“جوري”.. أنزور بن أنزور

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

في مهرجان “الدار البيضاء” السينمائي بدورته الماضية أواخر عام 2019، حاز فيلم قادم من سوريا الجائزة “الذهبية” كأفضل فيلم روائي قصير، ولم يكن غريبًا بالتأكيد أن يكون مخرجه ابن مخرج سوري معروف، وهو يزن أنزور بن نجدة أنزور أحد أشرس المخرجين المدافعين عن النظام السوري، بطريقة تتجاوز دفاع النظام السوري ذاته عن نفسه، لدرجة أن أفلامه كانت تتعرض للرقابة السورية خوفًا من اصطدامها مع الجمهور (الموالي منه بالطبع) بمبالغاتها غير المحسوبة.

لمهرجان “الدار البيضاء” كما لكثير من المهرجانات التي يصادف أن أغلبها في بلدان من المغرب العربي، توجُّهٌ واضح لتكريم السينما السورية بقطاعها العام الناطق بلسان النظام السوري في كل منتجاته، واستقبال وجوه سينمائية سورية تقليدية، ليتم من خلالها تكريم “صمود سوريا في وجه أعداء الإنسانية” عادة. لكن عادة أيضًا ما يتم على أقل تقدير انتقاء أفلام تحتوي أي مكوّن سينمائي غير رديء بالكامل، بمعنى أن تحتفي بممثل له تاريخه الفني المعروف، أو بمخرج ذي تجربة، أو بمدير تصوير لا يَخرُجُ بمشاهدَ رديئة على الأقل. لكن مع “جوري” أنزور، كان الاحتفاء واضحًا أنه يستهدف أي منتج قادم من سوريا، بغض النظر عن محتواه.

“جوري” واحد من الأفلام القصيرة التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما مؤخرًا، بل وبالغت بإنتاجها مقارنة بما هو معروف عنها من ضآلة إنتاج، وقلة إمكانيات، وفساد. لكن كان هناك توجه واضح لدعم السينما القصيرة، من خلال منحٍ لمخرجين شباب، كانت المؤسسة، حسب قولها، تهدف من خلال هذه المنح إلى إتاحة الفرصة للمواهب الجديدة، وفتح أبواب التجريب أمام سينمائيين جدد، وهو ما يبدو منطقيًا أمام تسخير ميزانية المؤسسة لإنتاج السينما الطويلة لمجموعة من الأسماء المعروفة، لا يمكن لتجربة شابة جديدة، سواء كانت موهوبة أم لا، أن تزاحمهم عليها، وبالتالي فلا مكان للسينما الجديدة عمليًا، إلا تلك الشرائط القصيرة القليلة التكلفة، والسهلة الإنتاج.

“جوري” هي طفلة سورية، تجوب في خراب حيّها الذي تم قصفه، واحتله المسلحون، وترى في هذا الخراب ذكرياتها، وخيالات عائلتها المحبة التي قتلها رصاص تلك العصابات، تجد زهورًا حمراء ضمن هذا الدمار، فتبتسم وتحملها، لتسدّ بها ثقوب الجدار الذي تنام خلفه، برمزية مفعمة بالاستهلاك، وصورة سينمائية أكل الزمان عليها وشرب.

بعيدًا عن تنقلات الطفلة في الخراب مع “الهاميستر” الذي كان والدها قد أهداها إياه في عيد ميلادها الأخير، لا شيء آخر في الفيلم الممتد على 25 دقيقة، سوى مشاهد مكمّلة لهذه الصورة التجارية، أُنتجت على ما يبدو بظروف إنتاجية تفوق الفيلم فقرًا، رغم أن الاستديوهات جاهزة، فقد هيأها الجيش السوري بمختلف أسلحته في داريا وغيرها من المناطق التي دمرها.

تهرب الأم بطفلتها حين ينتشر المسلحون في المكان، فتنظر إلى حفرة الصرف الصحي التي سوف تخبئ ابنتها بها، تجد بقربها الأداة المناسبة لفتح الغطاء، وكأن عامل البلدية قد غادر المكان قبل دقائق. أما احتفاء الأب والأم بعيد ميلاد الابنة، فيشي بعدم قدرة المؤسسة على استقدام ممثلين قادرين على تبني مشهد بسيط لا يتجاوز الدقيقتين، لتأتي ببير داغر الذي يبدو أنه اعتاد العمل في أفلام من هذا النوع، حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من ترهّلها.

مواجهة الطفلة للمسلح ذي اللحية الطويلة، هو ما كان منتظرًا منذ بداية الفيلم، حيث لا بد من “داعشٍ” ما ستظهر في أحد المشاهد، وهل يعقل أن يكون الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، ويحمل اسم أنزور بن أنزور، وينال جائزة في مهرجان مغاربي، دون أن يكون هناك مشهد لمقاتل “داعشي” ما، يحمل رمزية الفيلم ككل. المشهد جاوز التوقعات، بمقاتل طويل اللحية، يعض على شفته السفلى حين يرى الطفلة، كأي بطل في فيلم إباحي تقليدي شاهد بالمصادفة جارته تنشر الغسيل.

لكنّه يُقتل قبل أن يغتصب الطفلة، لسبب يعود إما لأن رسالة الفيلم هي قدرة الحياة على الاستمرار في ظل الخراب، وإما لأن الترميز للاغتصاب يتجاوز إمكانيات الفيلم الفنية، فيموت “الداعشي”، برصاص الأبطال الذي سيأتون في النهاية لإنقاذ الطفلة لا شك، فلا قيمة للفيلم، ولا لمخرجه، ولا لمؤسسة السينما كلها، إن لم نشهد رسالة ترمز إلى عودة الأبطال، الذين تتغنى فنون البلاد بمختلف تجلياتها منذ عشر سنوات بأحذيتهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة