tag icon ع ع ع

صالح ملص | لؤي رحيباني | سكينة المهدي

بعد طول انتظار داخل طابور، وصل المواطنون إلى باب أحد مراكز التموين التابعة لمديرية المواصلات الطرقية في مدينة دمشق، من أجل الحصول على حصصهم من المواد الغذائية الحكومية، وقبل أن ينتهي الدوام الرسمي، شرع الموظفون بإقفال باب المركز لتناول وجباتهم، ليغضب المواطنون ويتطور الموقف إلى تلاسن بينهم وبين إحدى الموظفات العاملات في المديرية.

وثّق هذه الحادثة مقطع مسجّل انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتصاعد الحديث بين السوريين عن سوء معاملة الموظفة مع المراجعين، واستوجب ذلك رد الموظفة عبر إذاعة “شام إف إم” المحلية، إذ قالت إنها لم تقصد الإساءة التي وصلت إلى الناس.

وضمن تعليقات مستخدمي وسائل التواصل، تمت الإشارة إلى أن هذه الحادثة لا تمثل مشكلة لحالة فردية من قبل موظف، إنما هي ظاهرة يعاني منها أغلبية من لديهم تجربة إتمام معاملة ما في دائرة حكومية سورية، وقد أطلقوا عليها ظاهرة “المدام فاتن”، نسبة إلى الموظفة التي طردت المراجعين بنبرة وعيد وتحدٍّ: “روح لوين ما بدك وقلن المدام فاتن!”.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع محامين سوريين ومختصين في مجال التنمية الوظيفية أسباب تعامل الموظفين السيئ مع المراجعين داخل المؤسسات الحكومية في سوريا، وطلب معظمهم، بسبب إقامتهم في مدينة دمشق، ألا تُنشر أسماؤهم.

“نفَس الحكومة طويل”

روتين المعاملات الحكومية يختبر صبر المراجعين

“يقول المثل، نفَس الحكومة طويل، لذلك تسير أغلب المعاملات في الدوائر الحكومية على ظهر سلحفاة عجوز، وهذا ما أعيشه في كل مرة أجدد فيه عقد إيجار منزلي، خصوصًا في السنوات الأخيرة، فالتواقيع زادت تعقيدًا، ومعاملة الموظفين زادت سوءًا”.

يلجأ “أبو أيمن” (46 عامًا) إلى استخدام الأمثال الشعبية في حديثه للتعبير عن معاناته السنوية في تجديد عقد إيجار بيته في منطقة المزة بالعاصمة دمشق، ويشكو لعنب بلدي، عبر مراسلة إلكترونية، تجاربه مع الموظفين الذين “يتعمدون تأخير المعاملة حتى ولو كانت وفق الأصول وتخلو من أي نقص في الأوراق المطلوبة”.

وفي بعض الأوقات يتطلب من الفرد أن يتمتع بصحة بدنية جيدة و”صبر أيوب” لغرض الدخول في “متاهة طلبات الموظفين”، كي يُنجز المراجع في الدوائر الحكومية معاملته، بحسب تعبير “أبو أيمن” (الذي تتحفظ عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية).

يخشى “أبو أيمن” من اقتراب موعد تجديد عقد إيجار بيته كون هذه العملية تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة من الجهات المختصة، وهو ما أضاف إليه أعباء معنوية ومالية، لأن الحصول على تلك الموافقة قد يستعرق مدة زمنية طويلة.

وسّعت الموافقة الأمنية باب الفساد والبيروقراطية الإدارية في الدوائر الرسمية ضمن مناطق سيطرة النظام السوري، ففي آب 2015، أصدرت الحكومة تعميمًا برقم “4554” إلى وزارة الإدارة المحلية، يقضي بإضافة البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحال إلى القضايا التي تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة من الجهات المختصة، وباتت الموافقة الأمنية مطلوبة في معظم مناحي حياة المواطنين الخاصة منها والعامة.

ومن أسباب البيروقراطية الإدارية في المعاملات الحكومية السورية، رغبة الموظف في تعقيد سير المعاملة من أجل كسب مبالغ على شكل رشى من جيوب المراجعين، وهذا ما يدخل في باب الفساد الإداري الحكومي، بحسب تجربة عبد الله زكريا (25 عامًا) في إتمامه معاملة تأجيل خدمته الإلزامية العسكرية في مدينة دمشق.

عبد الله زكريا قال لعنب بلدي خلال مراسلة إلكترونية، إن معاملته كانت تحتاج إلى توقيع من ضابط موظف في شعبة التجنيد، فطلب منه الموظف شراء ورق أبيض من المكتبة في الطابق العلوي من المبنى، ليعلم عبد الله بعد إتمام المعاملة أن الموظف كان “يتفق مع صاحب المكتبة على سعر الورق الأبيض مسبقًا، ثم يعيده إليه ويأخذ ثمن الورق منه”، لتكون عملية شراء الورق الأبيض أشبه بـ“غسيل الأموال”، إذ يتخوف الضابط من أن يشتكي أحد الموظفين عليه بتهمة تقاضي رشوة، فيلجأ الموظف إلى هذه العملية ليحصل على المال دون أن يطلبه من المراجعين مباشرة.

في أيلول عام 2016، قال رئيس غرفة الجنايات في “محكمة النقض” السورية، أحمد البكري، لموقع “الاقتصادي” المحلي، إن “نسبة الرشى ازدادت خلال الأزمة عشرة أضعاف عما كانت عليه سابقًا”، معتبرًا أن السبب هو ضعف الرقابة في بعض المناطق.

ولا ينسى عبد الله زكريا في حديثه عن تجاربه “السيئة” مع الموظفين الحكوميين معاملة موظفي شؤون الطلاب في جامعة “البعث” بمدينة حمص، حيث كان يدرس في كلية الهندسة، إذ قال إن “الطلاب كانوا يتكاسلون لإتمام معاملاتهم في الجامعة كي يتحاشوا التعامل مع موظفي شؤون الطلبة، إذ كانت المعاملة قائمة على الإساءة للطلاب بمختلف المراحل الجامعية”، بالإضافة إلى التنمر عليهم بشكل دائم.

وصنفت “منظمة الشفافية الدولية” ومقرها برلين، في تقريرها الصادر في كانون الثاني عام 2019، سوريا في المرتبة 178 برصيد 13 نقطة، وبهذا تكون سوريا في المركز قبل الأخير، في قائمة التقرير السنوي لمؤشرات الفساد الذي تصدره المنظمة سنويًا، والذي يرصد حالتي الشفافية والفساد في 180 دولة في العالم.

ولا توجد في سوريا إحصائيات رسمية منتظمة يمكن الاستناد إليها في رسم صورة محددة المعالم للفساد في مؤسسات الدولة.

وتواصلت عنب بلدي مع خمسة أشخاص آخرين من داخل سوريا تحدثوا إليها عن تجاربهم السيئة التي عاشوها حين رغبوا بإتمام معاملاتهم الحكومية في سوريا، وحتى لو لم تكن لدى مواطن ما تجربة سيئة خاضها في دائرة حكومية سورية، فقد يعلم السوريون مستوى المعاملة من قبل موظفي الدولة من خلال محاولة الدراما السورية تسليط الضوء على هذه الظاهرة، في السلسلتين الشهيرتين “مرايا” و”بقعة ضوء”.

المصرف العقاري في مركز مدينة دمشق- 4 من حزيران 2020 (عدسة شاب دمشقي)

كيف تطور مفهوم الوظيفة العامة؟

الوظيفة العامة كانت أمرًا استثنائيًا في حياة المواطنين، لأن الدولة كانت تتسم بطابع السلطة الذي يسمح لها بأن تتدخل في حياة المواطنين بأقل قدر ممكن وفي مجالات محددة، هي الأمن الخارجي ويكمن في الدفاع عن حدود الدولة، والأمن الداخلي ويكمن في أجهزة الشرطة والقضاء، وفقًا للفقيه القانوني سليمان الطماوي في كتابه “الوجيز في القانون الإداري“.

أما في غير هذه المجالات فقد كان على الأفراد أن يشبعوا حاجتهم بأنفسهم، وفي هذه الفترات كان الموظفون قلة، وتربطهم بالحاكم، أيًا كانت تسميته أو أيًا كان نظام الحكم في الدولة، صلات وثيقة تقوم على النسب أو الانتماء الطبقي أو الحزبي.

وانقلبت هذه الأوضاع في الفترة التي صارت فيها الوظيفة العامة حقًا للمواطنين، تنص عليها الدساتير، وجاءت الأفكار الاشتراكية فألغت تمامًا القيود التي كانت مفروضة على الدولة في ارتياد بعض المجالات وأهمها المجال الاقتصادي، بحيث لم يبقَ هناك مجال واحد لا تستطيع الدولة أن تتدخل فيه، ولم يعد هناك أي وجود لفكرة أن الدولة هي “رجل الأمن” فقط، بل صارت مطالبة بأن تُشرف على المواطن وترعاه في كل وقت.

وبموجب الدستور السوري الصادر عام 2012، نصت المادة رقم “26” منه على أن “الخدمة العامة تكليف وشرف، غايتها تحقيق المصلحة العامة وخدمة الشعب”.

والمواطنون، وفقًا لتلك المادة، متساوون في تولي وظائف الخدمة العامة، ويحدد القانون شروط توليها وحقوق وواجبات المكلفين بها.

وبموجب النص الدستوري السوري، يجب على الحكومة الإشراف على تسيير حاجات المواطنين وتأمين ما يساعد تطوير خدمتهم ضمن الدوائر الحكومية.

ويعتبر كل شخص يُعهد إليه بعمل دائم في خدمة أحد المرافق العامة التي تتولى الدولة إدارتها، ويتولى منصبًا دائمًا في نطاق التنظيم الإداري للمرفق، ويخضع للقانون الأساسي للموظفين بشروط تعيينه وواجبات العمل وحقوقه والتأديب ونهاية الخدمة، موظفًا عامًا لدى الدولة، وفقًا لشرح الطماوي.

دائرة الشؤون المدنية في دمشق (سانا)

“ذهنية زبائنية” لدى الموظف تجاه المُراجع ودوافع اقتصادية

ما أسباب المعاملة السيئة

يندرج تنمر الموظف تجاه المُراجعين داخل الدوائر الحكومية تحت “الذهنية الزبائنية” التي يتمتع بها الموظف، وفق وصف محامٍ سوري مقيم في مدينة دمشق لعنب بلدي (نتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية).

وهذه “الذهنية” تعني أن المواطن لا يعدو عن كونه “زبونًا” بنظر الموظف، ليكسب الأخير منه بعض المال الذي يعوضه عن تدني أجره.

ويعتبر المحامون من أكثر الأشخاص على تماس دائم مع الموظف الحكومي، كون صلب عملهم يكمن في تيسير قضايا موكليهم داخل أقبية المحاكم والدوائر الرسمية للدولة.

وفي عام 2015، كانت الرواتب في القطاع الحكومي هي المصدر الرئيس لدخل 58% من السوريين، وفي عام 2013 كانت مصدر الدخل لـ68%، وفقًا لتقرير صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة “يونسكو”، ويمكن أن يُعزى ذلك الانخفاض إلى إغلاق العديد من المؤسسات الكثيفة العمالة، بسبب النزاع في المناطق التي تقع فيها تلك المؤسسات، وازدادت نسبة الأسر التي تعتمد على الدخل الذي تجنيه بعملها الخاص من 26% إلى 33.7% خلال نفس الفترة.

وتشكل الحاجة الاقتصادية للموظف أبرز العوامل التي تجعله يمارس سلوكيات غير لائقة في أثناء تأدية وظيفته مع المُراجع، أو يرتكب جرائم وظيفية كالرشوة، فهبوط الليرة السورية، منذ مطلع أيار الماضي، إلى مستوى لم تشهده في تاريخها، تأثرت من خلاله الأسواق السورية بشكل أو بآخر جراء تلك الانتكاسات المتتالية لعملتها، ما أدى إلى ارتفاع جديد بالأسعار الخاصة بالمواد الغذائية الأساسية، وتردي الوضع المعيشي المتأزم أصلًا في مناطق سيطرة النظام السوري.

وأدت الحاجة الاقتصادية هذه إلى أن معظم الموظفين العاملين في حكومة النظام السوري صاروا غير قادرين على العيش من رواتبهم الأساسية، وبالتالي سيلجؤون إلى سُبل أخرى لسد تلك الحاجة، ما أدى إلى استغلال المُراجعين وعدم تلبية طلباتهم إلا في حال قدموا الرشى للموظف الحكومي.

ويبلغ الحد الأدنى للأجور في سوريا 37600 ليرة سورية (15 دولارًا)، بينما يصل الحد المتوسط للأجور إلى 149 ألف ليرة سورية (59 دولارًا).

وبحسب تقرير نشرته الأمم المتحدة، في تموز الماضي، فقد بلغ سعر السلة الغذائية في سوريا، في حزيران الماضي، 84 ألف ليرة سورية (33 دولارًا)، بزيادة 48% مقارنة بشهر أيار الماضي، في حين ارتفع متوسط ​​سعر سلة الغذاء بنسبة 110%، منذ 2019.

بينما اتسعت الفجوة بين أعلى وأدنى متوسط ​​لسعر سلة الغذاء، بنسبة 41% من 22 ألف ليرة سورية في أيار الماضي إلى أكثر من 31 ألف ليرة سورية في حزيران الماضي.

“ترهل إداري” وسوء تنظيم

قد يسهم الموظف في إطالة انتظار المُراجعين وتعطيل أشغالهم، من خلال تمرير أحد معارفه على طابور الانتظار، وفق ما ذكره المحامي، أو شخص فرض نفسه على الموظف من باب المحسوبيات والواسطة، وهو ما يخلق رد فعل سلبيًا من المراجعين الآخرين تجاه دولته.

ويكمن سبب أغلب الملاسنات بين الموظف والمُراجع أو حتى التنمر الذي يطلقه الموظف تجاه المُراجع بعدم تنظيم ووضوح واجبات وحقوق كلا الطرفين، وهذا يستدعي تطوير النظام الوظيفي بكامله، وهناك قواعد قانونية وأحكام إدارية تُنظم وتفرض وجود رقابة إدارية في الدوائر الحكومية إلا أن الواقع مغاير لذلك تمامًا.

و”ترهل الإدارة” والفساد الحكومي وانعدام الرقابة، بالإضافة إلى سيطرة الحزب الحاكم على دوائر الدولة، يسبب ذلك كله ازدواج القرار الإداري، حيث يكون للدائرة الحكومية رأسان، رأس إداري ورأس حزبي (كثنائية المحافظ وأمين الفرع)، وذلك من أهم أسباب تفشي ظاهرة البيروقراطية في الدوائر الرسمية السورية، بحسب ما قاله المحامي.

وتسيطر البيروقراطية الإدارية على أغلب المعاملات الحكومية في سوريا، وهي عامل مهم في نفور العلاقة بين الموظف والمُراجع، بحسب ما قاله مدير منظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، لعنب بلدي.

وعمليًا ظاهرة البيروقراطية لا ترتبط بالأنظمة الديكتاتورية فقط، وإن كانت أكثر انتشارًا في هذه الأنظمة ذاتها نظريًا، إلا أن الدول المتقدمة تعاني أيضًا من مشكلة البيروقراطية، لكنها تحاول أن تطور نظمها وقوانينها الإدارية كي توفر أكثر راحة لمراجعي الدوائر الرسمية.

وتستفيد الأنظمة الديكتاتورية من ظاهرة البيروقراطية، بحسب ما قاله الحمد، من خلال جعل الناس منشغلين بعيدًا عن الشؤون السياسية والتغيير الديمقراطي للسلطة وحقوق الإنسان، وفي سوريا هناك تأخير كبير على معاملات الناس كمعاملات نقل الملكية والإرث والزواج.

ويعتبر الاستبداد أساس الفساد، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وكلما تدنت درجة حرية المحاسبة في الدولة زاد فيها الفساد والمحسوبية والبيروقراطية بالضرورة.

موظفون سوريون ينتظرون الحصول على طوابع للحصول على منحة إيقاف مؤسسات الدولة بسبب انتشار “كورونا المستجد” في دمشق- أيار 2020 (عدسة شاب دمشقي)

قوانين للمراقبة الإدارية غير مطبقة

قواعد تأديب الموظف غائبة في سياسات الإدارة العامة

يعتبر ركن الوظيفة العامة من الأساسات التي يُبنى عليها تطور الدولة ومدى أمانتها في احترام حياة وكرامة المواطن، والوظيفة الإدارية العامة تحتاج إلى موظفين مختصين يقومون بعبء هذه الوظيفة بكل أمانة وشرف لتحقيق المصلحة العامة.

ومن هذا المنطلق يعد الموظف العام من أهم مكونات الوظيفة العامة، لأنه من المفترض نظريًا تحقيق الهدف المنشود من وجوده في هذه الوظيفة، وهي تسيير مصالح الناس، بحسب ما ذكرته مختصة في التنمية الوظيفية والحوكمة لعنب بلدي (رفضت ذكر اسمها لأسباب أمنية)، ولذلك يتم تسليح الموظف العام بامتيازات واسعة يستلزمها لتنفيذ واجباته، بالإضافة إلى توفير البيئة اللازمة التي تضمن له العمل بحرية واستقلال ضمن المنظومة الإدارية والقانونية التي تحكم الوظيفة العامة.

والموارد البشرية التي تعمل من أجل ضمان استمرارية الوظيفة العامة أمام المواطنين، يجب أن تكون من تخصصات متنوعة وكافية وفاعلة، فبالنهاية الموارد البشرية (الموظفون) يعملون باسم الدولة ولمصلحتها، وهم محط أنظار الجميع، وتصرفاتهم العامة تؤثر على سمعة الدائرة أو الهيئة التي يعملون فيها، وفق ما قالته مختصة التنمية الوظيفية المقيمة في مدينة دمشق.

ومن أهم الخصائص التي يجب أن تكون في الموظف العام النزاهة وحسن السلوك، ومقتضى هذا الشرط هو أن يكون المرشح لتولي الوظيفة العامة بعيدًا عن الشبهات التي تثير الشك لدى الآخرين بأخلاق ممثلي الدولة في الوظيفة العامة، وتؤدي إلى الإخلال بنزاهة الدولة ذاتها.

لكن في سوريا ومنذ بداية الثمانينيات، لم تُعتمد هذه الشروط في أغلب الأوقات حين يتم تعيين شخص في الوظيفة العامة، إنما بقيت في الكتب الأكاديمية لتدرس في كليات الإدارة العامة دون أي تطبيق ملموس في الحياة العملية، بحسب ما ذكرته المختصة.

تبدلت الشروط لتعيين الأفراد في الوظيفة العامة في سوريا حتى صارت تكمن في “الولاء لسياسة الدولة، وعدم ممارسة أي نشاط سياسي يعارض آراء الدولة في الحكم أو إبداء أي آراء في الشأن العام”، وفق ما ذكرته المختصة في التنمية الوظيفية.

ويعتبر معدل الضمانات ضد الفساد الحكومي داخل سوريا صفرًا من أربعة، بحسب مؤشر الحريات العامة في العالم الخاص بمنظمة “Freedom House“.

وذكر تقرير المنظمة الصادر في عام 2019، أن المؤسسات في حكومة النظام السوري قامت بانتظام بتوزيع المحسوبية على شكل موارد عامة، وتنفيذ سياسات لمصلحة الصناعات والشركات المفضلة، كما تم منح العقود الحكومية والصفقات التجارية لحلفاء أجانب مثل روسيا وإيران، حتى خدمات الدولة الأساسية والمساعدات الإنسانية يتم تقديمها أو حجبها بناء على ولاء المستفيدين السياسي الواضح للنظام السوري، وفقًا للتقرير.

وعملت الحكومة بأدنى حد من الشفافية والمساءلة العامة في دوائرها الرسمية، وقد ساءت الظروف خلال السنوات التسع الأخيرة، وفق التقرير، وسط صعود نفوذ فصائل مسلحة موالية  للنظام، غالبًا ما تعمل على استغلال مصالح السكان في المناطق التي تسيطر عليها، بطلب رشى لسماحها بتسيير معاملاتهم الحكومية، من دون وجود أي رقابة أو محاسبة قضائية لذلك.

ويتمتع المسؤولون الحكوميون في مناطق سيطرة النظام السوري بسلطة تقديرية واسعة لحجب المعلومات الحكومية، وهم غير ملزمين بالكشف عن أصولهم المالية، بالتزامن مع قمع مجموعات المجتمع المدني المستقلة ووسائل الإعلام بقسوة، ولا يمكنها التأثير أو إلقاء الضوء على سياسات الدولة خلال عمل المؤسسات الحكومية.

ويوجد نظام تأديبي مرتبط بالنظام الوظيفي ويعد جزءًا مهمًا منه، بحسب المختصة في التنمية الوظيفية، فلا يتصور وجود تنظيم وظيفي من دون أن يقترن برقابة على الموظف العام إذا ما حاد عما يفرضه عليه النظام الإداري العام من واجبات أو من قواعد سلوكية.

والنظام التأديبي يحمي الوظيفة العامة من العبث من جانب الموظف العام من دون أن يؤثر في ما توفره النظم القانونية الأخرى من حماية.

ويهدف النظام التأديبي الخاص بالموظف العام إلى ضرورة التنسيق والتقارب بين الأنشطة الفردية للموظفين العموميين، بهدف إقامة نظام من العدالة والطمأنينة في الوظيفة العامة يستند إلى الروابط المشروعة والمتكافئة لأعضائها، وفقًا للمختصة في التنمية الوظيفية، بالإضافة إلى ضرورة الضبط، بمعنى ممارسة كل الإجراءات التي تستهدف إقامة دعائم النظام في مجال الوظيفة العامة وتثبيتها، وذلك بتقرير إجراءات وقائية تستهدف المحافظة عليه وحمايته من أي خلل.

ويحدد قانون العاملين الأساسي في الدولة السورية رقم “50” لعام 2004، أركان الجريمة المسلكية في الوظيفة العامة والقواعد التي تحكم التأديب الإداري العام، ويضمن هذا القانون في مواده التحقيق في كل جريمة مسلكية يرتكبها الموظف العام تجاه وظيفته العامة أو تجاه المراجعين أو تجاه زملائه في أثناء الوظيفة.

ويقصد بالجزاء التأديبي الوسيلة الإدارية العامة في ردع مرتكبي المخالفات التأديبية داخل المجتمع الوظيفي وإصلاحهم بقصد الحفاظ على النظام فيه.

ولا تستهدف العقوبة التأديبية إيلام الموظف العام معنويًا أو ماديًا، وفقًا للمختصة في التنمية الوظيفية، إنما تستهدف الإصلاح والتقويم في سبيل تمكين المؤسسات الحكومية والمرافق العامة بجميع أنواعها من أداء رسالتها.

ويجب على السلطة التأديبية عند توقيع العقوبة أن تضع في اعتبارها الإحاطة بمختلف الظروف التي وقع فيها الخطأ، والتي سهلت للموظف العام ارتكابه حتى يمكن إصلاح الخلل في الجهاز الإداري، وفق ما أوصت به المختصة.

تتخوف المختصة في التنمية الوظيفية من استمرار تدهور عمل المؤسسات الحكومية في ظل تدهور المساءلة والمحاسبة من قبل “سلطة سياسية غير قادرة على إتمام أي عمل إداري في أي مجال في الشأن العام”، ولا يمكن اعتبار هذا التخوف تخوفًا نظريًا مبالغًا فيه، بل يمثل خطرًا حقيقيًا على مسار الوظيفة العامة وعلى كامل إدارة شؤون الدولة في سوريا.

مرافق عامة مهملة من قبل الدولة في منطقة البرامكة في العاصمة دمشق- حزيران 2020 (عدسة شاب دمشقي)

English version of the article

مقالات متعلقة