tag icon ع ع ع

مراد عبد الجليل | زينب مصري

حول مائدة تخلو من وجبة رئيسة، وتحمل الأطباق ذاتها بشكل شبه يومي، يجتمع الزوجان متناسيين مذاق الطعام المتشابه يوميًا، وشاكرين نعمة امتلاكهما منزلًا، يغنيهما عن دفع إيجارات ويخفف عنهما “أحد أكثر الأعباء الاقتصادية ثقلًا على المواطن السوري الآن”.

“الناس فاتحة تمها للهوا” بهذا التعبير وصفت مريم (30 عامًا)، التي تعيش مع زوجها في مدينة حلب حيث تسيطر قوات النظام السوري، الواقع الاقتصادي المتردي الذي يعصف بعائلتها، كحال ملايين السوريين الذين باتوا على شفير الانهيار الاقتصادي.

فعلى الرغم من سنوات الحرب التسع، وتراكم آثارها على الاقتصاد السوري، وتضرر معظم القطاعات  وتآكل إجمالي الإنتاج، فإن الوضع الاقتصادي لم يصل إلى حال كما هو عليه اليوم، مع توقعات بمزيد من التردي.

وفي ظل الأزمات المتكررة التي تضرب الاقتصاد السوري، تحاول عنب بلدي في هذا التقرير تسليط الضوء على الواقع المعيشي للمواطنين، والأسباب التي تقف وراء تلك الأزمات، وآثار الصراع الأخير بين رجل الأعمال رامي مخلوف وشخصيات مقربة من رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على الاقتصاد السوري.

أحد أسواق مدينة دوما بريف دمشق – أيار 2020 (عنب بلدي)

السوريون “الفقراء”..

محاولات مضنية لمعيشة “في الحد الأدنى”

في محاولة لرصد آثار التدهور في قيمة الليرة السورية مؤخرًا، تواصلت عنب بلدي مع مجموعة من السكان في مناطق سيطرة النظام السوري، إحداهم غادرتها مؤخرًا وصولًا إلى تركيا، لكل منهم قصة، تشبه إلى حد كبير قصصًا أخرى لسوريين أتقنوا خلال الأعوام الماضية التكيف مع الأزمات، لكنهم أجمعوا أن ما آلت إليه الحالة المعيشية اليوم، لم يسبق لها مثيل.

مريم.. لا تطبخ ما تريد

تعيش مريم مع زوجها في منزلهما “المُلك” الذي لو لم يكن موجودًا لكانت حالتهما “يرثى لها”، كما تصف لعنب بلدي، فدخل زوجها الذي يعمل في أحد محلات بيع القهوة وسط مدينة حلب، 12 ألف ليرة سورية (سبعة دولارات بحسب سعر صرف الأسبوع الثالث من أيار الحالي)، وهو ما يؤمّن لهما بالكاد ربطة خبزة يومية، ورصيدًا للهاتف المحمول، ومصروف “أمبيرات” تُغطي غياب الكهرباء، وعددًا من مستلزمات المطبخ الأساسية التي “لا تسمن ولا تغني من جوع”.

تحدثت مريم (اسم مستعار) عن غياب “الطبخة” في منزلها، بسبب ارتفاع الأسعار، “لا أطبخ والأسعار في حلب لا توصف”، فربطة الخبز بـ 500 ليرة، وكيلو الجبن بألف، والبندورة بـ 600، ومع بعض المواد البسيطة الأخرى يكون الراتب الأسبوعي قد تلاشى.

تحاول العائلة تغطية مصاريفها وشراء المستلزمات الأساسية براتب لا يتجاوز 30 دولارًا شهريًا، حالها كحال كثير من العائلات السورية، التي باتت مع ارتفاع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار إلى 1700 ليرة، تصنف “فقيرة” وفقًا للدخل الذي تستطيع تأمينه بالقطع الأجنبي من خارج سوريا.

علي.. راتبه للسكن والباقي على المغتربين

لا يتجاوز راتب علي (اسم مستعار) 50 ألف ليرة سورية، وهو موظف في وزارة التربية بريف دمشق، متزوج ولديه أربع بنات.

يقول لعنب بلدي إن نصف راتبه يدفعه إيجار منزل في بلدة معربا بريف دمشق، حيث يسيطر النظام السوري، في حين يعتمد على العيش مما يحصله من عمله الثاني في أحد المستودعات بعد الضهر، إلى جانب ما يصله من حوالة مالية شهرية من أخيه في الخارج، ما يجعل مستواه المعيشي “أفضل ممن لا يملكون معيلًا إضافيًا”.

إذ يعيش “السوريون في الداخل يومًا بيوم ولا يمتلكون شيئًا من الرفاهية”، بحسب المحلل الاقتصادي جلال بكار، الذي اعتبر في إلى عنب بلدي أن معظم السوريين الموجودين داخل سوريا يمتلكون الأصول ولا يمتلكون النقد، فمن الممكن امتلاك العائلات السورية منازل ومحلات، لكن لا يمكن استثمارها لأن القدرة الشرائية شبه منعدمة، وما يدخل للسوريين من الخارج من مساعدات وحوالات مالية أكثر من ميزانية الدولة نفسها.

شيماء.. تحاول النجاة

شيماء حسن من سكان مدينة دمشق، وصلت منذ بضعة أيام فقط إلى تركيا (خلال أيار الحالي) هربًا من وضع “لا يحتمل”، قالت لعنب بلدي إن الحوالات المالية وفرق العملة هو ما يبقي كثيرًا من العائلات على قيد الحياة في سوريا.

إذ إن رواتب القطاع العام لا تكفي فردًا من العائلة لوحده، أما رواتب القطاع الخاص فتعد أفضل بقليل، لكن معظم الرواتب في القطاعين لا تتجاوز مئة دولار شهريًا، “فمن ليس لديه معيل خارج سوريا له الله”، بحسب شيماء، التي تصنف العائلات في الداخل السوري “فقيرة” أو “حتى تحت خط الفقر”، ما يجعل أغلبيتها “تعتمد في أفضل حالاتها على الخضار والبقوليات، وليس باستطاعتها شراء اللحوم أو الدجاج أو المعلبات”.

أما العائلات المتوسطة الدخل، التي تعتمد بجانب دخلها في سوريا على حوالات مالية من الخارج، فتستفيد من فرق العملة، و”تستطيع شراء الدجاج إلى جانب الخضار والبقوليات”.

امرأة تبيع الجبن لتكسب قوت يومها في مدينة دمشق – أيار 2020 (عدسة شاب دمشقي)

الاقتصاد في مهب حرب العائلة

مخلوف والأسد.. لمن الغلبة؟

من تصاعد وتيرة الحرب وتوقف عجلة الإنتاج، مرورًا بالعقوبات الاقتصادية، وصولًا إلى جائحة فيروس “كورونا” الأخيرة بانتظار دخول قانون “قيصر” حيز التطبيق مطلع حزيران المقبل، تتوالى الأزمات على الاقتصاد السوري وتعصف به، وتكاد تطبق على معيشة السوريين.

زادت من حدة تلك الأزمات الخلافات داخل بنية النظام السوري ودائرته الضيقة في العائلة الحاكمة، بين رجل الأعمال رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام، بشار الأسد، وبين تيار جديد تمثله أسماء الأسد، بحسب محللين اقتصاديين التقت بهم عنب بلدي، في محاولة لإعادة هيكلية جديدة للنظام الاقتصادي.

وتطرح تلك الأسباب تساؤلات عدة حول آثار الصراع الداخلي في العائلة الحاكمة على الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة، ومدى احتمالية أن يشهد مزيدًا من التراجع.

تياران يتصارعان

بدأ الصراع بأقطابه التي يمثلها الأسد وزوجته وطبقة رجال الأعمال المقربين منه، من قضية الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لبعض رجال الأعمال، وأبرزهم كان أيمن الجابر، الذي أسس ميليشيا “صقور الصحراء” و”مغاوير البحر”، وهو متزوج من ابنه كمال الأسد ابن عم رئيس النظام، بشار الأسد.

كما بدأ الحديث عن خلافات مع رامي مخلوف، وما تبعه ذلك من فرض حجز على أمواله في كانون الأول 2019، لتظهر هذه الخلافات إلى السطح مع ظهوره في أول تسجيل له على حسابه في “فيس بوك”، في 30 من نيسان الماضي، ما شكل مفاجأة للسوريين كونه كسر هالة السرية التي كانت تحيط بالعائلة منذ عقود، حين لم يكن يسمح بتصدير الخلافات العائلية إلى الإعلام.

ثلاثة تسجيلات ظهر بها مخلوف، تحدث بها عن ضغوطات من قبل شخصيات مقربة من دائرة القرار بهدف إزاحته عن المشهد الاقتصادي عبر التنازل عن أمواله في شركة “سيريتل”، تبعتها ردود فعل من قبل النظام السوري عبر حجز أمواله ومنعه من السفر والضغط على أذرعه الاقتصادية في سوريا من أجل التخلي عنه، مقابل تهديد ووعيد من قبل مخلوف بوقوع كارثة اقتصادية.

كل ذلك حمل رسائل ودلالات وعكس عمق الخلافات داخل النظام، لكن لا يمكن إرجاع الخلاف بين مخلوف والأسد إلى محاولة كل طرف الاستيلاء على أموال الآخر، وإنما هو صراع بين تيارين، بحسب ما وصفه المحلل الاقتصادي يونس الكريم، لعنب بلدي.

التيار الأول هو أسماء الأسد التي تمثل “النظام الأسدي” الجديد، القائم على العائلة المصغرة المؤلفة من بشار الأسد وعائلته، إضافة إلى أمراء الحرب الذين برزوا خلال السنوات الماضية، وبعض الأجهزة الأمنية والضباط ومكاتب المحاماة، وهؤلاء لا يملكون قوة اقتصادية على الأرض تستطيع مكافحة التيار الثاني، لذلك يتبعون سياسة مؤسسات الدولة القائمة على المحاسبة من باب الفساد والكسب غير المشروع، في حين يمثل مخلوف التيار الثاني الذي كوّنه حافظ الأسد من البعثيين وكثير من ضباط الجيش والأجهزة الأمنية.

ويقول الكريم، إن هاتين المنظومتين المختلفتين بدأتا الصراع فيما بينهما، بهدف الاستيلاء على الأموال وإعادة هيكلتها وتدويرها وضخها بالشكل الذي يناسب رؤيته الجديدة، ما سيؤدي إلى استخدام كل طرف ما أوتي من أسلحة فعالة.

التاجر المفلس

يرى الدكتور السوري في الاقتصاد والباحث الأول في وزارة الخزانة النيوزيلندية كرم شعار، أن السبب وراء الصراع هو رغبة النظام السوري في تحصيل أي مبالغ مالية من أي مصدر بعد حالة الإفلاس الاقتصادي التي وصل إليها، بدليل أن محاولة الحصول على الأموال لم تكن مرتبطة بمخلوف فحسب، وإنما كانت أيضًا بشركة “MTN”، ما يدل على أن “التاجر المفلس يفتش في دفاتره القديمة”.

وقال شعار لعنب بلدي، إن الخلفية الأساسية للموضوع، هي أن الأسد لديه قناعة أن مخلوف شخصية غير شعبية أبدًا و”كرته محروق عمليًا”، وعلى الرغم من وجود فئة ضيقة تدعم مخلوف كونها مستفيدة منه بشكل مباشر، فإنه ليس لديه أي دعم شعبي، وهذا يسهل على الأسد استخلاص مبالغ مالية منه، وعلى الرغم من أن هذه المبالغ قليلة (أقل من 200 مليون دولار أمريكي) مقارنة بالعجز في حجم الموازنة الذي بلغ آخر ثلاث سنوات نحو عشرة مليارات دولار، فإن “حجرة تسند جرة”.

ومن المؤشرات التي تؤكد حاجة النظام للدولار، بحسب شعار، رفع مجلس النقد والتسليف في مصرف سوريا المركزي أسعار الفائدة على الودائع بالقطع الأجنبي، لتصل إلى 5% بالنسبة لودائع الدولار، وهو معدل لا يمكن تحصيله في أي بلد في العالم، في حين أن أسعار الفائدة في العالم تشهد انخفاضًا بينما ترتفع في سوريا.

