“ما تبقى لكم”.. بحث الإنسان عن البقايا لتعويض كبرى الخسارات

tag icon ع ع ع

يتبع الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، في روايته “ما تبقى لكم”، أسلوب “الخطف خلفًا”، أي البدء من الوقت الحاضر ثم العودة بالزمن إلى الأحداث السابقة التي تفسر وجود البطل في مكان وموقف ما، وتمنحه المبررات والذرائع التي تعطي لقراراته شرعيتها وعقلانيتها، أو عدمها.

ويبدأ سرد الأحداث من أحد المشاهد القاسية المتعبة في الرواية، والتي تضع القارئ في السياق العام، ليعرف أن ما يرويه كنفاني هو قصة فقدان وخسارة، وسعي منهك لتعويض تلك الخسارة أو تجميع البقايا لتعويض الضائع.

أول أبطال الرواية هو حامد، شاب فلسطيني يسلك طريق الصحراء سيرًا على الأقدام للوصول إلى الأردن، حيث تقيم والدته، التي فرّقه عنها الاحتلال ومجريات الأحداث في فلسطين.

ورغم قسوة الصحراء والشمس التي لا ملاذ منها، يواصل حامد سيره تاركًا خلفه أخته مريم التي تزوجت من زكريا، الشاب الذي يمقته حامد ويعتبره “نتنًا”، لا لأن زواج أخته من الشاب جاء درءًا للفضيحة بعد حمل الفتاة دون زواج، فنظرة حامد إلى زكريا جاءت قبل الزفاف وأسبابه، وما جاء بعدها لم يغيرها.

ويقسم كنفاني أبطال روايته إلى خمس شخصيات على الورق، هي حامد، وزكريا، ومريم، والساعة، والصحراء، وفي ذلك تأكيد على دور الأشياء وتأثيرها في الأبطال الآدميين، فالصحراء هنا مسرح الحدث الراهن، وفيها يختلي حامد بأفكاره وذكرياته عن بلاده وما ترك فيها من أشياء يضرب في عرض الأرض هربًا منها، إلى حضن الأم، في إشارة إلى البحث عن الراحة بعد سنوات طويلة من التعب، جعلها كنفاني 16 عامًا، وهي سنوات فراق الابن عن أمه.

ولا يتأخر كنفاني عن استخدام الضمير الذاتي في سرد الأحداث، بعد سرد بعضها بضمير الغائب أو الآخر الذي يستخدمه الكاتب ليصور شخصيات وأبطال عمله، كأنه يعود لينصّب نفسه متحدثًا باسم بطله حامد، ربما كون الخروج من البلاد والبحث عن تعويض قاسمًا مشتركًا يجمع كثيرًا من الفلسطينيين.

ومن بين الأبطال الخمسة، يبرز في صلب الرواية حضور الساعة كعنصر ذي كينونة، في إشارة إلى قيمة الوقت وتأثيره على المشكلات الشخصية وثقله أمام المعاناة.

كل ذلك وحامد يطوي الصحراء تحت قدميه على شرف الوصول إلى بلاد يرتاح فيها ويلتقي بوجه أمه، ليلاقي به ما فقده في وطن خريطته آخذة بالانكماش.

وخلال 90 صفحة، يقدّم الكاتب لقارئه لغة مشحونة بالغضب، باعتبار أن ما يجري مع البطل الرئيس والشخصيات المحيطة به، والسير في الصحراء، لا يسرّ النفس في الواقع، إلى جانب كون الرواية ذخيرة لغوية ساحرة تتمتع بسبك قوي وأصيل، وفي مكانه.

ولد غسان كنفاني في عكا عام 1936، وعاش كثيرًا من سنوات عمره القصير موزعًا حضوره على دمشق وبيروت والقاهرة، وموزعًا جهده بين العمل السياسي والأدبي، والحب كتجربة خالدة سطّرتها رسائله إلى الكاتبة السورية غادة السمان، التي أبصر بعضها النور ضمن كتاب “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان”.

وفي عام 1972، اغتال “الموساد” الإسرائيلي غسان كنفاني في شارع الحازمية بالعاصمة اللبنانية، بيروت، ليرحل تاركًا خلفه حضورًا لم تمحُه 49 عامًا من الغياب.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة