tag icon ع ع ع

صالح ملص | أمل رنتيسي | علي درويش

“في الساعة الثانية إلا ربعًا فجرًا، استيقظتُ أنا وعائلتي مرعوبين على أصوات قصف غريبة، وكانت حينها بدايات حصار الغوطة الشرقية، بدأنا نشعر بضيق في التنفس، جعل ضيق التنفس هذا أختي الكبيرة، التي كانت لديها خبرة بسيطة في التمريض، تدرك بأن تلك الصواريخ كانت محملة بالمواد الكيماوية”.

بهذه الكلمات تذكّر ضياء الدين الشامي (24 عامًا) حالة الخوف التي عاشتها عائلته يوم 21 من آب عام 2013 في منطقة زملكا بالغوطة الشرقية، حيث كان رد الفعل الأولي للعائلة هو أن يبدؤوا بوضع منشفة مبللة بالماء على أنوفهم، كي لا يختنقوا نتيجة انتشار غاز “السارين” في الأجواء.

اقترح أخ ضياء الدين الأكبر أن يصعدوا إلى أعلى طابق في البناء المؤلف من خمسة طوابق، لكن والدته لم تستطع أن تكمل الصعود إذ سقطت هي وأخته على الأرض، إذ أحكم “السارين” على أنفاسهم.

يصف ضياء المشهد لعنب بلدي فيقول، “وجدتُ أختي الصغيرة جالسة على درجات السلم وتصرخ (يا الله، ما عدت شفت)، كان صوتها مبحوحًا وبالكاد تحاول أن تصرخ، أختي الوسطى كانت على الأرض أيضًا ترتجف ويخرج الزبد من فمها، أخي الكبير كان يرتكي على الحائط لكنه سقط أيضًا، أما الصغير منهم فكان المرافق الدائم لأمي، وكان في هذه الأثناء يحضنها وهي مستلقية على الأرض”.

كان ضياء الناجي الوحيد من الهجوم وسط عائلته المكونة من سبعة أشخاص.

“أتتني قوة غريبة وأكملتُ الصعود إلى سطح البناء، وعندما وصلت كان قد أُغمي عليّ ولم أصحُ إلا بعد يومين، حيث استيقظت على كفوف الممرض بين الأموات وهو يقول لي (أنت عايش)”.

ظل ضياء فاقدًا للذاكرة حوالي الأسبوع بعد المجزرة، التي يصفها الآن بـ“اليوم الذي لا يُنسى”.

كان مجموع أقارب ضياء الذين توفوا 40 شخصًا بمن فيهم عائلته، واختتم ضياء كلامه لعنب بلدي “هذا قضاء وقدر، اللّي إله عمر ما بتهينه شدة”.

بعد ثماني سنوات على مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية، تناقش عنب بلدي في هذا الملف آليات العدالة المتاحة للضحايا من أجل محاسبة مرتكبي الهجمات الكيماوية في سوريا، والجدوى المحققة من محاكمتهم.

“كان المشهد مروعًا”

في ذلك اليوم، عاش المسعفون والممرضون حالة من الفوضى، وفق ما قاله الشاب قصي (28 عامًا)، الذي عمل حينها في مستشفى “الفاتح” بمنطقة كفر بطنا، إذ قال “بدأنا نسمع أصوات تفجيرات بعيدة، ثم تتالت سيارات الإسعاف بالوصول إلى المستشفى الذي كنتُ أعمل فيه، وطلبوا منا أن نجهز أنفسنا ونرتدي القفازات والكمامات بسبب إصابات كيماوي”.

زوجان سوريان يبكيان أمام جثث مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية- 21 من آب 2013 (AFP)

لم يكن لدى الطاقم الطبي في المستشفى أي خبرة في التعامل مع إصابات الكيماوي بشكل عام وغاز “السارين” بشكل خاص، حيث كانت “المعلومات طفيفة عن الكيماوي والغازات”، وفق ما قاله قصي لعنب بلدي، الذي تحفظ على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية.

وتابع قصي، “بدأ أمن المستشفى بتصنيف حالات الإصابات بين المستقرة التي كانت تُرسل إلى الإسعاف، والحالات الخطيرة إلى غرفة العمليات، وبعد حوالي نصف ساعة تقريبًا قال لي سائق سيارة الإسعاف، إن في منطقة زملكا إصابات كثيرة وأشخاصًا يسقطون على الأرض لا يوجد من يساعدهم”.

وأضاف، “ذهبتُ مع صديقي إلى المنطقة وأجلينا بعض المصابين، كانوا على الأرض داخل بيوتهم مختنقين، عجزنا عن إسعاف الجميع، كما وجدنا في أحد المنازل عائلة مكونة من أب وأم وطفلة ميتين نتيجة الاختناق، كان المشهد مروعًا، حملناهم وأجليناهم بسيارة الإسعاف، وذهبنا إلى المستشفى لنرسل سيارة إسعاف أُخرى”.

أُدخل قصي إلى العناية المشددة نتيجة تأثره بغاز “السارين”، كما توفي صديقه الممرض، حمزة، الذي كان يرافقه في أثناء عمليات الإسعاف.

تصف راما الحاج علي لعنب بلدي أكثر موقف حُفر في ذاكرتها يوم 21 من آب، عندما كانت مجتمعة مع عائلتها في ممر منزلها بمدينة عربين بعدما خرجوا منه لاشتداد القصف، فقالت “كانت أختي الصغيرة التي تبلغ من العمر أربع سنوات تحمل دميتها، وتقول لي (أريد قطعتين من القماش لي وللعبتي كي لا تموت)”.

كانت راما الحاج علي في سن الـ15 عامًا بالصف التاسع الإعدادي حين حصلت المجزرة، “كنت مستيقظة ليلًا للدراسة وأنا أسمع رشقات صواريخ متتالية، ثم بدأت رائحة واخزة بالانتشار، ولم أدرِ حينها ما الذي يحصل”.

علمت راما الحاج علي أن المنطقة استُهدفت بالكيماوي عند أذان الفجر، حيث خرج المؤذن وبدأ بالتكبير مع جملة “النظام ضرب كيماوي”.

“جمد جسدي، ولم أعرف ما الذي عليّ فعله، كونني لم أكن أدرك ما هو الكيماوي”، وفق ما قالته راما الحاج علي معبرة عن مشاعرها.

توفيت عمة راما وعائلة عمتها إثر استهدافهم بالكيماوي، كما توفي جدها بسبب القصف الذي كان متصاعدًا في نفس اليوم.

إلى المحاكمة سر

قيادات عسكرية في مواجهة العدالة

إثبات المسؤولية الجنائية التي يتحملها الضالعون في الهجوم الكيماوي يوم 21 من آب، يتطلب من الادعاء العام في أي محاكمة بشأن هذه القضية تقديم أدلة قوية على أن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، والقيادات العسكرية التابعة له قد قصدوا بالتحديد القضاء على أهالي الغوطة الشرقية من المدنيين.

وكونها جريمة جماعية سيلزم تقديم أدلة من أماكن متعددة للجريمة، ومن شأن هذه العوامل أن تطرح تحديًا أمام المنظمات الحقوقية.

وفي آذار الماضي، قدمت مجموعة من الناجين من الهجمات الكيماوية في سوريا و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” بدعم من “مبادرة عدالة” و”مبادرة الأرشيف السوري”، شكوى لفتح تحقيق جنائي في فرنسا حول هجمات الأسلحة الكيماوية في سوريا ومحاربة الإفلات من العقاب، حسب بيان أصدره المركز.

استند المركز الحقوقي حينها إلى “الولاية القضائية خارج الإقليم” لاستكمال تقديم شروط الشكوى الإجرائية، وبناء على ذلك، اجتاز المركز أصعب المراحل.

وتسلّم القضاة 491 دليلاً في فرنسا، تتضمن مجموعة كبيرة وحصرية من الصور والمقاطع المسجلة، التي توثق الهجمات بالأسلحة الكيماوية، وفق ما قاله مسؤول التقاضي في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، المعتصم كيلاني، في حديث إلى عنب بلدي، بالإضافة إلى خرائط تحدد بدقة مواقع الهجمات ومواقع سقوط القذائف، جُمعت ووُثقت من قبل فريق “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”، منذ آب 2013، حيث كان مقره في دوما في ذلك الحين.

وتختلف “الولاية القضائية خارج الإقليم” عن “الولاية القضائية العالمية” التي تستند إليها أغلب الدعاوى المقدمة للمحاكم الأوروبية لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في سوريا.

إذ تشير “الولاية القضائية خارج الإقليم” إلى سلطة الدولة في ولايتها القضائية على جريمة لم تُرتكب على أرضها، في حال كان أحد مواطنيها ارتكب تلك الجريمة الخطيرة، فسيكون لتلك الدولة الحق في محاكمته.

ويسمح هذا المبدأ للدولة بمحاكمة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم ضد مواطنيها، وقد تحقق ذلك في الشكوى المقدمة في فرنسا، لأن “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” مسجل في فرنسا منذ عام 2003، وكان لديه مكتب في غوطة دمشق الشرقية وقت حدوث مجزرة الكيماوي، وبالتالي يعتبر المركز ضحية فرنسية، وفق ما أوضحه كيلاني.

وأمضى فريق مشروع التقاضي الاستراتيجي في المركز الحقوقي أكثر من أربع سنوات في متابعة وتحليل الأدلة.

وتكمن أهمية الأدلة التي سُلّمت إلى قاضي التحقيق في فرنسا، بكونها تتضمن وثائق تتعلق بسلسلة القيادة العسكرية، إذ تحدد وبدقة الضالعين في إصدار الأوامر وتنفيذ الهجمات من أعلى السلسلة الهرمية للقيادة المتمثلة برئيس الجمهورية (القائد العام للجيش والقوات المسلحة)، وصولاً إلى أدنى الرتب المتصلة بهذه السلسلة، وفق ما أوضحه كيلاني.

وقد تضمنت الوثائق أسماء ورتب 246 ضابطًا من “الفرقة الرابعة” التي يرأسها اللواء ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، و94 ضابطًا من اللواء “155 صواريخ”، بالإضافة إلى 32 ضابطًا من “اللواء 106 حرس جمهوري”.

كما وُثق ارتباط مركز “الدراسات والبحوث العلمية” في الهجوم، مع رسم الهيكلية الإدارية الخاصة بسلسلة القيادة في المركز، إذ حُددت أسماء ورتب ووظائف 418 من العاملين فيه، من بينهم ضباط وأفراد وإداريون وفنيون، بما في ذلك دور المعهد “540” المسؤول عن وسائط تخزين الغازات السامة، لا سيما غاز “السارين” الذي استُخدم في الهجمات، وتدريب العسكريين على تجهيز الرؤوس الحربية به.

وعرض بحث أجراه مشروع “الأرشيف السوري” معلومات حول “مركز الدراسات والبحوث العلمية السوري” (SSRC) حيث يجري إنتاج الأسلحة الكيماوية السورية، بالإضافة إلى الهيكلية الإدارية المشرفة على تصنيع تلك الأسلحة.

كما تتضمن الأدلة المقدمة في فرنسا مجموعة واسعة من الشهادات المباشرة، وفق ما أوضحه كيلاني، بما في ذلك شهادات لـ61 من الشهود والناجين، من بينها شهادات لمنشقين عن القطع العسكرية المذكورة أعلاه، كان لهم الدور الكبير في المساعدة بتحديد المسؤولية الجنائية الفردية للجناة.

كل تلك المعلومات هي حاليًا لدى قضاة التحقيق المعنيين والمكلفين من مكتب الادعاء العام الفرنسي للتحقيق في الدعوى المقدمة إليهم، وفق ما أوضحه كيلاني، متوقعًا استصدار مذكرات جلب دولية بحق المشتبه بهم الرئيسين.

ويجيز القانون الجنائي الفرنسي للقضاء استصدار أحكام غيابية بحق المشتبه بهم الضالعين بتلك الانتهاكات.

وبناء على “الولاية القضائية العالمية”، قُدم في كل من ألمانيا والسويد ملف استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2013، وخان شيخون عام 2017، ويُنتظر حاليًا لدى مكتب الادعاء القرار في قبول الشكوى، وفق كيلاني، وسيتم تسليم الأدلة لهم خلال الفترة المقبلة، لدعم الملفات التي قُدمت لهم مسبقًا لقبول الشكوى والبدء بعملية التحقيق من قبل القضاة المختصين ووحدات جرائم الحرب في تلك الدول.

والأدلة الأكثر قيمة في التحقيقات هي الأدلة الأولية أو المباشرة، إذا كانت صحيحة، تؤكد حدث مجزرة الكيماوي، وتعتبر أقوال الشهود والضحايا التي يتم تسجيلها في المقابلات شكلًا من أشكال الأدلة المباشرة.

أما الأدلة غير المباشرة، والتي تميل لتأكيد وقوع الحدث، فهي أيضًا تشكّل نوعًا مهمًا من الأدلة، قد تثبت الأدلة غير المباشرة الأقوال المسجلة خلال المقابلات مع الشهود وتتقاطع معها، مثل السجلات الطبية التي يمكن أن تؤدي إلى استنتاج يؤكد المجزرة.

طفلة سورية تحمل قناع الأكسجين على وجه رضيع في مستشفى مؤقت بعد هجوم على بلدة دوما في غوطة دمشق الشرقية بغاز الكلور- 22 من كانون الثاني 2018 (AFP)

عدم تشويه الذاكرة

دور المناصرة في إحالة الجناة إلى المحاسبة

أطلقت مجموعة من الناشطين السوريين حملة “لا تخنقوا الحقيقة” في ذكرى هجوم كيماوي الغوطة الكبير في 21 من آب عام 2020، ومنذ العام الماضي حتى الآن، استمرت مطالب الحملة التي تهدف إلى مناهضة إنكار مجازر الكيماوي في سوريا.

العضو في فريق الحملة فادي الأمين، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن الحملة تقف في وجه الأكاذيب وتتصدى للنكران الذي يشيعه النظام السوري وحليفه الروسي كأداة لمحو ذاكرة المجازر الكيماوية وطمس الحقيقة.

كما تعمل الحملة على رفع الوعي لدى السوريين بشأن قضية استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، وعلى وإبقاء ذكرى المجازر الكيماوية في سوريا حاضرة دائمًا لدى السوريين والعالم، ما يسهم في اتخاذ الجميع دوره في العمل على تحقيق العدالة من حقوقيين وسياسيين، وشهود، وذوي ضحايا، وغيرهم.

ويرى الأمين أن مسار العدالة قد يكون طويلًا ومحبطًا أحيانًا على المدى القصير، إذ يحتاج إلى بناء تراكمي طويل الأمد.

والحملة هي ليست منظمة مجتمع مدني، إنما تضم فريقًا يعمل العديد من أعضائه بشكل متطوع.

“فعلى المستوى الفردي، يشارك البعض منا في حملات مناصرة أخرى وأعمال أخرى، ونحن في الحملة ننسق مع (الدفاع المدني السوري)، و(المركز السوري للإعلام وحرية التعبير)، و(سيريان كامبين)”، وفق ما قاله الأمين.

وتساعد هذه الحملة الأشخاص الذين فقدوا أفرادًا من عائلاتهم خلال المجزرة عبر الحفاظ على الرواية الحقيقية للأحداث، أي رواية الضحايا وذويهم، ومنع طمسها، ما يبعد عن الناجين شعور العزلة الذي يحبطهم ويمنعهم من الاستمرار في طريق تحقيق العدالة، وفق العضو في فريق الحملة فادي الأمين.

وصرّح أن “إيصال الجناة للمحاسبة ومنع تكرار هذه المجازر هما العزاء الوحيد الذي ربما يساعد ذوي الضحايا”.

كما تيسر الحملة جلسات توعية خاصة عبر الإنترنت، تستهدف الناشطين السوريين، يقدمها خبراء في قضية استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، كما تقوم بدعوة السوريين إلى إقامة أنشطة فيزيائية تسهم في إبقاء ذاكرة المجازر الكيماوية حاضرة، كما تسهم في إغناء المحتوى العلمي والفني المتعلق بالقضية.

شرح مدير قسم المناصرة والتواصل في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” والدبلوماسي السوري السابق داني البعاج، في حديث إلى عنب بلدي، دور المنظمات المعنية في مناصرتها ضحايا الكيماوي، وهي لا تختلف عن جهود المناصرة لبقية قضايا الانتهاكات في سوريا، التي تحاول بلا استثناء أن تحشد كل علاقاتها والبلدان الفاعلة في سوريا ومنظمات غير حكومية دولية لتأمين مسار محاسبة.

والهدف الأساسي والدائم، برأي البعاج، هو محاولة إحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية كي لا تتوزع الجهود على المحاكم المحلية بين دول العالم.

ولكن جهود إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية يصطدم بقرار سياسي دولي لدولتين كبيرتين بحجم روسيا وأمريكا، وفق ما يراه البعاج.

ففي 2014، استخدمت روسيا والصين حق “الفيتو” اعتراضًا على قرار لمجلس الأمن كان من شأنه منح المدعية هذه الولاية، الأمر الذي حال دون القيام بأي خطوات على طريق ضمان المحاسبة الحقيقية لحكومة النظام، في سوريا أو خارجها، ما أسهم في وقوع مزيد من الانتهاكات.

ولا تشجع أمريكا اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، كونها لا ترغب باتباع هذا الطريق في إدارة الملف السوري، وفق ما يراه البعاج.

والحل الأمثل للمحاسبة هو تحقيق العدالة الانتقالية على مستوى وطني داخل سوريا، لكنه غير متاح حاليًا، وفي هذه الحالة ستكون هناك أدوات مختلفة.

وجهود المناصرة الحالية تصب في أن يكون هناك مسار للمحاسبة من خلال المحاكم المحلية في كل الدول التي يمكن تقديم شكاوى داخلها.

لا خيارات أخرى

توثيق انتهاكات الكيماوي مستمر

ركزت جهات حقوقية سورية على توثيق ما حصل في 21 من آب، وذلك اعتمادًا على شهود العيان والمصابين وبيانات الضحايا.

تعتبر عملية توثيق الانتهاكات عملية مستمرة، وفق ما قاله الطبيب السوري محمد كتوب، الناشط في المجال الإنساني والعامل السابق في مجال المساعدات، في حديث إلى عنب بلدي.

وضحايا الهجمات الكيماوية ليست لديهم مسارات وخيارات متاحة، وبالتالي العمل الذي تقوم به المنظمات السورية والدولية المعنية في تقديم الشكاوى أمام القضاء الأوروبي باستخدام “الولاية القضائية العالمية” هو مسار المساءلة الوحيد المتاح حاليًا في ظل وجود عدة جهات حققت وما زالت تحقق في استخدام السلاح الكيماوي.

أنتجت هذه الجهات الحقوقية عشرات التقارير التي وجهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري بشكل مباشر.

وبالتالي، إذا أحال المدعي العام الملف إلى محكمة ما واستطاعت هذه المحكمة إدانة النظام السوري، فستكون المرة الأولى التي ينتقل فيها ملف استخدام السلاح الكيماوي من نطاق التحقيقات وتوجيه أصابع الاتهام إلى نطاق الإدانة.

كما أن هناك دفعًا باتجاه تعاون بين الأنظمة القضائية في ألمانيا، وفرنسا، والسويد التي قُدمت فيها الشكاوى، وهذا ضمن أصوات تطالب بإيجاد آلية دولية مشتركة للمحاسبة باعتبار أن جميع الطرق إلى محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية تعتبر صعبة الوصول جدًا، وفق ما أوضحه كتوب.

وبالطبع يبقى ذلك “دون العدالة المطلوبة”، وفق ما يراه كتوب، وخاصة أن هذه الأنظمة القضائية قد لا تطال المجرمين غير المقيمين على أراضيها، ولربما يقتصر الموضوع على استصدار بضع مذكرات توقيف تجاه عدد من الضباط والشخصيات الحكومية الضالعة في استخدام السلاح الكيماوي.

ومع ذلك، تبقى خطوات تقديم الشكاوى مهمة، ويرى كتوب أن كل الجهود من خلال مجلس الأمن لم تفضِ إلى أكثر من تحقيقات، وكل الجهود خارجه لم تفضِ إلا إلى عقوبات، وتجميد عضوية النظام في منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”.

 

هل تمنع الإدانات الدولية إعادة إنتاج الأسد سياسيًا

لعل استهداف النظام مناطق سيطرة المعارضة بالأسلحة الكيماوية، كان من أبرز الانتهاكات التي أدت إلى ضغط الدول الغربية ومجلس الأمن على النظام، خاصة بعد بدء ممثلي منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” عملهم على الأراضي السورية، وكشفهم عن عدة مناطق اُرتكبت فيها هجمات كيماوية.

إذ أثبتت تحقيقات المنظمة، في نيسان 2020، مسؤولية النظام عن قصف بغاز “السارين” و”الكلور” على اللطامنة بريف حماة عام 2017، التي كانت حينها تخضع لسيطرة المعارضة.

ثم فشل النظام في الامتثال لمهلة 90 يومًا من قبل الهيئة الحاكمة للمنظمة للإعلان عن الأسلحة المستخدمة في الهجمات والكشف عن مخزونها المتبقي.

كما أثبت تحقيق آخر للمنظمة تنفيذ النظام هجومًا بقنبلة الكلور على مدينة سراقب التي كانت المعارضة تسيطر عليها في عام 2018، إلا أن حكومة النظام لم تمتثل بالكامل لاتفاق 2013، الذي توسطت فيه أمريكا وروسيا بهدف التخلص من الأسلحة الكيماوية، حسبما أشارت نتائج لاحقة للمنظمة.

لكن لم تُتخذ إجراءات فعلية لمحاسبة النظام على عمليات القصف المثبتة، وهو ما يطرح تساؤلًا عن جدوى عمل منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” والدور الذي يمكن أن تلعبه بالتعاون مع الدول الغربية.

الأكاديمي السوري- الكندي فيصل عباس محمد الحاصل على دكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية من كندا، قال في حديث إلى عنب بلدي، “من الواضح أن مسألة جرائم الهجمات الكيماوية التي شنّها النظام لم تعد تتمتع بالأضواء التي تليق بأهميتها وخطورتها، ولكن جهود الخبراء المختصين في المنظمات التابعة للأمم المتحدة لا تزال قائمة”.

ويرى الدكتور فيصل عباس محمد أن وجود الأسد وأخيه ماهر في قفص الاتهام، ولو غيابيًا، “سيكون سببًا إضافيًا يدفع البلدان الأوروبية إلى الإحجام عن تقديم المساعدات المالية لإعادة إعمار سوريا، وسوف يعرقل جهود النظام اليائسة لتعويم نفسه”.

وأشار الدكتور فيصل إلى جهود رفع بعض ضحايا الهجمات الكيماوية من السوريين اللاجئين دعاوى قضائية في كل من فرنسا وألمانيا، وأظهر الجهاز القضائي (ممثَّلاً بالمدعي العام) في كلا البلدين اهتمامًا جديًا بمتابعة هذه الدعاوى، وأُنشئت محكمتان خاصتان لهذا الغرض واحدة فرنسية والأخرى ألمانية.

وقد لا تثمر كل هذه الجهود عن المزيد من الجهود الدولية في سياق إجماع عالمي على عزل النظام، حسب الدكتور فيصل، “فما إن تصل الأمور إلى مجلس الأمن حتى يأتي الفيتو الروسي والصيني لينسف جهودًا كهذه”.

و”لكن في نهاية المطاف سوف تجعل التطبيع مع النظام أمرًا يصعب تبريره أخلاقيًا وحقوقيًا ودبلوماسيًا، ولن تتردد الدول المعنية بالتصرف فُرادى للاستمرار في فرض طوق العزلة والعقوبات على النظام السوري”، وفق الدكتور فيصل.

المبعوثة الخاصة لنزع السلاح وعدم انتشاره، مارجولين فان ديلين، قالت عبر بيان من الاتحاد الأوروبي في نيسان الماضي، إن “المساءلة ضرورية لمنع عودة ظهور الأسلحة الكيماوية من قبل أي جهة، سواء كانت دولة أو جهة فاعلة من غير الدول، في أي مكان وفي أي وقت وتحت أي ظرف من الظروف، وهو ما يعد انتهاكًا للقانون الدولي، ويمكن أن يرقى إلى أخطر الجرائم ذات الاهتمام الدولي كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”.

وأشارت ديلين إلى أن وضوح بنود الاتفاقية من ناحية إمكانية تعليق أي من حقوق وامتيازات الدول الأطراف المعنية، بحسب ما تنص عليه المادة الـ“12″ من الاتفاقية، على النحو الذي أوصت به المفوضية الأوروبية في قرارها (EC-94 / DEC.2) المؤرخ في 9 من تموز 2020.

ورفض سوريا تصحيح الوضع لا يمكن ولا يجب أن يظل بلا إجابة، حسب ديلين، لذلك يعتبر الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه أن مشروع القرار بتعليق حقوق سوريا وامتيازاتها هو استجابة مناسبة من المؤتمر للانتهاك الواضح للمبادئ الأساسية للاتفاقية.

كما أكد بيان الاتحاد الأوروبي حينها على استعداده لاتخاذ مزيد من التدابير حسب الاقتضاء، ومواصلة العمل على الصعيدين الوطني والدولي لضمان مساءلة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، بعد تذكيره بالإجراءات التقييدية التي اتخذها ضد خمسة مسؤولين وعلماء سوريين رفيعي المستوى، وكيان واحد، لدورهم في تطوير واستخدام الأسلحة الكيماوية.

خبراء الأسلحة الكيماوية التابعون للأمم المتحدة يرتدون أقنعة واقية من الغازات ويتفقدون أحد مواقع هجوم بالسلاح الكيماوي في بلدة زملكا في غوطة دمشق الشرقية- 29 من آب 2013 (Reuters)

مقالات متعلقة