وأكد شعار أن هذا مؤشر على الاختناق بالقطع الأجنبي والبحث عن أي طريقة للحصول على الدولار، وإلا الوصول إلى مرحلة الانهيار، خاصة أن النظام السوري يمتلك فقط 100 إلى 200 مليون دولار بعد أن كان يملك سابقًا 17 مليارًا.

واعتبر شعار أن مخلوف هو حلقة ضمن مسلسل سابق ضد رجال الأعمال، شكلوا ثروات ضخمة في سنوات الحرب الماضية، أبرزهم أيمن الجابر، وهي سياسة لدى النظام بخلق طبقة جديدة من رجال الأعمال ذات أسماء نظيفة وقادرين على التهرب من العقوبات الاقتصادية قبل حرقها وإظهار طبقة أخرى، وهي سياسة مستمرة للنظام الذي لا يقبل بتداول السلطة مع الآخرين، وإبراز رجال أعمال يهدد بنية النظام لاحقًا.

ما نهاية الصراع؟

يعتقد الباحث كرم شعار أن الهجوم على مخلوف مكلف للطرفين، لكن الأسد على قناعة بأن بالهجوم على مخلوف تكلفته أقل، لكونه غير محبب شعبيًا، فالنظام لا يستمتع بإظهار الخلافات إلى العلن وإبراز صورة تفكك الصف الداخلي، لكن الوضع الاقتصادي الصعب وسحب ملايين الدولارات من مخلوف قد تسهم في مساندته.

أما المحلل الاقتصادي عبد الناصر جاسم، فاعتبر أن الصراع بين مخلوف والأسد “ليس صراعًا اقتصاديًا، ولا حتى حقيقيًا”، متسائلًا “لماذا ظهر هذا الصراع بهذا الوقت بالتحديد؟”.

وقال جاسم لعنب بلدي، إن رامي مخلوف هو المشرف على استثمارات وأعمال آل الأسد، وبالتالي لن يختلفا بهذه الطريقة، لأن “المافيات والعصابات” لا تلجأ في صراعاتها إلى القانون أو إلى منصات التواصل الاجتماعي، ومن وجهة نظره، فإن ما يسوّق للسوريين، وخاصة من هم في الداخل، عبر الإعلام هو خلق أزمة من أجل إدارة أزمة أكبر، إذ إن هناك أسبابًا غير اقتصادية مترتبة على هذا الصراع.

إيران.. “كورونا”.. الحوالات.. و”قصير”

أسباب إضافية للتراجع الاقتصادي

لا شك أن الصراع بين مخلوف والأسد ألقى بظلاله على الاقتصاد والليرة السورية، لكن الأزمة الاقتصادية الأخيرة وارتفاع سعر الصرف له أسباب وعوامل أخرى، بحسب الباحث الاقتصادي السوري كرم شعار، الذي أكد أنه في ظل تزامن العديد من العوامل يصعب تحديد نسبة تأثير كل منها على الليرة.

أكبر العوامل المؤثرة في سعر صرف الدولار مقابل الليرة كان العامل الإيراني، بحسب وجهة نظر شعار، إذ إن إيران تعتبر الداعم الأكبر للنظام السوري، وبعض التقديرات تتحدث عن 30 مليار دولار أمريكي حجم تدخل إيران، إضافة إلى أن تكاليف شحنات النفط الإيراني إلى سوريا تتجاوز 10.3 مليار دولار.

وكان عضو البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، قال في مقابلة مع  صحيفة “اعتماد أونلاين” الإيرانية، إن إيران أعطت ما بين 20 و30 مليار دولار لنظام بشار الأسد، وتجب استعادة هذه الأموال التي تعود إلى الشعب.

وقال شعار، إنه بعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران، والعقوبات الاقتصادية وصولًا إلى أزمة فيروس “كورونا” وأزمة النفط، وصلت إيران إلى مرحلة الاختناق المادي، ما دفعها إلى التضييق على الأسد و”حزب الله” في لبنان، ما يدل على أن الممول الأساسي للأسد قد اختفى، ما دفعه إلى البحث في دفاتره القديمة من أجل تحصيل الأموال خوفًا من حصول أي انهيار.

أما العامل الثاني للتدهور الاقتصادي الحالي في سوريا، فهو انخفاض الحوالات من خارج سوريا إلى داخلها، إذ إنه بحسب تقديرات البنك الدولي فإن 1.6 مليارات دولار كانت تصل سنويًا إلى الداخل السوري، وهذه الحوالات نضبت بسبب “كورونا”، بحسب شعار.

وفي حين لا يفصح المصرف المركزي السوري رسميًا عن قيمة الحوالات المالية، ذكرت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام في أيار 2017، أن قيمة الحوالات من خارج سوريا قد تصل إلى خمسة ملايين دولار يوميًا.

أما العامل الثالث فهو الوضع الداخلي وأزمة “كورونا” التي عصفت بالاقتصاد وأدت إلى توقف المعامل والمصانع، وهو ما دفع حكومة النظام إلى تخفيف إجراءات الوقاية التي كانت مفروضة منذ آذار الماضي، عبر إعادة افتتاح المهن التجارية والخدمية والمحلات كافة، الأمر الذي برره الأسد، في كلمة له أمام الفريق المعني بمواجهة الفيروس، في 4 من أيار الحالي، بأن “السلبيات زادت، وأصبح مع الوقت من الصعب معالجتها، لأنها وضعت المواطن بين حالتين: الجوع والفقر والعوز مقابل المرض”.

قانون “قيصر” أيضًا يؤثر في الاقتصاد السوري وقيمة الليرة، إذ  من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ مطلع حزيران المقبل، وهو ينص على معاقبة كل من يقدم الدعم للنظام السوري، ويلزم رئيس الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الدول الحليفة للأسد، لكن شعّار أكد أن عدم دخول القانون حيز التنفيذ يصعب إقرار الدور الذي يلعبه، لكن من المؤكد أنه سيخلق نوعًا من الرهاب عند بعض المستثمرين في سوريا، ما يدفعهم للانسحاب من السوق.

في ظل صراع الأسد- مخلوف..

هل تنتظر سوريا كارثة اقتصادية؟

“من سيدفع ثمن الصراع بين الأسد ومخلوف وما آثاره، وما مدى تفاقم الأسباب الأخرى المضرة بالاقتصاد” تساؤل يدور في ذهن كثير من السوريين المتضررين بشكل مباشر من التراجع المعيشي وارتفاع الأسعار، الذي بلغ حده الأقصى في ذروة التراشق بين مخلوف وحكومة النظام السوري.

فمخلوف يشكل الواجهة الاقتصادية للنظام، ويهيمن على قطاعات مختلفة من الاتصالات إلى البنوك والعقارات، وفي حال استمرار الصراع وعدم التوصل إلى اتفاق، سيقود ذلك إلى آثار بالغة الخطورة كما وصفها المحلل الاقتصادي يونس الكريم.

المواطن في الواجهة.. قطاعات عدة ستنهار

وبحسب وجهة نظر الكريم فإن النظام السوري يعيش في حالة يرثى لها وفق معدلات التضخم الركودي (ارتفاع الأسعار مع عدم توفر السلع)، وانتشار البطالة والفقر المدقع، إلى جانب انخفاض الناتج المحلي الإجمالي عن عام 2011 بنسبة 96%، و”بالتالي نحن أمام انهيار ليس بالمعنى الهندسي، وإنما هناك عملية تحول نحو اقتصاد الظل، أي أن الدولة تصبح بخدمة الأثرياء وهو ما يحصل الآن”.

كما ستكون له آثار على سعر صرف الدولار، وهو ما بدا واضحًا منذ ظهور مخلوف الأول، إذ ارتفع سعر الصرف من 1250 إلى حدود 1900 ليرة، فالنظام السوري خلال السنوات الماضية، كان يجيد المناورة الاقتصادية في أسعار السلع وتأمين الاحتياجات والتحكم بسعر الصرف، لكن الصراع الحالي بين تيار النظام الجديد والحرس الاقتصادي القديم أدى إلى عرقلة جهود النظام في ذلك.

أما المتضرر الأساسي من هذه الخلافات “المزعومة أو الحقيقية” فسيكون المواطن السوري، بحسب المحلل الاقتصادي عبد الناصر جاسم، لأن إشاعة جو من عدم الثقة نتيجة لها، بالإضافة إلى أسباب اقتصادية أخرى، ستضر قيمة الليرة بشكل كبير، ما سينعكس على مستوى ارتفاع الأسعار العام، وبالتالي سيضعف القوة الشرائية لدى المواطن.

ويقول جاسم إن المواطن السوري في الأصل “منهك ومتعب”، فقبل ثلاثة أشهر من الآن، كان يحتاج إلى 250 ألف ليرة سورية شهريًا حتى يبقى ضمن خط الأمن الغذائي فقط، ومنذ بداية العام الحالي حتى الآن، ومع تغير سعر صرف الدولار، لم تتغير قدراته ودخله كوحدات نقدية، وبالتالي المواطن من “سيدفع الثمن”، وسينعكس ذلك على مستوى معيشته، وسيسعى إلى التأقلم مع المستوى الجديد بطرق مختلفة وأدوات لا يمتلك منها إلا القليل.

كما سينعكس الخلاف على واقع الاستثمار في سوريا، إن كان محليًا أم عربيًا، إذ إن الصراع أفقد ثقة المستثمرين المحليين الذين بدؤوا بإيقاف استثماراتهم خوفًا من إصابتهم بنيران الحرب، وانقلاب الأسد عليهم لاحقًا عبر استخدام سلطته كون الحملة على مخلوف “غير قانونية”، من وجهة نظر يونس الكريم، الذي اعتبر أن شركاء مخلوف في كثير من القطاعات الاقتصادية باتوا يشعرون بالخوف من بطش الأسد وزوجته، ما قد يدفع إلى إيقاف نشاطاتهم أو هروبهم ريثما تتضح الصورة.

ويرى الكريم أن خوف أمراء الحرب، الذين ظهروا في السنوات الماضية، سيدفعهم إلى إخراج أموالهم من سوريا، وأما المضاربون الصغار فبدؤوا يحلمون بتحقيق أرباح، ودخلوا على الخط لشراء الدولار لمصلحة الكبار، نتيجة طلب المستثمرين وأمراء الحرب على الدولار، ما أدى إلى ارتفاع في سعر الصرف، وأما التاجر العادي فبدأ يحوّل الليرة السورية إلى دولار بهدف ضمان شراء السلع بسبب تغير الأسعار بشكل مستمر، كل ذلك قد يؤدي إلى انهيار منظومة الأسعار والقوة الشرائية والليرة السورية التي تمثل جوهر الاقتصاد.

إضافة إلى ذلك، سيؤدي الخلاف إلى عزوف المستثمرين الأجانب عن الدخول إلى السوق السورية لإعادة الإعمار والاستثمار كونها بيئة غير مهيأة وغير آمنة، ما قد يخلق إرباكًا لروسيا التي تحاول إقناع الدول للبدء بمرحلة الإعمار، وخاصة الدول الخليجية التي سوف تتمترس خلف قانون “قيصر” لعدم الدخول مع النظام بأي علاقة.

سوق لبيع الخضار في منطقة الفحامة بدمشق – أيار 2020 (عدسة شاب دمشقي)

هل تصدق تهديدات مخلوف؟

هدد رامي مخلوف بواقع اقتصادي متردٍّ وانهيار في ظهوره الثالث، في 17 من أيار الحالي، عندما حذر من انهيار شركة “سيريتل” نتيجة ممارسات حكومة النظام السوري، وبالتالي انهيار الاقتصاد السوري، كون الشركة تخدم “شريحة واسعة من المجتمع السوري”، بحسب تعبيره.

إذ يهيمن مخلوف على الاقتصاد السوري، حتى إن تقارير إعلامية روسية اعتبرت أنه يسيطر على 60% من اقتصاد سوريا، الأمر الذي وصفه دكتور الاقتصاد كرم شعار بأنه “مستحيل”، كون إسهامات مخلوف في الناتج القومي السوري والقطاعات الاقتصادية وأهمها الزراعة ضئيلة، معتقدًا أن إسهامات مخلوف في الاقتصاد السوري لا تتعدى 10% وهو رغم ذلك “رقم مرعب”.

وحول تهديد مخلوف بكارثة اقتصادية، اعتبر شعار أنها تهويل فقط من دوره وأهمية إسهاماته في الاقتصاد السوري، من أجل إقناع الأسد ورجاله بالكف عن ملاحقته، ووافقه في هذه النقطة الاقتصادي عبد الناصر جاسم، معتبرًا أن جزءًا من التهديدات التي أطلقها رامي مخلوف بكارثة اقتصادية فقط للاستهلاك الإعلامي، والجزء الآخر مرتبط بظروف سياسية دولية خارجية لها علاقة بقانون “قيصر” ودخوله حيز التنفيذ وتهديد الولايات المتحدة الأمريكية والدور الروسي المرتبك الآن، بالإضافة إلى ضعف الدور الإيراني.

ويرى جاسم أن ما وصل إليه الوضع الاقتصادي والمعيشي في سوريا هو كارثة، “ولا يمكن الحديث عن كارثة أبعد من الكارثة الاقتصادية الحالية مع وجود 83% من السوريين في سوريا تحت خط الفقر”، محملًا المسؤولية للنظام وشركائه وغياب إرادتهم في إيجاد حلول وسبل للتعامل مع هذه الأزمة، وعدم التفكير بعقلية الدول على الإطلاق.

لا حل مع العقوبات

بات مستقبل الاقتصاد السوري واحتمالية انهياره الحديث اليومي للسوريين والمحللين، لكن حتى الآن لا يوجد تعريف واضح ومتفق عليه في الاقتصاد حول الانهيار، بحسب الباحث كرم شعار، لذلك يصعب توقع حصول انهيار وإن كانت فرصه واحتمالاته تتزايد، مؤكدًا أن ما يمر به الاقتصاد السوري اليوم ليس انهيارًا وإنما يطلق عليه “تردٍّ اقتصادي”، وقد تسوء الأمور أكثر في المستقبل القريب.

وفي إشارة إلى الحلول، يعتقد شعار أنه “لا مخرج مع العقوبات، خصوصًا مع دخول قانون قيصر مرحلة التنفيذ، فالنظام السوري مخنوق إلى درجة لا يستطيع فيها اتخاذ أي حلول جذرية مع وجود العقوبات سوى حلول ترقيعية”.

ومن هذه الحلول الترقيعية التي يعمل عليها، هو تقصير سلاسل التوريد، بحيث تصبح المادة من المنتج إلى المستهلك مباشرة، وهذا الأمر قد يسهم في تخفيض الأسعار لكن ليس بالشكل الكبير، إضافة إلى حل الأسواق الشعبية التي سمحت بها حكومة النظام بعدما كانت تحاربها سابقًا، بحسب شعار.

وكان الأسد طلب من مؤسسة التجارة في حكومة النظام العمل على وضع قوانين عاجلة لمعاقبة كل شخص يحتكر المواد بهدف رفع سعرها، كما طلب منها أن تكون اللاعب الأساسي في السوق، عبر كسر حلقات الوساطة بين المزارع والمستهلك.

أما الباحث الاقتصادي يونس الكريم، فيرى أن أول الحلول أمام النظام إجراء مصالحة مع مخلوف وإعادة هيكلة النظام القديم والجديد للوصول إلى رؤية جديدة، يستطيع بها مواجهة الحلفاء (إيران وروسيا) وتغولهم في الاقتصاد، ويستطيع إعادة لملمة الأوراق الخارجية وعلاقته، سواء مع الخليج الذي يعتبر البيت الخلفي لدعم الأسد، وإعادة تفعيل العلاقات الخارجية، معتبرًا أن هذا الحل نجح خلال السنوات الماضية، واستطاع تعويم الأسد دون أن تسحب الشرعية منه بشكل رسمي.

English version of the article

مقالات متعلقة