجبتها لليوم وغدًا، في ظل عدم قدرة بعض السكان بل ربما كلهم على تأمين ما هو متوفر لها بشكل بسيط، ذنب تشعره تجاه هؤلاء الأطفال، تبوح به للمرضات، بين حين وآخر، وتطلق أسئلتها الكبرى علَّ من يفهمها.. ماذا يمكننا أن نقدم؟ ما أقصى مساعدة يمكن صنعها الآن؟ لماذا تنجب العائلات أطفالًا في ظل هذه الظروف القاسية؟ أسئلة الحرب الصعبة، أسئلة في ذاكرة من نجا من هذه المأساة، مأساة على جبين العالم الذي دفن الغوطة في النهاية وأرسل بالناجين إلى أقدار جديدة، من نزوح وموت متجدد، أو إلى لجوء طريق طويل مجهول، تحاصره الذاكرة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة