قوقعة جلد الذات.. كيف يتعاطف الفرد مع نفسه بعد الأزمات

camera iconالشعور بجلد الذات المصحوب بالشعور بالعار - تعبيرية (freepik)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – صالح ملص

“كلما أتذكر أنني تركتُ أهلي في سوريا ورحلتُ إلى أوروبا، ينتابني شعور بتأنيب الضمير، عدا عن خسارتي دراستي الجامعية وخسارة سنوات من عمري من دون إنجاز أي شيء يُذكر”.

في عام 2013، حُرمت رنيم (28 عامًا) من إكمال دراستها الجامعية في كلّية الهندسة المعمارية بجامعة “دمشق”، بسبب تعرضها لمضايقات أمنية في أثناء ذهابها إلى كلّيتها، بسبب مشاركتها بالمظاهرات في بداية الثورة عام 2011.

قررت رنيم، التي طلبت عدم ذكر اسمها الكامل، ترك جامعتها خوفًا من اعتقالها أو تعرضها لأي أذى من قبل عناصر الأمن بالقرب من الحواجز الأمنية، ووفرت وقتها كله في البحث عن عمل تساند فيه أبويها في مصروف البيت.

“عام 2014 اشتغلتُ في جمعية خيرية معنية برعاية الأطفال بريف دمشق، مقابل أجر مادي قليل، ولكن تركتُ العمل بعد سبعة أشهر بسبب عدم حصولي على أي راتب خلال عملي هناك”، وفق ما قالته رنيم لعنب بلدي، قبل أن تختار في عام 2015 اللجوء إلى أوروبا، لأنه “لا يوجد أي مستقبل في الشام لشخص بعمري”، على الرغم من معارضة أهلها لذلك القرار.

“حاولتُ إقناع أمي وأبي باللجوء معي إلى أوروبا، ولكنهما لم يرغبا ببدء حياة جديدة وهما في سن كبيرة، ولم يتحملا فكرة اللجوء في هذا السن”، قالت رنيم.

حين وصلت إلى هولندا، أقامت في مخيم خاص باللاجئين الوافدين إلى هناك، خلال تلك الفترة شعرت الفتاة بتأنيب الضمير لأنها تركت والديها في دمشق لوحدهما، ملقية اللوم على نفسها بكل ما حدث معها بدمشق، “كل ذلك كان بسبب خروجي أنا بمظاهرات”.هخ

كفلت المعاهدات الدولية حق التظاهر السلمي، ما يُعتبر نشاطًا لا يستدعي لوم الشخص نفسه على المشاركة فيه، ولكن في البلدان غير الحرة، ، مثل سوريا، قد يسهم نشاط التظاهر السلمي في حال الاعتقال أو المضايقات الأمنية أو الاعتداءات بخلق أزمات نفسية عند الفرد، مثل الخوف والقلق، أو لوم النفس على خوض مثل هذه المغامرة.

في عام 2017، ساءت رعاية رنيم لنفسها بسبب سلسلة من الأحداث “المؤسفة” التي مرت بها في هولندا، فوالدها توفي بدمشق في نفس العام من دون أن تكون معه، وبقيت والدتها لوحدها هناك، لتغرق الفتاة في دوامة جلد الذات ولوم النفس.

“اليوم، عندما أنظر إلى الماضي أشعر بخيبة للخسارات التي عشتها، ولكن شعوري بالتصميم ليكون مسقبلي أفضل ينمو يومًا بعد يوم”، تصف رنيم شعورها بعد أن بدأت بعلاج نفسي مع مستشار نفسي عبر الإنترنت منذ عام 2019، لتتمرن على التعاطف مع نفسها وتلغي من مشاعرها حالة جلد الذات.

حالة شائعة

في 1 من آذار الحالي، شمل تقرير لـ”Syria Relief” 99% من النازحين داخليًا في إدلب شمال غربي سوريا، و74% من اللاجئين السوريين في لبنان، و76% من اللاجئين السوريين في تركيا، ضمن الفئات التي تعاني من “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD).

وذكر التقرير المعنوَن بـ”الدمار الذي لا يمكنك رؤيته“، أن 88% من المستجيبين للدراسة الاستقصائية الذين بلغوا 721 من مواقع مختلفة في إدلب (سوريا)، وسهل البقاع (لبنان)، واسطنبول وهاتاي وغازي عينتاب وكلّس (تركيا)، لديهم أعراض متوافقة مع “اضطراب ما بعد الصدمة”.

ومن العوامل التي أسهمت في تدهور الوضع النفسي لدى اللاجئين السوريين في لبنان، إلقاء اللوم عليهم لتفسير بعض الأزمات الموجودة هناك، مثل “سرقة الوظائف والأراضي وحتى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان”، وفق التقرير.

استطلاع رأي

يعاني سوريون من “اضطراب جلد الذات”، وفقًا لاستطلاع رأي أجرته عنب بلدي عبر صفحتها في “فيس بوك”، شارك فيه 440 مستخدمًا، إذ يعتقد 230 مستخدمًا من المصوّتين أن لديهم شعور القساوة على النفس المصحوب بالشعور بالعار والتوبيخ، بينما يملك 210 مستخدمين مهارة التعاطف مع ذاتهم.

اضطراب يعزل الفرد عن الحياة

ليُدرك الفرد ما مشكلة جلد الذات التي يعاني منها، عليه أن يفرق بين هذا المفهوم وبين مفهوم “اضطراب ما بعد الصدمة”، وفق ما أوضحته الاختصاصية النفسية الأردنية رزان عبيد، في حديث إلى عنب بلدي.

ويعتبر “اضطراب ما بعد الصدمة” حالة من الضيق النفسي الشديد نتيجة حدوث موقف قد يهدد حياة الفرد، مثل فقدان شخص عزيز أو مشاهدة حالة وفاة، أو العيش ضمن حالة حرب أو اعتداء أو كوارث بيئية أو الإصابة بمرض خطير، وغيرها من الحوادث غير المتوقعة، وفق الاختصاصية النفسية، في حين أن الأدوات المتاحة للشخص في وقت الحدث لمجابهته والتصدي له لا تكون كافية في معظم الحالات، ما يؤدي إلى أن يصاب الشخص باضطرابات نفسية وعاطفية، مثل الشعور بالغضب أو القلق أو الحزن أو لوم الذات والذنب.

ويعتبر جلد الذات شعورًا سلبيًا يظهر في أوقات الهزائم والإحباطات الشخصية، إذ يلوم الشخص ذاته ويوبخ نفسه على أخطائه أو قرارات اتخذها بشكل مستمر وغير صحي أو أحداث سيئة تعرض لها، ويعجز عن مسامحة نفسه أو التصالح مع ذاته بسببها، ما يقلل مستوى النجاحات في حياته اليومية ويتصدر الفشل المشهد، ويبدأ بالتقوقع على نفسه، والانغلاق عن رؤية الأمور بعين الصواب، بحسب ما أوضحته الاختصاصية النفسية.

وبذلك فإن جلد الذات ليس نتيجة للصدمة النفسية، ولكن السبب الرئيس هو الشعور السلبي الذي يأتي من رغبة الفرد في التغلب على الفشل بسبب أزمة أو حادث معيّن، مستخدمًا طريق الهروب من الفشل وليس مواجهته من خلال جلد الذات ولومها على التجربة السيئة، وبالتالي قد تكون الصدمة النفسية هي التي أسهمت بتفاقم هذا الوضع، ولكن ليست هي السبب الأساسي لحدوثه.

ويبدأ هذا الشعور المدمر للنفس بالنمو عندما ينشأ الطفل وسط ضغط شديد مارسته العائلة لدفعه نحو التفوق، الذي كثيرًا ما كان يظهر على هيئة إساءة عاطفية أو جسدية.

ويعتبر شعور جلد الذات اضطرابًا يجب علاجه، بحسب الاختصاصية النفسية، إذ يعود أحد أسبابه إلى عدم إدراك المريض مواطن قوته وضعفه، وضعف تواصله الاجتماعي، وعدم القدرة على مواجهة الأزمات، والشعور الدائم بالقلق والتوتر.

معاملة النفس بلطف في الأوقات العصيبة، والاهتمام بالمعاناة بطريقة واعية وخالية من الهوس، هما أفضل وسيلة للوصول إلى التوازن النفسي، كما يجب أن يدرك الفرد أن معاناته هي جزء من الحياة البشرية ككل، وليست مقتصرة عليه وحده.

كيف نتعاطف مع ذواتنا

التعاطف مع الذات، في أبسط صوره، يعني أن يتعامل الفرد مع ذاته بالقدر نفسه من اللطف والتفهم الذي قد يتعامل به مع محيطه الاجتماعي، مثل أقربائه أو أصدقائه أو زملائه في العمل، والأشخاص الذين يجدون صعوبة في تطبيق ذلك لا يفتقرون بالضرورة إلى التعاطف مع الآخرين، بل يضعون لأنفسهم معايير أعلى من تلك التي يتوقعونها من غيرهم.

ولا بد من أن ينظر الفرد إلى الحدث السيئ على أنه أمر طبيعي، ويجب أن يضع في ذهنه أن ما مضى من أخطاء أو قرارات أو تصرفات أخذت طابع التجارب السيئة، لا يمكن تغييره، وجلد الذات ولومها لن يغير شيئًا وإنما سيزيد من الشعور سوءًا، وفق ما أوصت به الاختصاصية النفسية.

وعلى الفرد إدراك أن جلد الذات لن يساعده على تحقيق أهدافه، بل سيعطله عن ذلك.

والأشخاص الذين يعانون من مشكلة جلد الذات، يقاومون فكرة التعاطف مع الذات، لقلقهم من تحولهم إلى أشخاص أنانيين أو ضعفاء.

وتطوير فكرة التعاطف مع الذات يسمح للأفراد بالتعرف إلى مشاعرهم الخاصة وتقبلها، بدلًا من تحدي أنفسهم بصفة مستمرة لتحقيق “الأفضل”.

وفكرة التعاطف مع الذات قد تكون بديلًا لسلوك جلد الذات المصحوب بالشعور بالعار والمسبب للإحباط، وفقورقة بحثية نشرتها عالمة النفس كريستين نيف من جامعة “تكساس” في مدينة أوستن الأمريكية عام 2003.

ونشرت عالمة النفس كريستين نيف تقييمًا لقياس مدى تعاطف الفرد مع ذاته وتمرين نفسه ذاتيًا على هذه الفكرة، إذ يُقيّم الفرد نفسه على مقياس يتدرج من واحد إلى خمسة عند كل تصرف من التصرفات الواردة فيه، والرقم واحد يعني “نادرًا جدًا”، والرقم خمسة “تقريبًا دائمًا”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة