إشكاليات قانونية تعرقل نزاهة القضاء في شمال شرقي سوريا

camera iconاجتماع المجلس العام في "الإدارة الذاتية"- 13 من كانون الأول 2020 (الإدارة الذاتية)

tag icon ع ع ع

نشر مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” كتابًا بحثيًا تناول تجربة “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، من خلال دراسة واقع الجهاز القضائي، طُرحت فيه مجموعة من التساؤلات حول بنية القضاء وهيكلية مؤسساته واختصاصاتها وآليات عملها، بالإضافة إلى المرجعيات القانونية التي تستند إليها، ومستوى فاعليتها.

ويعتقد الباحث ساشا العلو، الذي أعد الكتاب وأشرف عليه، أن الظروف السياسية والعسكرية حكمت الجغرافيا التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية”، فبروز الدراسات في الحقلين العسكري والسياسي لم يعطِ الفرصة الكافية لدراسة الطبيعة الحوكمية للمنطقة.

ومع انتقال سوريا إلى مرحلة ما بعد النزاع في المستقبل، سيكون من المهم فهم نماذج المؤسسات الإدارية المدنية والقضائية التي قامت في مختلف مناطق النزاع في سوريا، لحل الإشكاليات القانونية المتعلقة بحقوق الدولة السورية والمجتمع السوري، خلال سيطرة حكومات الأمر الواقع على تلك المناطق.

وبحسب الكتاب، على الرغم من مرور سبع سنوات على الإعلان الفعلي لـ”الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا عبر مؤسساتها وهيئاتها، لا يزال مستوى الحوكمة وطبيعة الإدارة داخل تلك المؤسسات والهيئات إشكاليًا.

في 21 من كانون الثاني عام 2014، أُسست “الإدارة الذاتية في إقليم الجزيرة”، لتتبعها “إدارات ذاتية ومدنية”، توحدت في 6 من أيلول عام 2018، تحت اسم “الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا”، حسبما أعلن “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، الذارع السياسية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

تعاقبت فصائل متعددة على حكم المنطقة، التي كانت الرقة أولى المحافظات التي خرجت فيها عن سيطرة النظام السوري، في آذار من عام 2013، ولم يتمكن أي منها أن يكون بديلًا حقيقيًا عن مؤسساته.

سيطرت “قسد” على مدينة الرقة، في 17 من تشرين الأول عام 2017، بعد معارك دامت 166 يومًا ضد التنظيم، بدعم من “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان يوفر الغطاء الجوي والدعم اللوجستي للقوات المقاتلة على الأرض.

وبعد تمكن “قسد” من إبعاد قوات التنظيم عن المنطقة، أُعلن قيام “الإدارة”، التي ذكر “مسد” أن الهدف منها هو “تشكيل هيكل إداري ينسق الخدمات بين المناطق، ولملء الفراغ الإداري والأمني”.

وتتضمن هيكلية “الإدارة” مجلسًا تنفيذيًا مشرفًا على عمل “إدارات مدنية ديمقراطية”، تتكون من “مجالس عامة وتشريعية” في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، بينما تعتبر “المجالس المدنية” للمنطقة بمثابة حكومات تدير الشؤون المحلية.

إشكاليات تُفقد الجهاز القضائي استقلاليته

وبحسب الكتاب البحثي، فإن هناك تفاوتًا واضحًا في مستوى البنية القضائية وتأهيل طاقمها البشري وتطبيق القانون، إذ تعد مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” في دير الزور هي الأسوأ من ناحية الواقع القضائي والبيئة القانونية.

ويوجد في محافظة دير الزور محكمة واحدة، كما أنها الأقل بعدد القضاة، والمحامون في المنطقة ممنوعون من الترافع أو وجود اتحاد يجمعهم، بالإضافة إلى عدم وجود مجلس عدالة أو أي أقسام مساعدة للقضاء كالطبابة الشرعية ومخابر التحليل الجنائي.

بالمقابل، تتفاوت بقية المناطق في تلك المتغيرات (منبج، الرقة، الحسكة، عين العرب) إلا أنها تشترك بالإشكاليات ذاتها التي يعانيها الجهاز القضائي، من ناحية السيطرة المطلقة للكوادر وانحسار الاستقلالية ونقص التأهيل للطواقم البشرية، بالوقت نفسه تنفرد كل من تلك المناطق بإشكاليات خاصة حسب المنطقة.

واستنتج البحث أن الجهاز القضائي في مختلف الأقاليم التي أعلنتها “الإدارة الذاتية” يكون حجم ومستوى السيطرة لكوادر حزب “العمال الكردستاني” داخل هذا الجهاز، وتصل إلى درجة الوصاية والإطباق على مختلف مؤسساته ومفاصله.

وهناك تحكم بالسلطة التنفيذية في المنطقة (المجلس التنفيذي) والسلطة التشريعية (المجلس العام)، حيث تسيطر كوادر حزب “العمال الكردستاني” من الأجانب غير السوريين على مختلف المؤسسات والمديريات والمجالس المتمثلة للسلطتين، ويتمتعون فيها بالصلاحيات ذاتها في الجهاز القضائي، ويشرفون عليها إداريًا وماليًا وأمنيًا.

وبالتالي فإن القضاء “لا يتمتع بالاستقلالية الكافية”، وفق البحث، من خلال تدخل الكوادر في القرار القضائي في حال كانت القضية تمس أي طرف محسوب عليهم أو على “الإدارة الذاتية”، أو في حال كانت المسألة ذات صلة في الدعاوى المدنية والجزائية، وقد تتدخل الكوادر في هذه القضايا أيضًا، في حال كانت تمس طرفًا على علاقة بهم، أو صاحب نفوذ ضمن مؤسسات “الإدارة الذاتية”، أو على علاقة مع بعض العناصر في الأجهزة الأمنية.

ويتم ذلك إما عبر تجاوز الحكم الصادر عن المحكمة، أو إلغائه، أو حرفه، أو حتى إغلاق الملف بشكل كامل، وفق البحث.

سوس الفساد ينخر بالمؤسسات

وبحسب الكتاب البحثي، فإن مختلف المناطق شمال شرقي سوريا محل الدراسة برزت فيها ظاهرة الفساد، التي لا تقتصر على الجهاز القضائي، وإنما تمتد إلى بعض المجالس المدنية والمؤسسات، حيث تكررت حالات متشابهة من الفساد الإداري بالمؤسسات نفسها ضمن مختلف المناطق، كمؤسسة “عوائل الشهداء”، والجمارك، والإدارات المالية، والمحروقات، بالإضافة إلى عناصر وقيادات من المؤسسة الأمنية والعسكرية.

في عام 2020، ذكرت “الإدارة الذاتية” في تقريرها السنوي الخاص بالمجلس التنفيذي أنها ضبطت 56 حالة فساد إداري، إلا أن هذه الحالات “تقتصر على موظفين بدرجات متدنية، بينما على مستوى أعلى لا يتم الضبط أو المحاسبة نتيجة لنفوذ بعضهم وارتباطه بالكوادر بشكل مباشر”، وفق المقابلات التي حصل عليها معد الكتاب البحثي.

وتوجد حالة من “احتكار اقتصادي” لبعض الشركات والمؤسسات الخاصة، التي تضطلع بمختلف المشاريع ضمن قطاعات عديدة خدمية وتنموية، ولكن “كل تلك الشركات والمؤسسات تتبع لأشخاص مرتبطين بحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)”، وفق البحث.

قضاء “غير مؤهل” لمكافحة الإرهاب

تعد قضية محاربة الإرهاب في منطقة شرق الفرات من أبرز القضايا المتراكمة في المنطقة، خصوصًا مع زيادة نشاط خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” في تلك المنطقة، بالإضافة إلى عوامل تزيد من تعقيد هذه القضية، منها الطبيعة العشائرية للمنطقة، والوضع الأمني والخدمي المتردي، وغيرها من آثار النزاع على المستوى الاجتماعي.

كل ذلك يجعل من التعاطي مع هذه القضية قضائيًا وقانونيًا أمرًا حساسًا وخطيرًا، ووفقًا للكتاب البحثي، فإن البنية القضائية بشكلها الحالي “لا تعد مؤهلة” لإدارة هذه القضية قانونيًا، سواء على مستوى الأقسام البدائية لمحكمة “الدفاع عن الشعب” (الإرهاب) أو الكفاءة والتأهيل للقضاة القائمين عليها.

إذ تشكل نسبة حملة شهادة الثانوية العامة من المعينين بصفة قضاة داخل المحكمة 74%، وفق البحث، بينما تشكل نسبة جملة إجازة الحقوق 26%، في حين لا يوجد أي قاضٍ متخصص.

كما أن هناك مستوى من عدم استقلالية القرار القضائي وحصر تلك القضايا المتعلقة بالإرهاب في محاكم استثنائية سرية، تشير تقارير لمنظمات دولية حقوقية إلى توظيفها ضد معارضي “الإدارة الذاتية”.

وتعد محكمة “الدفاع عن الشعب” (محكمة الإرهاب) إحدى مؤسسات العدالة الاجتماعية في أقاليم “الإدارة الذاتية”، وأُسّست في بداية عام 2014، بدعوى النظر في الجنايات المرتكبة بحق أبناء مناطق شمال شرقي سوريا.

وتعتمد المحكمة في مرجعيتها على “القوانين الدولية الخاصة بقضايا الإرهاب، بما فيها القانون السوري، إضافة إلى دراسة نماذج الدول المتقدمة التي أقرت محاكم إرهاب، واعتماد مواثيق حقوق الإنسان كمرجعية تستند إليها المحكمة في قوانينها وفي إدارة السجون التابعة لها”.

إلا أن هناك عدة انتقادات حقوقية وُجهت إلى آلية عمل محكمة “الدفاع عن الشعب”، أبرزها من منظمة العفو الدولية، التي ذكرت في تقريرها أن المحكمة لا تقبل المرافعة والدفاع عن المتهم، وهناك عدة اعتقالات لأشخاص بشكل تعسفي لفترات تصل إلى السنة دون تهمة أو محاكمة، وأن الإجراءات المتخذة بحقهم كانت جائرة على نحو صارخ، إذ تعرضوا للتعذيب، وحُرموا من حقوقهم في الاطلاع على الأدلة الموجهة ضدهم، والاتصال بمحامٍ وبعائلاتهم.

وذكر تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن هناك 43 ألف أجنبي من الرجال، والنساء، والأطفال المرتبطين بتنظيم “الدولة الإسلامية”، ما زالوا محتجزين بشكل غير قانوني في ظروف لا إنسانية من قبل السلطات الإقليمية في شمال شرقي سوريا، لم يتم تأمين محاكمة عادلة لهم، ما يُنذر بـ”خلق غوانتانامو جديد”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة