“بحرنا”.. اللاجئ وتحدّي الغرق

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

أفلام سورية عديدة قصيرة وطويلة، أخرجت من علاقة السوري اللاجئ، أو المقبل على اللجوء، بالبحر، قصصًا إنسانية شتى، رأت في البحر بعدًا ربما لم يكن سابقًا مكرّسًا بهذا الشكل، فالبحر الذي يأخذ رمزيته في العمق والسحر، في الطبيعة، في الطعم المالح، هو تحدٍّ يواجهه سوري ليس بالضرورة أن يكون مجيدًا للسباحة، يواجهه حيث لا مفر سواه، لا يمكن النظر إلى الخلف في خضم هذه المواجهة، ولا خلاص سوى بتجاوز الحاجز الأخير نحو الحياة، هو البحر الذي عبره مئات الآلاف من الشواطئ التركية إلى الأوروبية، بمراكب مختلفة، بعضها لم يقوَ على الوصول، فأغرق الركّاب في العمق، ليكون أيضًا رمز المقبرة واحدًا من تلك الرموز. هذا التحدي كان موضوع فيلم “بحرنا” للمخرجة السورية الأمريكية رنا كزكز بالشراكة مع السوري الأمريكي أنس خلف، الذي حضر قبل أشهر ضمن فعاليات مهرجان “نورنبرغ الدولي لحقوق الإنسان” في ألمانيا، إلى جانب الفيلم السوري ذائع الصيت “إلى سما” لصاحبته وعد الخطيب.

“بحرنا” قدر يحاول رجل سوري مواجهته مع طفلته التي لا تجيد السباحة، فيرميها في الماء قبالة الشاطئ، ويتركها تقارع المياه وتحاول النجاة، ليأتي أحد ما فينقذها، أو لينقذها هو بيديه، ويعيد الكرة فيرميها مجددًا، تلك الطفلة التي لا تعرف تمامًا طبيعة هذا الاختبار، والتي ستكره والداها الذي سيظهر بهيئة من يريد التخلص منها برميها في البحر، وتكره المياه المالحة التي باتت تشكل رعبًا لها، وهي تعود إليها مرمية بعقاب مكرر، ربما لن يكون الخلاص منه إلا بالموت أو تعلّم السباحة.

بـ14 دقيقة، تناقش صاحبة الفيلم هذا الصراع القدري بين السوري والحياة، وهذا الحاجز الكبير بينهما، الحاجز القادر على ابتلاع كل من يعبر منه. عبور البحر في الفيلم، ليس مجرد أفراد ينتظرون المهرّب الذي سيتيح لهم الركوب بمركبه القديم المهترئ، أو بالقارب المطاطي للعبور نحو أوروبا، إنما هو الخوف على الأطفال وعلى أفراد العائلة من أن يتم فقدان أحدهم في الماء، لأنه لا يجيد السباحة. إن إجادة السباحة هنا تتجاوز كونها عادة أو رياضة يمكن أن يكتسبها الإنسان، هي قدر محتوم على السوري خوضه، عليه أن يكون سبّاحًا ماهرًا، فالمسافات التي قد تتطلب منه عبورها ليست قصيرة، وقد لا يجد يدًا تعينه على النجاة.

لا حوار في الفيلم، عيون الأب والابنة تحكي القصة كلها، طالما أنها تنظر إلى المجهول، وتتحدّى ما يمكن أن يكون صراعها الأخير. يكفي أن ينظر الأب بعيون ابنته، فيصعب عليه أن يترجم ما بداخله لها، ابنته الصغيرة التي من المفترض أن يكون مرافقًا لها إلى حديقة جميلة، يرميها فوق الألعاب الإسفنجية، فتقفز فرحًا، أو يحرك الأرجوحة فيها فتطير. المحبة في “بحرنا” هي أيضًا تحدٍّ في نظرات الأب، هل يمكن أن يحبها لدرجة أن يرميها في البحر فتسبح لتقدر على مواجهة مصيرها، إن غرق المركب؟ هل هذه القسوة مباحة في ظرف قاسٍ كذلك الذي يتعرض له آلاف السوريين؟ وكم من أب أو أم أُجبروا على نموذج من هذه التحديات، كي لا يخسروا أبناءهم؟

تتفوّق الكاميرا على مجمل المكونات في الفيلم، هو فيلم كاميرا بامتياز، عليها أن ترصد الحركة فوق المياه وتحتها، وأن تكون دقيقة في التقاط التفاصيل التي تصوغ الحكاية بأكملها. تدور حول وجه الأب، وترى الطفلة وهي تغرق من مختلف الزوايا، ترصد الفقاعات الخارجة من فمها، وتظهر الغرق بهيئته المرعبة القاتلة، ترى البحر من العمق معاكسًا لنمطيته كمساحة زرقاء هادئة جميلة، تغوص فيها الشمس بهدوء وألوان صافية. إنه الموت الذي عليك الصراع معه، حين لا مكان للحياة إلا بعبوره.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة