باسكال.. المتطوع المجهول

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

توفي قبل أيام باسكال في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ولم تتداول وكالات الأنباء خبر وفاته، ولكنه ترك حزنًا عميقًا لدى طلابه السوريين والعرب الذين كان يدرّسهم اللغة الفرنسية متطوعًا.

دُفن باسكال قرب مدينة ابينال الجبلية بحضور عدد من أصدقائه، وعدد من السوريين من جمعية “الزاس- سوريا” التي كان متطوعًا فيها لتعليم اللغة الفرنسية، قبل إصابته بفيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) مع اثنين من أعضاء الجمعية، ولكن جسده لم يحتمل الإصابة، ففارق الحياة عن عمر يقارب الـ63 كما يخمّن أصدقاؤه.

يأتي الزوار إلى الجمعية ويتحدثون عن سيرة باسكال، الرجل المخلص الذي ينتظر طلابه من اللاجئين السوريين والعرب بصمت وإصرار، رغم أنهم لا يأتون أحيانًا بسبب انشغالاتهم بالحياة الجديدة وبمتابعة الأوراق الرسمية التي لا تنتهي أبدًا.

تابعتُ سيرة باسكال بصفتي متطوعًا جديدًا في الجمعية، حيث يجب عليّ سماع الأحاديث والسير التي يتداولها السوريون الذين يترددون إلى الجمعية، وهم يعملون متطوعين لجمع الغذاء والدواء والأجهزة الطبية من أجل المصابين واللاجئين في سوريا، الذين تكفلت طائرات النظام وبراميله، بالإضافة إلى طائرات روسيا وميليشيات إيران، بتهجيرهم وتدمير بيوتهم.

في الجمعية عدد مهم من المتطوعين رغم أنها تبدو أحيانًا خالية ولا أحد يرتادها، ومثل كثير من الجمعيات، يأتيها الكثير من التبرعات من الفرنسيين والعرب والأتراك، وتأتيها أحيانًا بعض الاتهامات من هنا وهناك.

صرتُ أحضر دروس المعلمة المتطوعة بريجيت التي تعطي بإخلاص وتفانٍ، وتستمتع بإعطاء الدرس مهما كان جمهورها ومهما كانت الظروف المحيطة بها، مثل أن يدخل فجأة أحد المتبرعين بحقيبة من المواد الغذائية إلى قاعة الدرس، ويطلب أحدًا لتسلّم جهاز طبي مستعمل شُفي صاحبه، أو ربما توفي، أو من أجل تسلّم أدوية لم يعد يحتاج إليها أحد ويرغب بالتبرع بها، وعليّ الخروج من الدرس واستقبال المتبرع وهديته للمحتاجين في المخيمات السوريّة.

وبعد الدرس تسمع الأحاديث عن باسكال وعن سيرته التطوعية التي انتهت بمأساة أحزنت السوريين في ستراسبورغ، وخلال الاستماع تساعدهم على إعادة توزيع الأشياء في صناديق متعددة ريثما يتم شحنها بحاوية معدنية كبيرة كل شهر أو ما يقارب الشهر باتجاه سوريا.

في يوم التحميل، يأتي السوريون بأعداد معقولة ويعملون على تحميل المواد والأدوية، وتوضيبها في صناديق وتصنيفها من قبل “أبو وسام” الطبيب المتطوع في الجمعية، ضمن قوائم أو بجداول يحملها أحد السوريين القدامى، وهو يتكفل بتوثيق القوائم، وغيره يقوم بتصوير الأعمال وتوثيقها ضمن أجواء احتفالية تعبّر عن سعادة المتطوعين بفعل شيء ولو كان صغيرًا من أجل الأهل في سوريا.

وبعد التحميل، يتحدث الجيل القديم من السوريين عن تجربته مع ستراسبورغ وظروف لجوئه إلى فرنسا أيام الأسد الأب، الذي أسس هذا الخراب وهذا البؤس الذي يلحق بالسوريين، ويسلّمهم إلى المجهول ويسلّم بلادهم لقوى الاحتلال المختلفة.

أما الجيل الجديد من السوريين فيتحدث عن صعوبات اللغة والقوانين وتعقيداتها وظروف اللجوء، والمواعيد التي لا تنتهي مع الدوائر الرسمية الشغوفة بملء الاستمارات وبالمراجعات التي تتحول إلى ألغاز بسبب عدم إتقان اللغة الفرنسية.

في مستودع الجمعية، تتخيل الرجل المريض الذي ينتظر الكرسي الطبي الذي تنقله من ركن إلى ركن، أو تتخيل العائلة المحتاجة للمواد الغذائية في أثناء توضيبها في إحدى الكراتين الكثيرة، تتخيل مدى البؤس والعوز الذي لحق بالسوريين من جراء أعمال الإرهاب التي يمارسها نظام الأسد ضدهم، وتتحول ذكرياتك عن القصف إلى تخيلات واقعية وأنت ترفع كرتونة الغذاء إلى مكانها، وكأنك تودّعها وهي في الطريق إلى العائلة المحتاجة في أحد المخيمات البعيدة.

وفي أثناء شرب فنجان قهوة، يدور الحديث مجددًا عن باسكال وعن صبره، ويقول آخر عن باسكال أشياء عرفها عنه بشكل متناثر، مثل أنه كان يمتلك بيتًا كبيرًا قرب ابينال هجره ليعمل متطوعًا، وأنه ترك زوجته حاملًا وهي إحدى طالباته في دروس تعلم اللغة الفرنسية.

كثيرًا ما أتخيل باسكال، الذي لم أعرفه من قبل، بسبب سكني البعيد عن الجمعية وعدم إمكانية الالتحاق بدروسه، ولكنني دائمًا أتخيله كجندي مجهول يدافع عن قيمة نبيلة يحب دعمها وهي مساعدة اللاجئين، وتثبيت قدراتهم على استيعاب المجتمع المجهول بالنسبة إليهم، وعلى فهم ثقافته من أجل الاندماج في حياتهم، وفي عملهم، وعدم البقاء كأناس هامشيين غير قادرين على بناء حياتهم من جديد.

رحم الله باسكال الذي فقد حياته وهو يعمل متطوعًا، وخالص العزاء لعائلته الكريمة التي تحمّلت رحيله بكل صبر وصمت يستحقان الاحترام!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة